القاهرة 01 مايو 2018 الساعة 11:43 ص
كتبت : نضال ممدوح
"هل فهمت الآن الحكمة من كون عمر الإنسان لا يتجاوز الثمانين على الأغلب؟ لو عاش الإنسان مائتى عام لجن من فرط الحنين إلى أشياء لم يعد لها مكان". تري ما هي الأشياء التي لم يعد لها مكان? وغادرنا "العراب" من فرط حنينه إليها ؟ لن نبالغ إذ ما قلنا? أن الملايين من شباب العرب من المحيط للخليج? باتوا بقلوب مفطورة? ورصيد أخر من الشجن? هذه الليلة برحيل أبيهم الروحي أحمد خالد توفيق. فها هو جزء جديد من تاريخنا الشخصي يمضي. أجل فلدي كل منا تاريخ مشترك بينه وبين العراب? وما شغف المعرفة والقراءة إلا بفضله? بدأت رحلتنا مع الكتاب بأعداد مجلة ميكي وسمير? وفي مرحلة لاحقة تحديدا الإعدادية? طرق بابنا زائر جديد? يدعي دكتور نبيل فاروق? وما شكله من عوالم الخيال العلمي? وأبطالنا الأسطوريين الخارقين? وإن كان "أدهم صبري" بطل مرحلة الصبا. نتبادل الأعداد القديمة فيما بيننا? نسأل عن مصير"قدري" أو مني? وأين ذهب إبن أدهم صبري من عدوته اللدودة"سونيا جراهام" وكيف تزوجته من الأساس؟ ننتظر العدد الجديد خاصة إذ ما كان إستكمالا لعدد سابق. نتشاجر فيما بيينا من سيحظي بالقراءة الأولي من العدد الجديد? نتخاطفها وربما فاز بها من دفع ثمنها? الذي كان يقدر بما يوازي مصروف أسبوعين.
إلا أن مرحلة الثانوية حملت قليلا من التمرد علي بطل المخابرات المصري. صرنا أكثر نقاشا وجدلا: كيف لشخص أن يملك كل هذه القدرات مجتمعة؟! لكننا لم نسفه منه يوما? ولربما مازالت الفتيات يحلمن بفارس علي شاكلته. في هذه المرحلة يدخل العراب? من خلال سلسلة "ما وراء الطبيعة"? ويخطف أستاذ أمراض الدم المتقاعد? النحيف? الأصلع? بشاربه العتيق? الساخر? الملول? الدكتور "رفعت إسماعيل" العقول والقلوب. تصهلل ضحكاتنا حتي الفجر ونحن نعيد حتي قراءة عدد قديم? فما بالك بالأجدد. يشبهنا رفعت إسماعيل كثيرا? في سخريته ولا مبالاته من غريمه الآتي من خلف النجوم دكتور"فرانتز لوسيفر". حتي وهو يفتتح أيا من قصصه بوصيته:" لا تقرأوا هذه الصفحات
إلا نهارا وبين أحبائكم? إن الليل والوحدة يثيران الخيال? وأنا أعرف هذا جيدا لأني عانيت منهما? كما لم يعان أحد. ولهذا - ولهذا فقط- أوصيكم ألا تقرأوا هذه الأوراق وحدكم ليلا? انتظروا شمس النهار? ودفء الصحبة الآدمية. لقد نصحت وقد أعذر من أنذر.!! " لا تهلع أو تخاف بل يرتفع الأدرينالين في دمك فضولا? لمغامرته الجديدة.
ربما لا يحظي بطل روائي بشهرة? كشهرة الشيخ الفاني الثرثار رفعت إسماعيل? لا لشيئ سوي أن العراب نجح في رسم ملامحه بكل تفاصيلها? سواء عزوفه عن الزواج وحبه المحال لــ"ماجي" إبنة أستاذه الإنجليزي جيمس ماكيلوب? وتلك الجملة الخالدة التي صارت مصطلحا نردده كثيرا:" تقول ماجي لرفعت للأبد؟
للأبد ماذا؟ ستظل تحبني للأبد؟ وحتى تحترق النجوم وحتى تفنى العوالم? حتى تتصادم الكواكب وتذبل الشموس? وحتى ينطفئ القمر وتجف البِحار والأنهار? حتى أشيخ فتتآكل ذكرياتي? حتى يعجز لساني عن لفظ اسمك? حتى ينبض قلبي للمرة الأخيرة? فقط عند ذلك ربما أتوقف ..ربما ."
حقيقية "رفعت إسماعيل" تجبرك بلا وعي منك? أن تتعامل معها علي أنها كائن حي من لحم ودم? تبتسم فيما بينك وبين نفسك? وأنت تتأنق أمام المرآة? فتقفز علي لسانك جملته الأثيرة" بذلتي الكحلية التي تجعلني فاتنا"
ورغم موقفنا كعرب من إسرائيل? والخلط الشائع بين اليهودية والصهيونية? إلا أنك ستقع أسير لشخصية الساحر النصاب (المدهول) سام كولبي صديق رفعت الأمريكي اليهودي? المصاب بالبروستاتا? مما يجعله كل خمس دقائق داخل أو خارج من الحمام. تضحك من قلبك بصفاء وطفولية من المواقف والحوارات التي تجمعهما.ولا تنسي أبدا جملة رفعت:" أنها البروتستاتا كما تعرفون"
إلا أن الحظ الأكبر والأوفر في قلبك? بالطبع سيكون من نصيب? جار رفعت المذيع الشاب " شريف السعدني" مقدم برنامج (بعد منتصف الليل) الذي يعتمد على اتصالات المشاهدين لاستشارة رفعت في الأمور الخوارقية التي يتعرضون لها. كان أول ظهور له في أسطورة بعد منتصف الليل ثم في أسطورة الرقم المشئوم، وبعدها لم يظهر إلا في العدد السبعين من السلسلة، الحلقات المنسية.
أما "هن-تشو-كان" والذي يعني الزهرة الزرقاء? فهو آخر كهنة النافاراي الناجي من المذبحة التي تعرض لها كهنة النافاراي، والمرتحل إلى القرن العشرين عن طريق كتاب النافاراي المقدس: الشوكارا. دوما ما كان "هن تشو" يحذر رفعت من النساء? أو الإقتراب منهن? يراهن موضع ضعف وإغواء? حتي عندما يدق الحب بابه يوصده بعنف? حتي ولو علي حسابه.
بك أسعد، ولك قلبي يطرب" هل عرفتها? هل تذكرتها? ومن قال إنك قد تكون نسيتها؟! إنها التحية الأشهر التي يباغت بها دوما الدكتور فرانتز لوسيفر? صديقه اللدود الفاني رفعت إسماعيل? قارئ أوراق التاروت المنحدر من بوكوفينا بالمجر? يعبر برفعت إلي جانب النجوم? وهناك يستأنفان لعبة القط والفأر? فلا لوسيفر يتعب من مطاردة رفعت? ولا رفعت يستسلم له? بل كان هو الفاني والوحيد الذي عاد من جانب النجوم وهزم سادته." إبدأ السرد أيها الفاني ولتعلم إن الكذب خطيئتنا المفضلة? لكنها لاتمنحك فرصة النجاة لا أحد يكذب علي سادة النجوم.."
ــ رفعت إسماعيل يساعدك علي اجتياز آلام المخاض
كانت المرة الأولي التي أقابله فيها? منذ أربعة أعوام في بدايات عملي الصحفي? ذهبت وقتها لدار الأوبرا لتغطية إطلاق"أحمد مراد" روايته 1919 ? جاء ليدعم ويهنئ أحد أبنائه بنجاحه? وطوال الوقت يستقبل ضيوف مراد وكأنهم في بيته هو? لا تفارق الابتسامة الرائقة الوديعة وجهه? يداعب الجميع ويلتقط معهم الصور بأريحية شديدة? كان كأب يقف في زفاف ابنه ليقوم علي راحة ضيوفه والترحيب بهم حرفيا.
لم أصدق أنني أمامه وجها لوجه? ومن بين الكلمات المتدفقة المتلعثمة في آن? عاتبته لأنه أخذ قرار إنهاء حياة الدكتور رفعت إسماعيل? حدثته عن كيف أن رفعت هو البطل الوحيد? الذي مازلت أحمل كتبه من بيت والداي? لبيت الزوجية? بل راكمت الأعداد الجديدة وما فاتني من القديمة? وكأن هناك عقد غير مكتوب بين وبينه بأن أورثها لأولادي من بعدي? وكيف أن رفعت مازال بطل حياتي وليس صباي وشبابي فقط.
أخبرته أيضا كيف أن هوامشه البسيطة التي تذيل صفحات قصصه ( فانتازيا ــ ما وراء الطبيعة ــ سافاري) علي رغم بساطتها وإيجازها? كانت كالنار المقدسة? التي أهداها سيزيف للبشرية? كانت الدليل والمرشد للمعرفة في شتي مجالاتها. فعلي سبيل المثال لا الحصر? كانت المرة الأولي التي أعرف فيها? خلال قصته "ملك الذباب"? أن هناك أورطة من الجيش المصري? سافرت إلي المكسيك? بأمر من الخديوي محمد سعيد باشا? دعمًا للإمبراطور ماكسميليان الأول ـ المدعوم من فرنسا ـ ضد الثورة الوطنية التي قامت ضده. سافرت الأورطة سنة 1863 وعدد جنودها 453 وعادت في 8 يناير 1867 بعد أن فقدت 140 جنديًا، مات 46 منهم من المرض. فبحثت عن هذه الواقعة التاريخية? حتي وجدت أن "محمد حسنين هيكل" قد جاء علي ذكرها أيضا بالتفصيل في كتابه "من نيـويورك الى كابــول" فعرفت طريقي لهيكل.وأنا لم أزل بعد في المرحلة الثانوية.
وكيف أنني حتي بعد ما صرت زوجة? وفي ساعات تجربة الوضع الأولي? لم أجد ما يخفف عني آلام المخاض? سوي الدكتور رفعت إسماعيل? فكانت صراخات الآلم تمتزج بضحكاتي علي مواقفه وسخريته? من نفسه والجميع في آن واحد.
وربما حرارة حديثي وإنحيازي لرفعت? وإرتفاع نبرة اللوم في صوتي? جعلت جوابه يأتي مبتسرا? يعلم أنني لن أقتنع به عندما قال:" رفعت إسماعيل ملول بطبعه? خشي أن يمل قرائه منه? فآثر أن ينسحب وهو في عز ألقه ومجده" حييته علي وعد بلقاء في حوار صحفي لم يتم أبدا .
ـــ أحمد خالد توفيق vs نجيب محفوظ
رغم أنه أديب العرب الأوحد حتي الآن? الذي حصل علي جائزة نوبل في الآداب 1988 ? وبالطبع لا تستقيم المقارنة بينه وبين أحمد خالد توفيق من الأساس? إلا أننا إذ ما أحصينا? مبيعات الإثنين? لتفوق العراب الذي كانت روايات سلاسله المختلفة تتعدي المليون نسخة? للعدد الواحد من السلسلة الواحدة? علي طول المنطقة العربية بأسرها? ناهيك عن وسائل القراءة الغير تقليدية كالكتاب الإلكتروني? والمسموع? بل وإعادة تدوير هذه الكتب والروايات? من خلال إعادة بيع النسخ المستعملة? والتي نراها في سور الأزبكية? ومدي الإقبال الشديد عليها حتي الآن سواء في معرض الكتاب? أو علي فرشات الصحف والمجلات? أو ما كنا نفعله ونحن صغار بأن نعير هذه السلاسل لبعضنا البعض? وربما قرأ العدد الواحد ما لا يقل عن عشرين قارئ من بين الأصدقاء وزملاء الدراسة. وهو ما يمثل ظاهرة استثنائية في عادات القراءة بين القراء العرب تحديدا.
علي أن العشرات وربما المئات من هؤلاء القراء? الذين أستهوتهم قصص العراب وسلاسله خاصة? تلك التي ربما تحمل سمة الرعب أو مسحة منه? سرعان ما دخلوا طور الشباب? وراقت لديهم مسألة الكتابة? خاصة مع انتشار السوشيال ميديا? وتزامنها بظواهر الفلورز والشير واللايك. ولن نبالغ إذ ما قلنا بأن هناك المئات من كتاب ما يسمي بأدب الرعب? تربوا علي كتابات العرب? وحاولوا تقليده وإن جاءت محاولاتهم باهتة سقيمة? وتصل للتفاهة في أكثر الأحيان. فلا شخصيات لامعة لافتة حقيقية? تبقي معك وتستشهد بأقوالها? ولا حبكة تشويقية تخطف أنفاسك? ولا حتي تمكن من ألف باء كتابة أدبية من أساسه.
لفظت المطابع آلاف العناوين ما يجمعها? أنها بحسب مؤلفيها أدب / روايات رعب? لكن محتواها لا هو أدب ولا رواية ولا حتي رعب? عندما قلد القراء كاتبهم المفضل? تحولوا لمسوخ مبتذلة? لا ترتقي لأكثر من أنها تفريغ لمشاهد أفلام رعبة هيولوودية? بلا معني أو مضمون? غارقة فقط في الدماء? علي طريقة القص واللصق? حتي أنها عامرة بالأخطاء الإملائية والإسلوبية.