القاهرة 04 ابريل 2018 الساعة 03:07 ص
د. هويدا صالح
حينما التقيت به لأول مرة كان في فعاليات معرض الشارقة الدولي للكتاب. كنت على المنصة أتحدث عن أدب "الطفل والناشئة"، وكان يجلس أمامي ضمن الجمهور، لم أكن أعرفه، لكن ملامحه تشي أنه مصري. لم يتداخل مع ما تم طرحه على المنصة، لكنه كان ينصت باهتمام شديد، وأثناء الغداء في الفندق استأذن؛ ليجلس معي على نفس الطاولة. رحبت به وعرفني بنفسه، فسعدت جدا به وتعجبت من شدة خجله وتواضعه، وهو يستعرض أمامي كتاباته، قلت له يا أستاذ أحمد أنا أعرف اسمك وكتاباتك جيدا، وإن كنت لم التق بك قبلا، وأنت بالنسبة لي ضوء كاشف على إعادة الشباب للقراءة، فابتسم في خجل وقال، لكن مثلكم يرى أنني كاتب للمراهقين، فقلت له لا أعر بمن تقصد بمثلنا، لكن لا يهم ما نعتقد، المهم أنك أنت ومن مثلك يكتب كتابات للناشئة والشباب تصنعون لنا قاعدة قرائية محترمة وواسعة، وعلينا نحن، الذين تقصدهم بقولك "مثلكم " أن نستثمر هذه القاعدة ولا نجعلها تتسرب من بين أيدينا، وجميعنا ـ نحن الكتاب ـ بما فيهم أنت في مركب واحدة، ونستهدف جمهورا واحدا متعدد الأعمار، فلا يجب أبدا أن نقول نحن وأنتم، بل نحن جميعا كتاب نهدف إلى أن نوصّل لقارئ افتراضي، أيا كان عمره أو زمنه أو مكانه، كتابة تعبر عن رؤيتنا للعالم وهواجسنا وقلقنا، ونقيم جسر تواصل مع هذا القارئ الافتراضي، ربما لا نجده في حياتنا الواقعية.
طال بنا الحديث، وظللنا نتواد ونتبادل الأحاديث طوال أيام المعرض، بل وتبادلنا أرقام الهواتف على أمل التواصل حين نعود إلى الوطن، وأخذتنا زحمة الحياة، فلم يتواصل ولم أتواصل.
لكنني كنت أتابع شعبيته التي تنمو وتزداد، وأتذكر قوله "أنني أصنع لكم قارئا عليكم أنتم كتاب الأدب استثماره"، وحينما يأتي ذكره في حديث لبعض المثقفين ويصفونه بأنه كاتب تافه، كنت أغضب، وأدافع عن الفكرة، ليس هناك كاتبا تافها، بل هناك كتابة تتوجه لفئة عمرية بعينها، وهذه الكتابة تُحتًرم، وإلا بما نفسر هذا الوجود الطاغي لسلسة كتابات هاري بوتر التي تستهدف تقريبا نفس الفئة العمرية، وبما نفسر توجه كاتب مثل دان براون إلى مثل هذه الكتابة التي تعتمد على الإثارة والتشويق ويحملها الكثير من المعرفة والتاريخ والعلوم والجغرافيا وغيرها من المعارف؟.
إن القارئ في تلك الفئة العمرية الشابة وصل إلى مرحلة من الملل، فبحث عن كتابات تكون فيها الفانتازيا عالية والماوراء الطبيعة طاغيا، لتشبع رغبته ربما في المعرفة المختلفة التي لا تخضع لصرامة المنطق العقلي والعلمي.
بحث ذلك القارئ الافتراضي عن نوع جديد من الكتابات تملأ فراغا خلقه الواقع الذي أقصى هذه الشاب واستبعده، فلجأ الشباب لقراءات مغايرة ومختلفة، تعوضه عن استبعاده من الحياة السياسية والاجتماعية بقصد أو بدون قصد.
منذ أمس والمعارك والجدل دائرين حول وفاته، وازداد الجدل بهذه الجنازة المهيبة التي التف فيها الشباب، الشباب الذي بدأ قراءته بكتابات أحمد خالد توفيق، وربما اتخذ طريقا مغايرا تماما حينما نضج وتمرس في القراءة، لكنه ظل يحمل لكاتب، قدم له جرعة فنية وجمالية مغايرة للسائد والنمطي، ظل يحمل له الكثير من الوفاء والانتماء.
إن مشهد الجنازة يُفرٍح في مقام يجب أن نشعر بالحزن لرحيل إنسان، بغض النظر عن وضعيته ككاتب، لكن ما يحير العقل ويثير التساؤل فعلا، لماذا يشتد العراك على السوشيال ميديا حول حياة الرجل ومواقفه السياسية، رغم أنه لم يكن لديه موقفا سياسيا أو إيدلوجيا صارخا؟ لماذا لا نحترم مقام الموت وجلاله ولا نفتش ونتلصص على كتاباته، لنستخرج منها رؤية أو وجهة نظر مفارقة للسائد؟
هل إطلاق الأحكام السخيفة عن إنه "إخوان" سيمحو تأثيره في فئات عمرية كبيرة من الشباب العربي وليس المصري وحده؟ إلى متى سنظل نعاني من الاستقطاب والإقصاء السياسي ولا نحترم حتى جلال الموت؟
لا أعتقد أن إطلاق حكم نقدي حول كتابات الرجل أنها " بوب آرت" ويقصد بها كتابات شعبية تجارية إهانة أو تقليلا من قيمتها، فما بعد الحداثة لا تقلل من شأن البوب آرت الموجود عبر العالم، بل تجده وجها من أوجه التعبير الأدبي يتوازى مع أدب النخبة أو الأدب بصيغه الجمالية الكلاسيكية.
إن ما بعد الحداثة التي جاءت من مجال العمارة وقبلت أن تتواجد التكوينات المعمارية المختلفة في بناء واحد دون أن ينتقص هذا من جمالياته تقبل أيضا وجود أدب النخبة بشعره ونثره وجمهوره النخبوي في تواز وتجاور مع البوب آرت وجمهوره الشعبوي.
إن البوب آرت استطاع أن يستقطب جماهير خارج دوائر الثقافة التقليدية، وهذه الجماهير أصبح لها صوت. منحتها الثورات الجديدة، سواء الثورات السياسية، وما حدث في الربيع العربي أنموذجا، أو الثورات التقنية، ووسائل التواصل الاجتماعي التي منحتها فرصا كبرى في التعبير، أصبح لهذه الجماهير صوت ورأي ولا يمكن تجاهله أو إقصائه أو إنكاره، لذا لا داعي لنرجم الرجل الذي هو بين يدي الله الآن، ونتهمه بتهم سياسية ليست له، ولم يعلنها يوما، لا داعي لكل ذلك لمجرد أن الشباب أعلن حزنه على موته ورحيله المفاجئ.
لكن على الجانب الآخر، لا داعي أيضا لأسطرة الرجل وتأليهه، فهو كان شديد التواضع، عارفا لقيمه نفسه، حتى أنه رفض وصفه بأنه " عراب" الشباب، لما في هذا المصطلح من قدسية وتعظيم وجد في نفسه أنه لا يستحقه، فلا داعي لهذا التشنج وتصفية الحسابات بين الفرقاء السياسيين وتتخذون من الرجل تكأة لسب بعضكم بعضا، بل لسب الرجل الذي لو سُئل في هذا الأمر لابتسم في خجل وتواضع وقال إنني لا أستحق كل هذا العراك فاهدأوا وجدوا مساحات للتواصل بدلا من كل هذه المساحات التي تفرق ولا تجمع.