القاهرة 27 مارس 2018 الساعة 09:06 ص
جيلان صلاح الدين
المرأة مفعولاً به في منظور الرجل
والرجل مفعولاً به في منظور المرأة
(دراسة جندرية لحامل النظرة على الشاشة)
المرأة والرجل وجهان لعملة واحدة، ولكن، مع تغير مفهوم الجندر ليتسع ويشتمل ماهية النوع الجنسي نفسه، أصبح من الضرورة مشاهدة كيف يرى الرجل المرأة، وكيف ترى هي الرجل كانعكاسين لمواضيع شائكة مثل الجسد، والجنسانية، والانتهاك الجنسي، والاعتداء الجنسي وغيرها.
المرأة جسداً في منظور الرجل الصانع محمد خان
في فيلم "قبل زحمة الصيف"، مشهد القبلة على البحر، يلخص كل ما يريد محمد خان أن يقوله عن الشخصية المصرية خاصة جانب التلصص الذكوري.
في كتابه مخرج على الطريق، يتحدث المخرج الراحل في مقال بعنوان "سحر الكاميرا ومصائبها" عن فن إفساد اللقطات الخارجية في الشوارع والذي برع فيه المصريون بصورة كبيرة.
خان، الذي درس المصريين جيداً من خلال تصويره لمشاهد كثيرة خارجية، وإهداره الكثير من الأموال على لقطات خارجية تم إفسادها عمداً من مارة دخلوا الكادر لا لشيء فقط ليفسدوه، استطاع استنطاق هذه الطبيعة المصرية من خلال مشهد واحد في "قبل زحمة الصيف"، قبلة الزوجين الأجنبيين على شاطئ القرية السياحية المنعزلة، مع ازدياد قبلتهما حرارة وطولاً، نجد أمامنا ردود أفعال مختلفة من كل الشخصيات الرئيسية في الفيلم؛ هالة تراقب الزوجين في شبق ممزوج ببعض من الحسرة، هي تتمنى لو تكون مكانهما ولو أنها لا تملك الجرأة لذلك، بينما الجار المتلصص يحيى الذي يشاهدهما منتشياً، ضاحكاً ربما للجرأة التي يتمتعون بها وربما لشيء خارج الكدر، لا تعلمه سوى الشخصية، يتصل فوراً بجمعة الشاب الصعيدي الذي يعمل بالقرية ليفسد عليهما ما يفعلانه فهي عادة
مصرية أصيلة، في إفساد ما لا يستطيع المصري أن يفعله في العلن، وباستخدامه لإحدى شخصياته الذكورية الرئيسية، يترك خان يتلصص سواء على جارته المثيرة، أو على الفتيات عارضات الأزياء عبر الإنترنت، فيجد متعته التامة في مشاهدة النساء الجميلات يخفقن، يضحك كثيراً لوقوع العارضات على المسرح، ويبتسم لأن جمعة أفسد اللقاء الحميمي ما بين الزوجين الأجنبيين على الشاطئ، متوارياً بالطبع خلف جدار الحشمة والحفاظ على الحياء العام، بينما هالة الجارة المثيرة ليست أحسن منه حالاً، فما تفعله في غرفة نومها، تعرف جيداً أنه متوار خلف الجدران، وهي علاقتها بالممثل المغمور هشام، ومع هذا تتمنى لو كانت لها تلك الجرأة على الحقيقة، ولا تجد في نفسها القدرة للإمساك بلحظة شغف، على الرغم من أنها مشبعة جنسياً مع حبيبها الممثل، والذي يبدو جيداً أن تمثيليتهما المتوارية وراء الجدار، ما هي إلا محاولة منهما للإمساك بلحظات لا يقدران قيمتها، ولا يستطيعون الإجهار بها على الشاطئ. بل إن حتى الزوجة التي تحاول ممارسة التأمل واليوجا، للتغلب على شعورها بالإحباط من عدم قدرتها إشباع زوجها جنسياً، تواجه جمعة
في حسم هي الأخرى وتسأله كيف تصرف في أمر الأجنبيين خادشي الحياء، وكأنما الكل يتشارك بتعاسته في إفساد سعادة آخرين غير محملين
بموروثاته المكبِلة لمشاعره ورغباته.
التلصص الأنثوي مهنة محببة، لم يتم التعامل معها بما يجب سينمائياً حتى ما بعد موجة الفيمينزم الثالثة. وفي "موعد على العشاء"، يضع محمد خان بطلته نوال تحت نظرة متفحصة، لاجنسانية، فهي عدسة عين الطائر، التي تنظر عليها من عل، وأحياناً يضع نوال نفسها في مستوى عين الرب، تنظر للأشياء والبشر بعدسة عين الطائر هي الأخرى، تلاعب بالنظرة فإذا بها نوال أحياناً، وأحياناً ما هو أكبر من نوال ومنظورها لما حولها.
حصار المرأة في منظور الرجل الصانع يسري نصر الله
في "إحكي يا شهرزاد"، يضع يسري نصر الله بطلته في موقف شديد العموم، وشديد الخصوصية في آن واحد. نفس صورة الحمل الأسود الوحيد بين قطعان الحملان البيضاء، نجد بطلتنا هبة، القوية الواثقة من نفسها، وقد تلاشت تلك الثقة في مواجهة جموع النساء في المترو اللاتي يشبهن بعضهن البعض، كلهن يغطين شعورهن وأحياناً وجوههن، ونظراتهن لها تمتلئ بالاستنكار والحقد، حتى أنها تحت حدة النظرات، تأخذ غطاء الرأس من الفتاة
التي تود دراسة حالتها –الجميلة الفقيرة سلمى حايك– وكأنما طوق نجاة تستنجد به.
في الفيلم أكثر من مشهد يصور حصار المرأة، ومحاولتها فك هذا الحصار؛ الدكتورة التي تحاصر من قبل رجال الأمن المركزي، وصفاء التي تُحاصر برجولة سعيد الخفيف في المخزن، وهبة المحاصرة ببحر الحجاب والنقاب، مما يذكرنا بحصار نوال "موعد على العشاء" وراء بحر من الرجال في الأسانسير، ومحاولتها فك الحصار، لكن على عكس نوال، فإن نساء "إحكي يا شهرزاد" لا يقاومن، بل يستسلمن، هبة ترضخ وترتدي الحجاب طالما أنها مجرد بوابة تلج منها لعالم آخر، عالمة جيداً أنها ستعود لعالمها الذي تسير فيه حاسرة الوجه والكتفين، والدكتورة يتم القبض عليها، وصفاء تستسلم لغواية سعيد الخفيف؛ لكن نوال تكافح للخروج إلى عالمها الذي لا تعرفه هي أصلاً، ليس لها عالم من أساسه لتهرب منه أو إليه، فهي قد عاشت حيوات أخرى طبقاً لمن أحكم قبضته على مسار حياتها؛ الأم ثم الزوج ثم نفسها في نهاية الأمر.
الرجل في منظور المرأة الصانعة: مريم ناعوم نموذجاً
وعلى صعيد آخر، من منظور الدراما في تجارب مثل مسلسلي "ذات" و"سجن النسا"، إضافة إلى مسلسلات أجنبية مثل Transparent، وOutlander، وطبعاً Girls للينا دونهام، والتي فتحت الباب أمام المرأة كصانعة قرار، وجعلت للمادة المعروضة صبغة عين امرأة، حساسة لتصوير امرأة ورجل، وطريقتها التي تختلف تماماً في هذا التمثيل؛ تُعد نظرة المرأة للجسد ومفهوم الانتهاك الجنسي أو الجسدي مفهوم شديد الحساسية، شديد الاعتناء بتفاصيل قد يغفل عنها حامل النظرة الرجل؛ خاصةً إذا ما تعلق الأمر بالانتهاك الجسدي للذكور.
وتتجلى هذه الأطروحة من خلال نموذج عام 2013، حيث شهدت الفضائيات المصرية جرأة غير مسبوقة في عرض مسلسل "موجة حارة" من تأليف مريم ناعوم وإخراج محمد ياسين، واللافت في النظر في المسلسل ضمن كثير من القضايا والمشاهد الجريئة الموظفة درامياً بشكل عالي الجودة، هو مشهد هتك عرض رجل، صور بطريقة محطمة للأعصاب، من كتابة الموهوبة مريم نعوم بالاشتراك مع محمد ياسين مخرجاً، والذي لم يتوانَ عن إظهار بشاعة المشهد هو الآخر. تم تصوير مشهد هتك عرض حمادة غزلان، على يد الضابط سيد العجاتي. ببراعة طمست فيها مريم –وعن جانبها المخرج محمد ياسين- الخط الرفيع الذي بالكاد فرق بين الضابط والمذنب، جعلتهما أقرب لحيوانين في صراعهما الأزلي، لم يكن هناك نموذج ذكوري يحتذى به وآخر مذموم، كان هناك شخص دنيء وآخر أكثر دناءة، هناك من يحتمي بسطوة العدالة ليمارس ساديته، وينفذ أجندته الشخصية، وهناك أيضاً من يحتمي وراء المال والنفوذ ليمارس رذائله، ربما اختلال ميزان القوة، وانقلاب وجهات النظر تلك جعل المشاهدون في حيرة نسبية، خاصة وأن حادثة هتك العرض تم الإشارة إليها في رواية "منخفض الهند الموسمي" للراحل أسامة أنور عكاشة على استحياء، دون استطراد، مما ترك عبء نسج الواقعة من الخيال على مريم وحدها، وتصوير الاعتداء بحيث يرسخ المشهد في الذهن على عاتق محمد ياسين، وكعادة المرأة عندما تبقى في موضع حاملة النظرة The female gaze، فإنها تضع اهتماماً لما بعد الاغتصاب، أو حادث الاعتداء الجنسي، في المشهد الذي تم تصويره، بين حمادة غزلان وأمه الشنّاوية، بحيث نرى جيداً تبعات الانتهاك الجنسي الذي تعرض له حمادة، بينما تكور في وضع الجنين إلى جانب أمه، وأخذت هي تهدهده بل وإنها تخبره "عرض الرجل أصعب من عرض المرة. عرض الرجل لأ." مما يدل على وعي بالانتهاك الجنسي للذكورة، بل وتحطيم صورتها كفاعل دوماً، وعدم التجرؤ على الاقتراب من المساس بهذه الهالة الذكورية المتماسكة من كونها في وضع مسيطر على الدوام.
مقارنة بين منظوري الرجل/المرأة في تصوير الانتهاك الجنسي
أحد الأفلام الذي كان فيه الاعتداء الجنسي على رجل موضوعاً هاماً هو عمارة يعقوبيان للمخرج مروان حامد والمؤلف وحيد حامد والمأخوذ عن رواية علاء الأسواني الشهيرة، والمشهد المعني هو هتك عرض الشاب طه في قسم البوليس، والذي لم يتم تصويره بنفس قسوة وصراحة المشهد في مسلسل "موجة حارة" مثلاً، وعلى عكس رواية أسامة أنور عكاشة التي لم تذكر هتك عرض حمادة غزلان إلا على استحياء، فإن رواية علاء الأسواني قد استفاضت في وصف المشهد القاسي، مما شكل صدمة لكثير من القراء العرب. للمبدع الحق في تغيير العمل الأدبي كيفما يشاء، ولكن ما يثير الدهشة هو كون الكاتبة مريم نعوم هي من سلطت الضوء على مشهد هتك عرض الرجل، بينما
الكاتب العظيم وحيد حامد سلط الضوء على مشهدي التحرش الجنسي ببثينة من قبل صاحب المحل الذي تعمل به، واغتصاب عبد ربه البواب لزوجته هدية أكثر من مشهد طه، والذي خُففت حدة قسوته على عكس المشهدين السابقين.
هل للأمر علاقة بإثارة رواية علاء الأسواني الجدل بسبب الموضوع الشائك لتعذيب الشاب طه على يد ضابط الشرطة، أم أن للأمر علاقة بتعامل الذكور من كتاب ومخرجين مع موضوع الذكورة من منظور الانسحاق والانتهاك الجنسي؟
وفي النهاية؛ يبقى السؤال، هل يجد صناع الأفلام والمسلسلات الذكور لدينا غضاضة في تقبُّل تصوير انتهاك الذكر جنسياً؟ أم أن للفكرة أبعاد أخرى تستحق التأمل؟