القاهرة 17 ابريل 2018 الساعة 10:48 ص
شيماء الناصر:
بعد أن تشاهد فيلم"الموهوب" "gifted"
وتستمتع به – أؤكد لك أنك ستسترخي ولوأنت شخص عاطفي- مثلي- فالدراما في الفيلم مصنوعة جيدًا والتمثيل على مستوى عالٍ.
اهدأ قليلا ودع هذه الدموع التي ربما تنساب ذاتيًا من عينيك شفقة على الطفلة الصغيرة التي تحب خالها فرانك ولا تريد الابتعاد عنه فهو الذي رباها ويحبها قبل حتى أن يعرف أنها فتاة معجزة، فلنترك القصة جانبًا، والإخراج والتصوير الممتع والدراما الشيقة والحبكة الجميلة والموضوع برمته وحتى الفيلم، ولنأخذ كرسيًا ونسترخي لنتعرف على زاوية أخرى من زوايا يعرضها الفيلم وهي النماذج الثلاثة للعباقرة، ربما كانت العبقرية واحدة وهي صفات موهوبة للإنسان يطورها بإمكانياته.
لكن لسنا بصدد الحديث عن المراحل ولنذهب مباشرة للنتيجة، ما هي النتيجة التي تنتظرها من شخص موهوب، إن الفيلم يعرض لك ثلاثة أنواع من الأجيال التي تتسم بالعبقرية هي تستعرض الواقع بكل زواياه:
الجدة: وهي الصورة القديمة والتقليدية للعبقري الذي يتحول إلى آلة حاسبة، يفقد كل أو أغلب معاني إنسانيته ولا يرى في الحياة سوى العلم والمعادلات الرياضية أو حتى الفيزيائية أو غيرها على حسب نوع العلم الذي يتخصص فيه، لا تمثل حياته نموذجًا للنجاح العائلي أو الصفاء الأسري، وبالفعل هو يتحول لآلة، تضغط عليه هذه الآلية حتى في أقوى لحظات الحياة التي تتطلب الإنسانية، كما فعلت تلك الجدة حينما قبلت المساومة في الطفلة مقابل حل المعادلة واكتساب الشهرة بدلا من الحفيدة، مساومة غريبة للغاية، تبادل الإنسان بروحه وجسده بمعادلة رياضية، وخلف هذه الجملة الكثير من المعاني التي تسرد من أجلها حكايات.
الأم: ربما جيل الوسط الذي يخضع للضغوط والمساومات على حساب حياته، الأم التي تموت منتحرة تاركة ابنتها لأخيها، أرادت أن تعيش ذلك التوازن الطبيعي بين كونها عالمة وعبقرية وإنسان قبل كل شيء، تحب وتقضي أوقاتها مع الأصحاب والأصدقاء والحبيب، لديها كل الحرية والمساحة التي تستحقها كبشر قبل النظر إلى عقله، لكن الأم تكبت إنسانيتها في مقابل حل معادلة رياضية ومحاولة جعلها تسير في ترسانة الآلات القديمة وتتحول كآلة مثل أمها، فقط لا تعيش طفولتها، لا تأخذ أقل حقوقها في الحياة لمجرد عبقريتها، اللعب والتزلج وفي المراهقة الحب والحياة والزواج والإنجاب، الجدة تتخلى عن الأم لمجرد أنها عادت لها حامل، تبرأت منها، لأنها أخذت حقها في الحياة، والحب، والأمومة، وانتهت حياتها بالانتحار، هي لم تستطع التأرجح بين الإنسانية والآلية، اختارت أن تموت، بعد أن اشترطت على أخيها، أن يرعى الفتاة الصغيرة- الحفيدة- وألا يدعها تفقد إنسانيتها لأي سبب رياضي أو علمي.
الحفيدة: النموذج الثالث وهو الجيل الذي يستطيع الموازنة بين عالمي الآلة والإنسان ربما كان الحظ هو الذي ساعدها، لكن دعنا من المراحل ولنستمر في الحديث عن النتائج، هي تستطيع أن تمارس عبقريتها كطفلة في السابعة موهوبة بشكل معجز في الرياضيات، تدخل الصف الجامعي الذي فيه كل المحيطين من الشباب الذي يكبرونها بعشر سنوات أو أكثر، وهي طفلة بين هؤلاء تتلقى التعليم المتطور حتى تنتهي المحاضرة ويكون في انتظارها الخال- فرانك- ليأخذها لحديقة المدرسة الابتدائية لتستكمل لعبها مع أندادها، تعيش الحياة المنوط بها عيشها، تتنفس روح العالم وتعيش تفاصيله من لعب وصداقة وشجار وتعاملات مختلفة مع البشر، لا تعيقها موهبتها الخارقة وتجعلها ربما تلقى مصير أمها، أو جدتها..
ربما نحن في العالم العربي لا ننتبه كثيرًا لحقوق الطفل في الحياة الطبيعية سواء كان عبقريًا أم لا، لكن في الدول المتقدمة هناك تركيز في ذلك النوع من القضايا، والسينما مرآة المجتمع، هي انعكاس بالصوت والصورة والدراما والأحداث لعقول وفكر المجتمع.
البعد الإنساني العالي في الفيلم الذي تعكسه شخصية الخال، الصراع المرير بين أجيال ثلاثة من العباقرة (الجدة- الأم وانتحارها لم يكن عائق لأنها تركت وصية للخال- الحفيدة) أنت في كل مرحلة من مراحل الصراع ستجد نفسك مضطرًا – لو أنك عاطفي- للميل ناحية الجيل الثالث، ربما لو كانت نظرتك واقعية صارمة أو – انجليزية للنخاع- كالجدة سترى أن كل ذلك هراء وأن عليها أن تفعل أي شيء مع الطفل العبقري الموهوب حتى ولو على حساب حياته وكونه في الآخر إنسان لا أكثر.
صحيح أن هنالك كلام من نوعية: احتياج الإنسانية للعالم، وأن العلم أكبر من أي شيء، لكن هل تفكيرك في الإنسانية لا يدعوك ولو لمرة واحدة للتفكير في واحدها( الإنسان)، ربما يستطيع الخال فرانك ومعه ابنة أخته ماري فيالإجابة على هذا السؤال.
الطرح الرائع للقضية من خلال موجات من الأخذ والجذب بين الدراما الراقية والفكاهة المريرة نوعًا ما، سيستمر الفيلم إلى آخر ثانية فيه ممتع، إنساني، راقي، أداء الممثلين في منتهى الجمال، حتى إنك ستعشق الفتاة الصغيرة- ماري- وستكره جدًا الجدة –إيفيلن- ستكره قسوتها وآليتها المفرطة، وستتعاطف جدًا مع الخال والأم، جيل الوسط المطحون ما بين عالمين.
ربما تظل تفكر فيه أيامًا بعد ذلك، أو تنساه بعد سويعات أو دقائق، لكن سيظل بداخلك إحساس ما ناحية كل طفل تراه في المدرسة، أو الحضانة أو أي مكان تعليمي لا يمنح الطفل حقه في اللعب والحياة، العبقرية ليست معناها النضج، الأيام وتجارب الحياة فقط هي ما تمنحك النضج حتى لو كنت عبقريًا، لأنها ببساطة مسألة عقلية وآلية، لكن كونك إنسان تحتاج لأكثر مما تحتاج له "آلة".