القاهرة 24 ابريل 2018 الساعة 09:35 ص
بقلم : د. هبة سعد الدين
من الصعب أن تقرأ رواية "العارف-رأس الإمام" للكاتب محمد سامى البوهى التى صدرت مؤخراً ؛ دون أن تستدعى روايته السابقة "الحلاج" التى تمثل بداية ثلاثيته الباحثة فى نورانية التصوف ،لذلك قد تشعر بعد انتهائك من "عارفه" أنك فى انتظار الثالثة ، فالعارف "فخار" أحاطت به "النار" لتنضجه وبداخله "ماء" لايرويه ولاسبيل لديه سوى السير حذراً فى طريق قد يبدو مستقيماً ؛ فقليل من الميل قد يطيح به نحو الغرق أو الاحتراق وكلاهما نهاية .
فتهويمات العارف فى رحلته بين بينه والأخرين ، والتى رصدها البوهى بمفردات سلسلة تسعى لرصد تلك الحالة حيث يمتزج السكون والتكرار وله المعرفة والإدراك ، ليتحول الرقص على أبواب قرطبة إلى ظل بعيد قريب يرواغ ويحتضن المَشاهد والأحداث المتكررة .
*فى انتظار الثالثة
لايمكن قراءة "عارف" البوهى بمعزل عن "حلاجه" فقد ترك كل منهما الأثر فى الآخر على الرغم من اختلافهما ، فعندما تختلط الأمكنة والأزمنة أمام الإدراك البشرى ؛ تتأرجح العلامات بصورة متتالية لتظهر دوائر التكرار والتشابهات بصورة مبتكرة قادرة على إيضاح واقع الأشياء فنرى متتاليات وكأنها تختزل لحظة واحدة ؛ لتختلط قرطبة ببيت القاضى حيث القرب من أحد مقرات رأس الإمام ، وتندمج نواحى القاهرة فى قونيه ، فترواغك الأبواب فى وصلها والكتاب فى سطوره والطائر فى وصوله الذى يخبرك بعض الأشياء ، فتحلق بين التجليات علك تصل.
لذلك تشعر فى توالى سطور العارف أنك لاتزال منتصف الطريق فتظل حائراً متسائلاً وكأن الإجابات التى لم يسألها تحيط بك فتخبرك أنه لايزال هناك الكثير الذى لم تخبره ، فكل سير له قواعده القادرة على سطر الطريق بما يناسبه ، وعندما احترق "العارف" بنيران أسئلة لم تُسأل ، وانجذب لبريق لم يُطفئه ماء التذكر ، عاد إلى "الحلاج" فأصاب هدوءاً ويقيناً واستسلم حتى سلم وآمن .
*لايسأل ولايرحل
بين التردد والسهو والميل والنسيان تراوغ لغة الرواية على الرغم من بساطتها ؛ فهى أداة مخادعة تصيبك بحيرة لاتمتلك معها أسئلة ، إنها حالة المنتصف التى لا تحمل الكثير من المفاجأت ؛ بل اختبارات أشد وطأة على القلب ، فالحيرة عادةً تصيب البدايات ولكنها لاتعود كما هى فى سيرنا ، وهذا ماأصاب "عارفنا" فى بعض الرحلة ؛ فازداد اضطرابه وتردده ؛ خاصة عندما واجه تكرار الأحداث والمواقف ووقع الكلمات ، ففقد بعض الشغف حتى ارتقى بين الأبواب وترك بطولة مسرحيته الزائفة والتفت لعرائسه التى يفرح بها الأطفال وتذكر الرسالة البيضاء ؛ فوجد طائره الذى يحلق ويسكن ويخبر ويختفى عائداً بالمزيد ليعود إليه اليقين .
والطائر الذى يعد مادة ثرية مابين القرآن الكريم وملامحه المتنوعة تبعاً للحضارة التى يمثلها ؛يأتى ليكون اتصالاً مابين السماء والأرض خيطاً يتصل ليفصل ويقترب ليبتعد ويأتى ليرحل تاركاً وراءه كافة الدلالات فقد يكون أتياً بالسر أو المسكوت عنه أو البُشرى وكذلك العلم العليم ليتم رسالة الهائم على الطريق .
*تكرار لايتكرر
على الرغم من اللازمان واللامكان الذى قد يصيب القارىء بالشك فى إدراكه ، إلا أنه يتحول معه إلى باحث عما وراءه ، فمتى سكن رأس الإمام وهل يكمل يحيى المسير وهل كانت ابنة عمران وهل فُتحت بالفعل الأبواب ولم سكن الطائر وهل يعود ؟ كل ذلك يسمح بالعديد من التأويلات التى بدورها تتحول إلى لبنة تضيف تكراراً بصورة مغايرة .
ف "يحيى" الذى أتى من قبل لعجوز ٍ بلغ من العمر عتياً ، يصبح ابناً لفاطمة ابنة "عمران" و أخاً ل"هارون" وابناً للعارف ، بل ستعود بهواك للتأمل كلما طالعت بين الصفحات "فاطمة" زوجةً للعارف !!
لذلك تشعر أن كل شيء يحيلك إلى دائرة لاتحمل بدايات أو نهايات فتدور كالرحى محاولاً الخروج ، لكنك ستدرك أنه يلزمك قلوب الطيبين .
تُرى هل تزداد صعوبات الطريق أثناء الرحلة أم أن مايسبقها أكثر قسوة ؟ تردد هذا السؤال على مدى قراءتى لرواية "العارف- رأس الإمام" التى تمثل مرحلة مختلفة ما بين السماء والأرض ولعل إجابته تأتى فى الرواية التالية لتكتمل ثلاثية محمد سامى البوهى الحلاج / العارف ، فلقد سار "عارفنا" بين الأسطورة والخيال وهبط نحو الواقع وعاد محلقاً للسماء فالتقى قلوب الطيبين التى وجدت فى الألم طوق النجا