القاهرة 12 مارس 2018 الساعة 09:39 م

فصل من " كتاب الزنوج " 

ترجمة: صلاح صبري

لو أنني أعود ذات يوم إلى أرض الوطن، ربما يسمحون لي، بصفة استثنائية، بأن أصبح راوية. وفي الليل، بينما يجلس الكبار وهم يحتسون الشاي المُحَلَّى حول النيران المتوهجة، سيتوافد الزائرون من الأماكن البعيدة إلى قريتنا، ليسمعوا حكايتي الغريبة. لكي تصبح راويًا، يجب أن تكون ابنًا لأسرة من نوع خاص. كم تمنيت قبل اختطافي لو كنت كذلك، من أجل هذا الشرف الذي يدركه من يتعلم حكايات قريتنا وأجدادنا، ويرويها. في بواكير حياته، يتعلم الطفل المولود في أسرة من أسر الرواة، قصة التمساح الذي التهم خمسة أطفال، وحكاية الرجل الثري الذي كان له سبع عشرة زوجة، ولكنهن هجرنه جميعًا بسبب قسوته الشديدة، وحكاية أول رجل في قريتنا يعود من تمبكتو ومعه نسخة من القرآن المليء بالأسرار. يقال إنه إذا مات واحد من الرواة، تموت معه حكمة مائة من الرجال. 

وبينما يحملونني صاعدين السلم، ليقذفوا بي مثل جوال دقيق على سطح سفينة البيض، أحاول أن أسري عن نفسي، متخيلة أنني راوية، ولا بد أن أشاهد كل ما يحدث، وأحفظه في ذاكرتي. هدفي عندئذ هو أن أرى، وأن أستعد للإدلاء بشهادتي. لم يكن من المفترض لأبي أن يعلم ابنته كيف تقرأ وتكتب، حتى ولو بضعة أسطر بالعربية. لماذا انتهك القواعد؟ ربما كان يعلم أن شيئًا ما سوف يحدث، فأراد لي أن أكون مستعدة.

أظل طوال وجودي على ظهر السفينة، وخلال السنوات التالية جميعها، أفكر فيما غرسه أبواي في عقلي، رغم قصر الوقت الذي قضيناه معًا. تأكدا أنني تعلمت كيف أزرع حقلاً من الدخن. في موسم بذر البذور، وأنا ما زلت طفلة صغيرة، كنت أزرع كالكبار تمامًا، بنفس السرعة والمهارة. كنت أعرف كيف أحفر في التربة بكعبي الأيمن، ملقية بالبذور في الحفرة الصغيرة، ومهيلة عليها التراب بأصابع قدمي، وهكذا دواليك. تعلمت كيف أقلع الحشائش الضارة، وفهمت أننا نعزق الأرض حتى يعانقها المطر ويتزوجها حين يأتي، وليس مجرد أن يعانقها ويمضي. أجل، تعلمت كيف أذرع حقل دخن، وعرفت أننا يجب أن نثقف عقولنا.

سلسلة من المصادفات هي التي أنقذت حياتي في أثناء عبور المحيط. وهي التي ساعدت في أن أكون من بين آخر من تم شحنهم على السفينة من المواطنين. كما ساعدت في أن أكون طفلة. على ظهر سفينة للعبيد، يصبح للأطفال بعض المزايا. لا أحد يندفع ليقتل طفلاً. ولا حتى واحد من سارقي البشر. وفوق هذا، عقل الطفل يتسم بالمرونة. الأمر مختلف بالنسبة للكبار؛ لو تماديتَ في استفزازهم، فإنهم يتهشمون. كم تعرضت خلال هذه الرحلة لنوع من العذاب أعجز عن وصفه، ومع ذلك، فقد ظل عقلي سليمًا بطريقة ما. رجال ونساء في عمر أبويَّ فقدوا عقولهم في هذه الرحلة. لو كان عمري ضغف الحادية عشرة، لربما ذهب عقلي أنا أيضًا. 

في سفينة العبيد تلك، رأيت أشياء لا يمكن لأهل لندن أن يصدقوها أبدًا. ولكنني أفكر في الناس الذين عبروا البحر معي. الذين بقوا على قيد الحياة. رأينا الأشياء نفسها. ما زال بعضنا يصرخ فزعًا في منتصف الليل. ولكن هناك رجالاً ونساءً وأطفالاً يجوبون الشوارع، وليس لديهم أدنى فكرة عن الكوابيس. لا يستطيعون أن يدركوا كم سنعاني لو لم نجد من يصغي لنا. وأنا أحكي قصتي، أتذكر كل هؤلاء الذين لم يستطيعوا أن يشقوا طريقهم وسط طلقات البنادق وأسماك القرش والكوابيس، كل هؤلاء الذين لم يستطيعوا قط أن يجدوا نفرًا من المستمعين، وكل هؤلاء الذين لم يلمسوا طوال حياتهم ريشة ومحبرة. 

السفينة حيوان خرافي سابح في المياه. تتأرجح من جانب إلى آخر مثل حمار يحاول أن يلقي عن كاهله حملاً ثقيلاً، تتسلق الأمواج وكأنها قرد فقد عقله. لهذا الحيوان شهية لا حدود لها، وقد أتى علينا جميعًا: رجالاً ونساءً وأطفالاً. وبالإضافة إلينا، هناك كميات من سن الفيل، وأجولة البطاطا، وجميع أنواع البضائع التي يحملها العمال السود في شباك من الحبال. 

إلى جانب صرخات الأسرى وصيحات الرجال البيض والعمال السود، هناك بكاء ابنة سانو الذي لا ينقطع. يبدو أنها تشعر بالمصير الذي ينتظرنا. تصرخ باكية، وتشهق، ثم تبكي من جديد. صراخها يجعل القشعريرة تسري في أوصالي. أكافح كي أمنع نفسي من الصراخ. لكنني أحس بالاختناق من رائحة السفينة الكريهة، وأتقيأ. يستغرقني الشعور بالغثيان برهة.

حول كاحلي الأيمن حلقة حديدية متصلة بحلقة مثلها ممسكة بالكاحل الأيسر لسانو. إلى جوارها فومبا، الذي يسير مغلولاً إلى رجل آخر. يحملوننا إلى السفينة واحدًا واحدًا، لننضم إلى السلسلة البشرية المتنامية. يستطيع واحد من الأسرى أن يفلت قبل أن يكبلوه بالحديد من كاحله، ملقيًا بنفسه في المياه الغاضبة. الرجل عارٍ إلا من عمامة حمراء حول رقبته، فأشعر بالأسى حين أرى رأسه وهو يعلو ويهبط في المياه. آمل أن تتحقق أمنيته، فيغوص سريعًا في المياه وينتهي. غير أن المواطنين الذين يعملون على ظهر السفينة، يظلون يقذفون الرجل البائس بثمار البرتقال، بينما راح آخرون من الوطنيين يتتبعون، في قواربهم، طابور الفاكهة المنهمرة. يلتقطون الرجل من المياه، ويضربونه على رأسه، ثم يسلمونه إلى عملاق أسود واقف على سلم خارج السفينة. يحمله العملاق عائدًا به إلى ظهر السفينة، وممسكًا به حتى يكبلوه من كاحله. 

مرتعشة في الريح، أخاف أن أسقط مغشيًّا عليَّ. أحاول أن أحافظ على اتزاني، وأن أمنع نفسي من السقوط، فالأسرى الذين يزحفون على أرجلهم وأيديهم يتم ضربهم حتى ينهضوا واقفين. محاوِلةً أن أهدئ نفسي، أتخيل أمي وهي تهدئ طفلاً داهمه الفزع. "انتبهي"، أتخيل أمي وهي تقولها لي. "انتبهي.. ولا تخافي". 

يحمل المواطنون البراميل صاعدين إلى ظهر السفينة. يسقط أحدها عبر ثقب في أحد الشباك، فيتحطم، ويتطاير الماء على أقدامنا. وسط حمل البراميل والصياح وتكبيل الأسرى بالحديد، يلفت نظري منظر ما. رجل أبيض في ملابس تنكرية، ورجل آخر يتفقد طابورًا من الأسرى، متفحصًا إياهم واحدًا واحدًا. ما أن يتم فحصهم، حتى يُزَج بالأسرى إلى بطن السفينة ذي الرائحة النتنة.

الرجل الأبيض طويل، شديد النحول، وله شعر طويل بلون البرتقال، ينسدل على جانبي رأسه. أما أعلى رأسه، فهو أصلع. عيناه زرقاوان. لم أكن لأتخيل شيئًا مثل هذا قبل أن أراه. تمامًا مثل زرقة مياه النهر في يوم مشمس. مساعد الرجل الأبيض لون بشرته لا هو بالغامق ولا هو بالفاتح؛ ليس من البيض، ولا من المواطنين، وإنما هو خليط بين الاثنين. لونه بني مائل للاصفرار، وفي وجهه ندبة بارزة تمتد من إحدى عينيه حتى فمه. ليست شامة. هي أثر ضربة بسكين.  

يجيء دوري في الفحص، فيقرصني المساعد في ذراعي. يجذب وجنتيَّ بشدة ليجبرني على فتح فمي. يوقفه الرجل الأبيض ذو الشعر البرتقالي، متقدمًا نحوي. يشير لي بأن أفتح فمي، مولجًا فيه سبابته المشعرة. أحس بالغثيان. يمر بكفيه على رقبتي وكتفيَّ، ويتحسس ظهري طالبًا مني أن أحرك مرفقيَّ وركبتيَّ. بينما يفحصني الرجل الأبيض، يلطم المساعد فومبا لطمة شديدة. فومبا يتجمد فمه نصف مفتوح، بينما تسكن شفتاه تمامًا، وتجحظ عيناه كحبتي مانجو. يلطمه المساعد ثانية مغمغمًا ببعض كلمات بلغة تشبه البامانية. شيء ما يعني أن يطأطئ رأسه. لا ينطق فومبا ببنت شفة. لا يفعل شيئًا. يطوح المساعد ذراعه للوراء مرة أخرى. 

أصرخ: "فومبا.. أحنِ رأسك."

ينظر لي فومبا ثم يطأطئ رأسه. 

 يستدير كل من الرجل الأبيض ومساعده ناحيتي. يقول المساعد: "تتكلمين المانينكا ؟" 

أجيب: "البامانية."

"وتتكلمين لغته أيضًا؟"

أقول: "الفولانية." 

يتشاور المساعد والمفتش بلغة البيض. أحدق في المفتش الأبيض ثانية. يعلق في أحد جنبيه واحدة من عصي اللهب، وسيفًا في الجنب الآخر، وله منخاران ضيقان. أتسمع الكلمات الغريبة التي تدور بينهما. ثم يتحول المساعد إلى‘MANINKAN، ويدهشني أن أجد المفتش يفهم ما يقال.

مستخدمًا كلمات بسيطة قدر المستطاع حتى يفهم الرجل، يقول المساعد: "إنها تتكلم لغته.. وكذلك المانينكا. 

يومئ المفتش إلى رجل أبيض آخر مشيرًا إلى قيودي. يأتي الرجل الآخر مهرولاً، ثم ينحني، ويولج قطعة معدنية في الحلقة الحديدية المحيطة بكاحلي، محررًا إياي. يسحبني المساعد نحو فومبا. 

يأمرني المساعد: "قولي له يفتح فمه.. ولا يطبق أسنانه."

أقول لفومبا ماذا يفعل. يدس المفتش الأبيض إصبعه في فم فومبا فاحصًا أسنانه، ويبدو أنه وجدها سليمة. 

يقول المساعد: "قولي له ألا يتحرك." ينقر المفتش ضلوع فومبا بإصبعه، فيجفل.

يقول المساعد: "مكسورة؟"

"فومبا.. انظر لي ثانية.. هل تؤلمك ضلوعك؟" يغمغم فومبا بصوت يكاد لا يسمع قائلاً: "نعم." غير أن إحساسًا غريزيًّا يجعلني أبدل إجابته وأنا أترجمها للمساعد. أشعر أن الكذب أكثر أمانًا. "يقول إنه بخير.. وإن ضلوعه لا تؤلمه كثيرًا."

ينظر الرجل الأبيض ذو الشعر البرتقالي في أذني فومبا، ثم يفحص جميع أعضائه الأخرى، بما فيها عضوه الذكري الذي أمسكه وراح يشده عدة مرات. يفتح فومبا فمه واسعًا، ولكنه لا يصدر صوتًا واحدًا. يتحدث المفتش إلى الرجل الأبيض الآخر، الذي يقف بجانبي، مستخدمًا ريشة ليدون بعض الرموز على رقعة من الجلد. يده تتحرك عبر الرقعة في الاتجاه الخطأ، مخلفة لا شيء سوى رموز مبهمة لا معنى لها. ينتهون من فحص فومبا. ثمة باب ثقيل يستوي في أرضية السفينة، يجذبه اثنان من الوطنيين إلى أعلى. ينفتح الباب مثل فم تمساح خرافي، ويظل يتسع حتى يستقيم رأسيًّا إلى أعلى. تهب من خلاله سحابات كثيفة من رائحة الفضلات البشرية، مختلطة بصياح الرجال. يزج الرجلان الأسودان بفومبا وشريكه في القيد إلى بطن السفينة، ليغيبا عن الأنظار. ينغلق الباب مدويًا. يستدير المفتش ناحيتي. يتكلم، غير أني لا أستطيع أن أفهم. 

مشيرًا بإصبعه نحو سانو وطفلتها، يخاطبني المساعد قائلا: "الرجل الأبيض يسأل إن كنتِ أنت الفتاة."

"ماذا؟"

"هل أنت الفتاة التي استقبلت مولودة المرأة؟"

أتساءل كيف عرفوا. أتساءل ماذا أيضًا يعرفونه عني. أومئ. 

يسألني المفتش سؤلاً. لا أفهم. يسأل مرة ثانية. تلتقط أذني كلمة "موسم مطر" بالمانينكا.

أقول: "أحد عشر."

يسأل: "مشيتِ وقتًا طويلاً؟"

أقول: "ثلاثة أقمار."

يسأل: "أين أمك؟" لا أقول شيئًا. يشير إلى سانو. يسأل ثانية: "ماما؟" أهز رأسي يمينًا ويسارًا. يشير إلى فانتا الواقفة بجوار سانو. "ماما؟" مرة ثانية، أهز رأسي.

تصيح فانتا: "ماذا تقولين له؟" أحاول أن أتجاهلها، غير أنها تصيح بأعلى صوتها قائلة إن من واجبي ألا أكلم الرجل الشرير. يخطو المساعد خطوة نحوها، غير أن المفتش الأبيض يجذبه للوراء. 

يسأل المفتش: "لا أم؟"

أقف صامتة ولا أقول شيئًا. 

المساعد والمفتش يفحصان سانو. يأمرانها بالانصراف هي وابنتها التي تغط الآن في النوم. أتمنى لو أستطيع الذهاب معهما. 

بينما الرجال البيض يقتادون سانو بعيدًا، يقودني المساعد حتى فانتا، ويتركني. أقف، وقد تحررت ذراعاي وقدماي من الأغلال، وأسرح ببصري في المياه. بوسعي أن أجري وأقفز في المياه، ولكنني أوازن ما بين خوفي من المياه وخوفي من السفينة، وأقف دون أن أحرك ساكنًا. 

يأمر المساعد فانتا قائلاً: "افتحي فمك." المفتش واقف ينتظر.

تغمغم فانتا بالفولانية قائلة إن المساعد شخص أبله. يشعر بالإهانة، فيطوح يده للوراء. فانتا واقفة قبالته، رابطة الجأش، معلنة تحديها.

أقول: "لا مانينكا."

يقول المساعد: "قولي لها تفتح فمها.. ولا تعض."

أقول لها.

تقول لي: "مستحيل.. إنهم سيأكلوننا على أية حال."

لا أريد أن أرى فانتا وهم يضربونها، كما أنني أخشى أن يعاقبوني على عصيانها.

هذه المرة لا أرتب الكلمات. كل ما هنالك أنها تنساب خارجة من فمي. أقول: "يقول إنه سيؤذيني لو لم تفعلي."

تفتح فانتا فمها. يحدق المفتش في أسنانها، وينخسها بإصبعه في بطنها المستديرة، قائلاً لي أن أخبرها بأن تفتح رجليها. 

أقول: "يقول لك افتحي رجليك."

تقول: "مستحيل."

أقول للمفتش: "المولود.. حالاً."

يسأل: "متى؟"

أقول: "قمر واحد."

يتلعثم المفتش. لتنفسه صوت مسموع. شيء كالصفير أو الأزيز. أتساءل في نفسي إن كان منخراه الضيقان مسدودين. أسترق نظرة إلى أسنانه السوداء، ولثته التي تشتعل حمرتها كعرف الديك الرومي. هو رجل قميء، يبدو عفنًا قلبًا وقالبًا، غير أنني لا ألحظ أية نية سيئة في نظراته. أعطي نفسي فرصة أخرى.

أقول ثانية: "مولود.. قمر واحد." تنساب يدي فوق بطنها الكبير. "ماما كبيرة.. ماما كبيرة.. تقول أنت تأكلها."

لا يفهم المفتش الأبيض.ي وضح له المساعد.

يقول المفتش: "لا تأكل ماما." يمسك كل منهما بطنه، وينفجران ضاحكين. "شُغْل.. شغل في أرض البيض.. لا طعام." ينزل الرجل الأبيض ذو الشعر البرتقالي يده.ينتهي الفحص. 

يقفز المساعد ثانية. "لن يسلقها.. إنها ستعمل عند البيض.. كلكم ستعملون."

لا أستطيع أن أصدق أن البيض قد يحتملون كل هذه المشقة، فقط لكي نعمل في أرضهم. بناء مثل هذه السفينة، مصارعة المياه الغاضبة، تحميل كل هؤلاء الناس وهذه البضائع في السفينة.. فقط ليجعلونا نعمل عندهم؟ من المؤكد أن بإمكانهم أن يجمعوا ما لديهم من ثمار المانجو، وأن يطحنوا دخنهم بأنفسهم. من المؤكد أن هذا أيسر كثيرًا من كل هذا! 

أسأل المساعد وأنا أشير إلى المفتش قائلة: "ماذا يعمل؟"

يقول المساعد: "طبيب."

تقول فانتا: "أنت تتكلمين معهم أكثر مما يجب."

أقول: "يقول إنه لن يأكلك."

"من يقول؟"

"الرجل الأبيض."

"ماذا يقول؟"

"سيكون عليك أن تعملي."

"لماذا يجب أن أعمل ما داموا سيأكلوننا في جميع الأحوال؟ اسمعي يا بنيتي.. سيسلقوننا جميعًا ثم يأكلوننا."

نفر آخرون من الرجال البيض يأخذون فانتا بعيدًا. أما أنا، فمكلفة بالوقوف إلى جوار الطبيب، وبشرح تعليمات المساعد للأسرى الفولانيين. يُرْسَلون إلى بطن السفينة واحدًا واحدًا. عندما أجد نفسي آخر أسيرة على ظهر السفينة، أفقد شجاعتي. كان البيض يستخدمونني، والآن سيقتلونني. أكاد أنهار جاثية على ركبتيَّ، ولكنني أتذكر أمي وأبي وهما خارج القرية، فأظل واقفة. ينساب البول حارًّا على رجليَّ، فأحس بأنني أحترق خزيًا. 

يناولني الطبيب قرعة ماء. يقول: "ساعديني.

أشرب، ولكني أظل صامتة.

"أنت تساعدينني.. وأنا أساعدك."

لا أعرف كيف يمكنه أن يساعدني، ولا ماذا يمكنني أن أفعل له. كنت أتمنى لو أنهم أرسلوني مع سانو وفانتا. أرى أبناء الوطن الشغيلة وهم يغادرون السفينة، يقفزون في القوارب الراسية أسفلها، ويبحرون مبتعدين. مسموح لهم جميعًا أن يجيئوا ويذهبوا، أما نحن الأسرى، فسوف نُحمَل بعيدًا. أنا واثقة من هذا. 

تستقر يد الطبيب فوق كتفي. يقول شيئًا لا أستطيع أن أفهمه. يوضح لي المساعد أنني سوف أنزل معهما إلى بطن السفينة. يسير أمامنا. ممسكًا بذراعي، ينزلني الطبيب بضع درجات شديدة الانحدار، تؤدي إلى محبس مظلم كريه الرائحة. رائحة الفضلات الآدمية تصيبني بالغثيان. أتخيل أكبر أسد في بلادي. بقدر ضخامة الجبل الأسد الرابض على الشاطئ، ولكنه حي، يتنفس، ويتضور جوعًا. يبدو وكأنهم يولجوننا مباشرة في شرجه. كان هذا الأسد قد عاث فسادًا في القرى، مبتلعًا جميع سكانها أحياء، مكدسًا إياهم في معدته التي توشك أن تكون معتمة تمامًا، بينما هم يكادون لا يتنفسون. المساعد أمامنا ممسك شعلة تسفح ضوءها على الأشباح الآدمية. الطبيب أيضًا ممسك شعلة. أينما ألتفت أجد رجالاً يرقدون عرايا، ومكبلين إلى بعضهم بعضًا، يتوجعون وينتحبون. الفضلات والدماء المنتشرة على ألواح الأرضية، تغطي أصابع قدميَّ. 

الممر ليس سوى شريط ضيق يفصل بين الرجال عن يميننا وعن شمالنا. مكدسين كالسردين في العلب الصفيح، الرجال مكومون في ثلاثة مستويات؛ أولها لا يتجاوز ارتفاعه رسغي، وثانيها في مستوى وسطي، أما ثالثها، فيرتفع حتى رقبتي. لا يستطيعون أن يرفعوا رؤوسهم عن الألواح الخشبية المبتلة إلا قليلاً. 

لا يستطيع الرجال، المسلسلين مثنى مثنى، أن يقفوا في هذا الممر الضيق إلا وهم يحنون أجسادهم. على ألواحهم الخشنة التي ينامون فوقها، ليس ثمة مكان للجلوس. بعضهم يرقدون على ظهورهم، وآخرون على بطونهم. مسلسلون من كواحلهم أزواجًا؛ الكاحل الأيسر من أحدهم إلى الكاحل الأيمن من واحد آخر. وعبر ثقوب في هذه الأغلال الحديدية، تمر سلاسل لا يكفي طولها للرجل أن يتحرك، بموافقة زميله، إلا بضع خطوات قليلة نحو الدلو المخروطية الشكل التي قد يتصادف وجودها، والمخصصة للتغوط. 

يتشبث الرجال بي مستجدين المساعدة. أجفل من أظفارهم الحادة. أحدهم يعض يد المساعد. يضربه المساعد على رأسه.

يصيح الرجال مستخدمين خليطًا غريبًا من اللغات. يهتفون ببعض الصلوات العربية. يصرخون بالفولانية. يهللون بالبامانية، وبلغات أخرى كثيرة لم أسمع بها في حياتي. يهتفون جميعًا بالأشياء نفسها: الماء، الطعام، الهواء، النور. أحدهم يصرخ صراخًا عاليًا متواصلاً، لأنه مقيد إلى جثة رجل ميت. على ضوء الشعلة المرتعش، أراه وهو يضرب الجثة الهامدة المغلولة معه قدمًا بقدم. جسدي يرتعد، وأريد أن أصرخ. أقول لنفسي: "كلا.. كوني راوية.. شاهدي واحفظي في ذاكرتك." 

يصيح رجل: "أختاه.. أختاه."

في نبراته سلطة لا أستطيع تجاهلها. يتكلم مثل أبي. أرى وجهًا متوترًا ومرهقًا، ولكنه طافح بالإصرار والعزيمة. من مكانه في أعلى المستويات الثلاثة، يقترب وجهه من وجهي. 

يهمس بالبامانية بصوت أجش، قائلاً: "أختاه.. من أين أنت؟"

أقول له: "من بايو.. بالقرب من سيجو."

"لقد سمعنا عنكِ.. هل أنت الفتاة التي تولد النساء رغم أنها ما زالت طفلة؟"

"لستُ طفلة.. لقد رأيتُ أحد عشر مطرًا."

"ما اسمك يا أحد عشر مطرًا؟"

"أميناتا دياللو."

أقول للمساعد إن هناك، في الصف العاشر خلفنا، شخصًا مغلولاً إلى رجل ميت. يذهب مع اثنين من البيض ليخلصوه. تقعقع سلاسل، وسلاسل أخرى، يتصايحون، وفي النهاية، يجذبون الرجل من قدميه ويجرجرونه عبر الوحل والأوساخ. رأسي يدور، وركبتاي تخوران، ولكن لا يمكن أن أترك نفسي لأسقط في هذه القاذورات. صرخات الرجال تدوي في مسمعيَّ.

يصيح الرجل، الذي يصدر أوامره بلهجة أبوية، قائلاً: "مرري إلى هنا كل فرصة تسنح لك.. من دون علم المساعد.. اجمعي أية معلومات.. وأحضريها لي.. أنا بيتون ‘BITON’.. زعيم ساما ‘SAMA’.. أنا أيضًا باماني.. كلميني.. قولي لي كل شيء.. لا تنسي.. هل تسمعينني يا بنيتي؟"

أومئ مبتلعة ريقي. أصيح من غير تفكير قائلة: "لم يكن من المفترض أن أُسرَق.. أنا مسلمة حرة."

يقول: "جميعنا سُرِقنا.. في الوقت المناسب.. سوف نهب ثائرين.. أما الآن يا بنيتي.. فيجب عليك أن تحضري لنا بعض الماء."

سعيدة لأني أستطيع أن أمنحه شيئًا، أقول: "نحن راحلون قريبًا."

"كيف عرفتِ؟"

"سمعتُ في الخارج.. نحن راحلون قريبًا."

يقول: "حسنًا.. بعضنا هنا منذ أقمار عديدة.. والحر يقتلنا.. هل تتكلمين لغة البيض؟"

"كلا.. ولكني أتكلم الفولانية أيضًا.. وأعرف بعض الصلوات بالعربية."

يقول: "تعلمي لغة البيض.. ولكن لا تعلميهم لغتنا." الطبيب يدفعني من الخلف. يتحدث بيتون مرة أخرى قائلاً: "أحد عشر مطرًا.. أميناتا دياللو! تذكري زعيم البامانا."

نحن نتقدم بصعوبة بالغة. نتلمس طريقنا في الظلام. بعد فترة وجيزة، تمتد يد ممسكةً معصمي. أهم بصفعها، ولكنني أرى وجه تشيكورا حين أستدير.

يهمس: "أميناتا."

أقول: "تشيكورا."

يسأل: "أنت لا تكرهينني لأنني أحضرتك إلى هنا؟"

أقول: "الحر هنا أشد من أن يسمح بالكراهية." 

"لن تخبري أحدًا بما فعلتُ؟ قبل أن يوقعوا بي؟"

"كلا.. أريد أن تعيش."

يكرر اسمي عدة مرات، ثم يضيف قائلاً: "يجب أن أسمعك تقولينه.. أرجوكِ.. قوليه.. قولي اسمي."

أقول: "تشيكورا."

"شخص ما يعرف اسمي.. رؤيتكِ تجعلني أريد الحياة."

أتساءل إن كان في وسعي أن أحضر له بعض الماء. أقول: "الآن يجب علينا جميعًا أن نعيش.. من ذا يريد أن يموت في شرج أسد؟"

عبارة "شرج أسد" تسري بين الرجال كالنار في الهشيم. يسمعها بيتون مطلقًا ضحكة عميقة مجلجلة، يتردد صداها في جنبات المحبس. يهتف بالعبارة عاليًا، ويكررها الرجل التالي له. يصيح بها أولئك المتحدثون بالبامانية. رجل واحد يسأل السؤال، ويجيبه الآخرون جميعًا. 

يقول: "أين نحن؟"

يرد المزيد من الرجال قائلين: "في شرج أسد."

يسألني رجل منهم قائلاً: "من الأخت التي تزورنا؟"

"أميناتا.. أنا من بايو.. بالقرب من سيجو على نهر النيجر."

في الظلام الدامس، يردد الرجال اسمي، ناطقين بأسمائهم وأنا أسير. يريدونني أن أعرفهم. من هم. أسماءهم. أنهم أحياء، وأنهم سيبقون أحياء. 

"إدريسا ‘IDRISSA’."

"كيتا ‘KEITA’."

وهكذا. أبحث عن فومبا، وأخيرًا أجده. أهتف باسمه. يحملق في وجهي بعينين خاويتين. لا ينطق بكلمة واحدة. أهمس: "هذي أنا.. أميناتا." لا شيء. لم يكن ليتكلم. ألمس وجنته، ولكنه حتى لا يهتز له جفن. أريد أن أرقد إلى جوار هذا الرجل العملاق القوي الذي صار صامتًا وخاويًا، غير أن الطبيب يجذبني من ذراعي، مشيرًا للأمام. 

يفتح المساعد رتاج قاطع خشبي ويسحبه للخلف، كاشفًا عن عن غرفة جديدة مكتظة بحوالي عشرين امرأة أسيرة، وحفنة من الأطفال الرضع. النساء غير مقيدات بالسلاسل، ولكن ليس لديهن متسع للحركة. في وسط المحبس، السقف أكثر ارتفاعًا، ولذلك تقف النساء هناك، ومع ذلك، لا يسع الطويلات غير الوقوف منحنيات. يجب أن أحاذر، وأن ألوي نفسي حتى أستطيع أن أمر من بين المجموعة. تهمس النساء لي بأسمائهن، ويسألنني عن قريتي.

يد تمسكني من مرفقي بشدة. هذه يد فانتا. تقول: "ابقي بعيدًا عن هؤلاء البيض.. لأنهم سيأكلونك."

أملص من قبضتها، وأنطلق مبتعدة عن الزحام. أسمع رضيعًا يشرع في البكاء، فأتحرك عبر مجموعة النساء حتى أجد سانو. تتشبث بذراعي. 

تقول: "أريد ماءً.. وإلا فلن يكون هناك لبن للمولودة."

ألمس أناملها.

يندفع الطبيب من جواري، صاعدًا السلم. يتوقف المساعد، ويستدير بشعلته، قائلاً: "هنا ستبقين.. إلا إذا قلنا لكِ أن تصعدي.. خذي هذه البقعة القريبة من السلم.. لو غادرتِ هذه البقعة.. سأضربك.. إذا لم تبرحيها.. سأوفر الضرب للأخريات."

أحدق في وجهه متحدية. أراه يرفع ذراعه. لا أتذكر ضربه لي. كل ما علق بذاكرتي، هو السقوط. 

أستيقظ في الظلام وملء فمي طعم كريه. أحس بأنني أرتج، وكأنني على ظهر حمار ظل يحتسي عرق البلح حتى ارتوى. أشعر بالغثيان ثانية، وبألم شديد في معدتي الخاوية. أحاول أن أبقى ساكنة، وأعاود النوم. غير أن الارتجاج ما زال مستمرًّا، وثمة صوت يناديني. أفتح عينيَّ. الطبيب. 

أتحرك برفق على الألواح الخشبية الخشنة، فأشعر بشظية نحيلة تجرح فخذي. أرفع رأسي بقدر استطاعتي، وأنزلق خارجة إلى الأرضية، حيث أستطيع الوقوف. أحس بألم في الفخذين. الفضلات الجافة تغطي قدميَّ. أسناني لم أنظفها. أشعر بالنزيف الأنثوي يتدفق خارجًا مني، وأكره أنني مجبرة على الوقوف هكذا أمام هذا الرجل الأبيض المشعر. 

يمسك الطبيب يدي صاعدًا بي السلم. نخرج إلى ظهر السفينة عبر باب منفصل عن الباب المخصص للأسرى الذكور. في الخارج، يبهر عينيَّ ضوء النهار، فأغمضهما. حين أفتحهما ثانية، أبصر سفينتنا وهي تسبح في المياه اللامحدودة، من غير أن أرى مجدفًا واحدًا. الأمواج ترفعها وتحطها، لأعلى ولأسفل. فوق رأسي، ترتفع الصواري عالية، والأشرعة الكتانية ترفرف خفاقة فوقها، وكأنها أجنحة طيور أسطورية هائلة. لا أرى أي أثر لليابسة. لا قوارب تحمل نفرًا من أبناء الوطن. نحن تائهون في عالم من المياه. أعتقد أن لدى البيض قوة سحرية مرعبة تدفع هذه السفينة، عبر هذه الصحراء المائية اللانهائية. 

أشار الطبيب إلى دلو من الماء. أنحني، وأروح أشطف نفسي. جسدي مليء بالجروح: في الوجه، والردفين، والفخذين، والكاحلين. العلامة المحفورة على نهدي ملتهبة إلى درجة تمنعني من لمسها أو غسلها. الماء المالح يكوي بشرتي. ومع ذلك، أشعر أن إزالته هذه الأوساخ شيء رائع. وبينما أحفن الماء بكلتا راحتيَّ لأنثره على جسمي، أرى الأسيرات الأخريات مقعيات حول دلاء الطعام. جالسات على أردافهن، يأكلن بأصابعهن عصيدة من بقل مسلوق. 

يناولني الطبيب غلافًا فارغًا لإحدى ثمار الكولا، ويشير إلى دلو من الماء العذب. أغرف بعض الماء، وأرشف بحذر. لا ملح. أجرع بسرعة. تنضم فانتا إليَّ.

تشير إلى الغلاف قائلة: "أعطيني هذا.. لم آخذ كفايتي."

أناوله لها. بينما فانتا تعب الماء عبًّا، يناولني الطبيب قطعة طويلة من القماش لها لون الرمال. بأصابع مرتعشة، ألفها حول جسدي لأستر نفسي، شاعرة بنفس متعتي بالارتواء بالماء.

تلقي فانتا غلاف ثمرة الكولا. تخطف مني قطعة القماش، وتلفها حول نفسها قائلة: "السيدات قبل الأطفال."

يزفر الطبيب الهواء من بين أسنانه المعوجة، ولا يقول شيئًا. لا أستطيع أن أجزم أي نوع من الرجال هو، ولكنه لا يبدو ميالاً للضرب. ومع ذلك، فإنني أتمنى في هذه اللحظة أن يصفع فانتا صفعة شديدة على وجهها، وأن يرد لي قطعة القماش. غير أنه يتركها تحتفظ بها، مشيرًا إليَّ أن أتبعه عبر منطقة النساء، لنخرج إلى سطح السفينة.

يقودني الطبيب إلى منطقة مستقلة خاصة بالأسرى الرجال. كثيرون منهم مقيدون بالسلاسل على طول حافة السفينة. بعضهم يناديني باسمي، وأنا، بدوري، أحيي كل من فعل هذا. أصل إلى بيتون، الزعيم. يقف رافعًا رأسه، وكتفاه مشدودتان للوراء. 

يبتسم وهو ينطق اسمي بحرارة، قائلاً: "أميناتا دياللو." يقوله بفخر. أحب اسمي وهو يُنطَق بهذه الطريقة. تجعل قامتي أكثر استقامة. 

أقول: "الزعيم بيتون."

"بقيتِ بعيدة لأكثر من يوم بأكمله.. لماذا تأخرتِ هكذا في المجيء لرؤيتي؟"

أقول إنني كنت نائمة، ولكنني لا أعرف مطلقًا أنه كان وقتًا طويلاً هكذا. 

يحدق بيتون في الكدمة التي في وجهي. يقول: "ابقي هنا فوق.. لو تستطيعين.. كلما قضيتٍ وقتًا أطول في الأسفل.. اقتربتِ من الموت أسرع."

بلغة تشبه لغة الأطفال، يسألني الطبيب بالمانينكا إن كان هناك موتى في الأسفل. أنظر إلى بيتون، ولكنه لا يفهم السؤال. أكرر السؤال بالبامانية. يقول بيتون إن هناك شخصًا ميتًا، وإن زميله في القيد لا يستطيع الصعود إلى فوق ليأكل أو يشرب.

أخبر الطبيب قائلة: "شخص ميت." لا يفهم. أفرد إصبعًا واحدة، وأشير إلى أسفل.

يحتاج الطبيب إلى رجلين ليساعداه. أشير إلى القيود التي تربط بيتون إلى رجل يُدعى پوتو ‘POTO’. يدس الطبيب يده في جيب بنطاله، ويخرج مجموعة من المفاتيح الرفيعة، ويختار أحدها، ثم يدسه في كل من الحلقتين الحديديتين حول كاحلي الرجلين، مطلقًا سراحهما. بينما عشرة آخرون من أبناء الوطن يشاهدون ما يحدث، يعيد الطبيب المفاتيح إلى جيبه، ويشير إلى اثنين من البيض مع كل منهما واحدة من عصي اللهب، ليقتادا الأسيرين إلى أسفل. 

أنضم إلى فومبا الذي يتناول طعامه. "جيد؟"

يهز رأسه نافيًا.  

أسأله: "قدماك تؤلمانك؟" يومئ. لا يريد أن ينظر إليَّ، ولكنه يمسك يدي، غير راغب في تركها. أجلس معه، شاعرة باهتزاز السفينة مع الأمواج. يخرج كل من بيتون وپوتو عبر الفتحة وهما يحملان جثة الرجل الميت. يقفان وكل منهما يحدق في وجه الآخر، ثم في وجهي. يلوِّح الطبيب باتجاه جانب السفينة، ثم يشير لهما غاضبًا بأن يلقياه في الماء. الأشرعة تخفق مجنونة في الريح، فلا أستطيع حتى أن أسمع ارتطام الجثة بالماء. أتساءل في نفسي تُرَى كم منا سينتهي به الحال إلى الأعماق. 

أمسك الطبيب من يده، وأشير إلى فومبا، محاولة أن أخبره بأنه قوي، وأنه سيؤدي ما يؤمر به، لو أنه فقط تحرر من هذا القيد البغيض حول كاحله. الرجل الأبيض ليس لديه أدنى فكرة عما أتحدث عنه. 

يشير لي بيتون نحو فومبا قائلاً: "لا تُعرِّضيه لهذا."

"لماذا؟"

"لا يستطيع حتى أن يتكلم.. لقد ذهب عقله.. نريد أن يثق الرجل الأبيض بالرجال المفيدين بالنسبة لنا."

أقول: "هو من قريتي."

"كل منا له قرية يا بنيتي.. سوف أتأكد أنه لن يتعرض للأذى." يقف بيتون ساكنًا ليجعل من السهل على الطبيب أن يضعه في القيد ثانية. "تعالي لرؤيتي قريبًا يا أميناتا."

الرجل الأبيض ذو الشعر البرتقالي، يضع يده تحت ذراعي، ويسحبني خلفه، متوقفًا ليفحص قيود بعض الأسرى. من الصف التالي، أسمع من يهمس باسمي.

"آميناتنا."

إنه تشيكورا. شعره ملبد، ووجنتاه مكدومتان، بينما الفضلات تغطي قدميه. ومع ذلك، فإنه في هذه اللحظة يبدو غير مكترث. همس بالفولانية، حتى لا يفهم بيتون، قائلاً: "احذري من هذا الرجل.. يريد أن يكون زعيمنا.. ولكنه قد يتسبب في قتلك."

بيتون رجل، بينما تشيكورا ما زال صبيًّا. بيتون أكبر كثيرًا وأشد قوة، وأبناء الوطن يستمعون له فعلاً حين يتكلم. تشيكورا قدم مساعدات لزملائي من الأسرى، ومع ذلك، ما زلت بحاجة لأن أثق به. سار معي لثلاثة أقمار. وهو من قرية قريبة من قريتي، ويتكلم لغة أبي. أشعر أن تشيكورا سيحميني لو كان بإمكانه. ولكنني رأيتُ ما تستطيع عصي اللهب أن تفعله، وتشيكورا من المحتمل أن يموت لو تمرد أبناء الوطن. وعندئذ، من سيساعدني؟ لا أعرف بمن أثق. أتساءل كيف كان أبي سينصحني. تشيكورا أم بيتون؟ إجابته أراحتني قليلاً. يقول: "افتحي عينيك وأذنيك.. ولا تثقي بأحد غير نفسكِ."

 ممسكًا بي من ذراعي، يقودني الطبيب نازلاً بضع درجات أخرى. يشق طريقه عبر حجرة مكتظة بالرجال النائمين في شباك معلقة في عوارض خشبية فوق رؤوسهم. نمر بموقد مشتعل، فوقه إناء ضخم، ثم نجتاز ممرًّا ضيقًا، على جانبيه مجموعة من الأبواب. يفتح الطبيب واحدًا منها، ندخل من خلاله إلى غرفة صغيرة. يغلق الباب. ليس بداخلها أحد سوانا. أشعر بالراحة لكوني بعيدة عن أماكن النوم الكريهة الرائحة، وعن سطح السفينة المزدحم. ولكن أن أكون وحدي مع الرجل الأبيض في غرفته، فهو أمر ليس مريحًا بالنسبة لي. 

يتثاءب، ويفرد ذراعيه خالعًا سترته. قميصه مصفر عند إبطيه، وتفوح منه رائحة نفاذة. يجلس على السرير. وهو عبارة عن منصة مرتفعة عن الأرض، وفوقها كيس من القماش الثقيل المحشو بالقش. يشير لي أن أجلس. أظل واقفة. يخبط بيده على حافة السرير. أجلس غير مرتاحة، ومتمنية لو كان معي أحد. في مثل هذا الموقف، كانت فانتا ستعرف كيف تتصرف.

يقول الطبيب كلمة بلغة البيض، مشيرًا بإصبعه إلى حيث أجلس. 

يقول: "سرير." ويظل يكررها متوقعًا مني أن أشير بإصبعي وأقول الكلمة نفسها.

أقول: "سرير." ويبدو عليه السرور.

يخبط صدره براحته وهو يشير بإبهامه إلى نفسه مكررًا كلمة أخرى. يقول: "توم." 

أردد قائلة: "توم."

ثم يصوب أصبعه نحوي. أقول اسمي. تتقلص عضلات وجهه.

أقول ثانية: "أميناتا."

ولكنه يشير لي قائلاً شيئًا آخر. مرارًا وتكرارًا. يريدني أن أردده.

أقول أخيرًا: "ماري." يشير لي بإصبعه مجددًا، وأفعل مثله. أستعمل إبهامي مثله تمامًا. أهمس قائلة: "ماري." ألفظ الكلمة من بين شفتيَّ قائلة لنفسي إنها آخر مرة على الإطلاق أقولها فيها، وكذلك اسمه. 

يقفز عاليًا وهو يصفق بيديه. يقول: "ماري" مكررًا إياها مرات ومرات.

أنهض أنا أيضًا. أريد أن أكون مع النساء ثانية. غير أنه يضع يده فوق كتفي، ويجلسني مقربًا وجهه من وجهي كثيرًا. ثمة شعيرات برتقالية على ذقنه، وهناك شعرات كبيرة نافرة من وجهه وأذنيه. شعر كثيف يغطي صدغيه، وكذلك إبهاميه. يقطع أرضية الحجرة، ويروح يفتش في صندوق خشبي، ثم يحضر قطعة قماش حمراء. عريضة وطويلة ومصنوعة من الكتان الناعم. يلقيها على ذراعي. أقفز، وألفها حول ردفيَّ وأعضائي الأنثوية، عاقدة إياها عند الإلية. يبدو مفتونًا بعقدتي، وبسرعة أصابعي. بعد أن يجلسني على السرير مرة أخرى، يغادر الحجرة. 

  قبالة السرير، هناك فتحة صغيرة في الجدار. أذهب لأنظر، فتصيب وجهي رشة خفيفة من الرذاذ. نحن نبحر في مياه هادئة. أستطيع أن أسمع رفرفة أشرعة السفينة وهي تخفق في هدوء، ولكن صوتًا آخر غريبًا يأتى من خلفي. أقف ساكنة تمامًا. بالرغم من أن أحدًا لم يفتح الباب، فأنا واثقة أن هناك من يراقبني. قلبي يدق. أدور حول نفسي دورة كاملة. لا أحد. لا أحد مطلقًا. ثم يأتى الصوت ثانية، من أحد أركان الغرفة. هناك، على مائدة أخرى، قفص معدني. بداخله ببغاء ملون بالأزرق والأصفر، وله منقار رهيب. جناحاه يخشخشان. أقفز مبتعدة للوراء. هو فقط يتحرك فوق حشيته. لا أستطيع أن أهرب، ولا يستطيع أن يدركني، لأنه محبوس في قفصه، تمامًا مثلما أنا محبوسة في السفينة. 

يميل برأسه جانبًا، وكأنه يريد أن يراني بشكل أفضل، وفجأة ينطق سلسلة من الكلمات. لا أفهم شيئًا. الطائر لا يغني. إنه يتكلم. ولا يستخدم واحدة من اللغات المحلية. الطائر يتكلم لغة البيض.

بجوار القفص، طبق مليء بالبندق. آكل واحدة. مستديرة ودسمة. أضع اثنتين أخريين في فمي، وأمضغهما. يدير الطائر عينيه محدقًا في البندق تارة، وفي فمي تارة أخرى. صارخًا بوحشية، يظل ينظر أمامًا وخلفًا. ألقي الثمرتين. بجوار البندق، ثمرة صفراء لها قشرة سميكة، حجمها تقريبًا نصف قبضتي، ومدببة من طرفيها. أقضمها. طعمها أشد مرارة، فأتركها. 

أستدير عندما ينفتح الباب.

يقول الطبيب: "أوووه!" يأتى إليَّ، ويروح يحدق في آثار أسناني في ثمرة الفاكهة. يمد يده إلى حزامه ساحبًا مدية من غمدها. أتقهقر نحو السرير ضاغطة على شفتيَّ لكي أكتم صرخة تكاد أن تفلت. ولكنه لا يسدد المدية نحوي. وإنما يروح يقطع الثمرة شرائح رقيقة، ويخرج بضع بلورات بنية من إناء زجاجي، ناثرًا إياها على الثمرة. يرفع شريحة إلى فمه، شافطًا لحمها من غير أن يأكل القشرة. يعطيني شريحة. أرفعها إلى فمي، أشفط، فتغثى نفسي بسبب طعمها اللاذع. يضيف الطبيب مزيدًا من البلورات. أمص ثانية. فمي يتراقص بروعة المذاق، وفجأة، بدأتُ أنتبه لجوعي وعطشي.

يحضر لي غلافين من أغلفة الكولا. أحدهما به ماء، والآخر به بطاطا مسلوقة، ومضاف إليها بعض الزيت. ألتهم البطاطا سريعًا، وأروح أعب الماء وكأن أحدًا سيسرقه، وعندئذ أشعر بمعدتي تهدد بالتمرد. السفينة تتأرجح ثانية على سطح الماء.

يشير إلى ما آكله قائلاً: "طعام."

أكرر الكلمة.

يربت بيده فوق بطنه قائلاً: "جوعان."

أحاول أن أقولها.

يخبط بيده مرة أخرى على المكان الذي أجلس فيه. أتذكر الكلمة.

أقول: "سرير."

يبتسم لي مشيرًا أن أرقد. هذه لا تبدو لي فكرة جيدة، ولكن لا أعرف إلى أين أذهب. السفينة لغز. لو أنني لذت بالفرار من الطبيب، فلن أعرف حتى كيف أعثر على بنات جلدتي. وحتى لو عرفتُ، فلا بد عندئذ من النوم في المحبس الكريه الرائحة. يفرد فوقي قطعة من القماش، ويكرر وهو يربت كتفي قائلاً: "ماري."

تنسل يده تحت قطعة القماش وتنزلق نحو أسفل ظهري. أستدير محتدة، وساحبة القماش على جسدي. أنام ووجهي إلى أسفل، بينما رجلاي تلتف إحداهما على الأخرى بإحكام. يمر بيده فوق ظهري ثانية. أستدير، وأعتدل جالسة، وأحدثه بصوت خفيض يملأه الغضب.

أقول: "لا تفعل ذلك.. وإلا سيعود أبي من عالم الموتى ويصرعك.. عمري لم يتجاوز أحد عشر مطرًا بعد."

ليس لدى الرجل الأبيض أدنى فكرة عما أقول، ولكن لا بد أنه يحس بغضبي وخوفي. بعض الحيوانات عندما تشم رائحة الخوف، فإنها تهاجم بضراوة. ولكن الطبيب يبتعد فجأة، واضعًا رأسه بين كفيه. بعد برهة، يتناول جسمًا أبيض من فوق المائدة، واضعًا إياه فوق صدره، بينما يده تقبض عليه بإحكام. هو منحوتة بسيطة إلى حد غريب، عبارة عن عصًا رأسية تتقاطع معها أخرى أفقية. يضغط هذا الشيء إلى صدره، ويتمتم بصوت خفيض مغطيًا جسمي بقطعة القماش. يربت كتفي مواصلاً تمتمته. لا تنحرف يده إلى ظهري مرة أخرى. أبقى ثابتة، ومستلقية على ظهري، فأستطيع أن ألاحظه مستغرقًا في الصمت. ولا بد أنني، بعد فترة، رحت في سبات عميق.

أستيقظ في الظلام. أجد نفسي وقد انزحتُ إلى الطرف الآخر من السرير، ملاصقة للحائط، لست وحدي. بجواري هيكلان آدميان، أحدهما فوق الآخر، يهتزان أمامًا وخلفًا. كلاهما يتنفس بصوت مسموع. أحدهما له صوت عالٍ مفعم بنبرات الاعتراض والخوف. هو صوت امرأة من بنات الوطن، تغمغم لاهثة بكلمات لا أفهمها. هي السفلى. الطبيب راقد فوقها، يتأوه ويدفع، يعلو ويهبط، يعلو ويهبط. ألصق نفسي بالحائط مغمضة عينيَّ. أعرف أن ليس لرجل أن يلمس امرأة بهذه الطريقة ما لم تكن زوجته. حتى لو لم يعلمني أبي أجزاء من القرآن، لكنت عرفت ذلك.

يزفر الرجل الأبيض متنهدًا: "آاااه." يسكن السرير تمامًا.

أحس بثقل الرجل يسقط في المساحة التي بين المرأة وبيني، بينما هي تتأوه لاهثة. بعد فترة، تهدأ أنفاسه، وكذلك أنفاسها. أظل أشاهدهما في الظلام فترة طويلة، وكل منهما يعلو صدره ويهبط، إلى أن أروح أنا أيضًا في النوم.

أستيقظ والضوء يغمر المكان عبر النافذة. الطبيب ليس موجودًا. أحكم لف القماشة الحمراء حول جسدي. تنغلق النافذة. على المائدة التي تحتها، أجد عددًا من الأصداف، وثلاث قطع معدنية صلبة. جميعها مستديرة مثل ظفر إبهامي، ولكنها أكبر. لونها فضي. أعض على إحداها بأسناني، غير أنها لا تنثني. كل منها منقوش على أحد وجهيها وجه رجل. 

طوال الأيام التالية، يأخذ الرجل الأبيض يبين لي كيف أخرج من القمرة، وأصعد إلى ظهر السفينة، وأين أجد هناك غرفًا للأسرى من الرجال والنساء. بإمكان النساء أن يزرن منطقة الرجال، ولكن الرجال مقيدون بالسلاسل، ولا يستطيعون مغادرة منطقتهم. الحراس المسلحون منتشرون لإجبارهم على البقاء في البقعة الصغيرة المخصصة لهم على السطح. 

بالنهار، أتحرك بحرية على ظهر السفينة، أما بالليل، فمن المفترض أن أنزل للمبيت في غرفة الطبيب. علمني كيف أعتني بطائره. يجب أن أغطي قفصه ليلاً بقطعة من القماش، وأنزعها في الصباح. عليَّ أن أنظف القفص، وأضع البندق للطائر، وأعطيه الأشياء التي يحبها، والتي يجلبها الطبيب إلى الحجرة. موزًا. لحمًا مطبوخًا. بطاطا، دخنًا أو أرزًّا. هذا الطائر يأكل كل شيء. في غياب الطبيب، آكل أنا الطعام. ينعق الطائر عندما آكل البندق، لذلك أعطيه بعضه. لو أنني أعود إلى بايو ذات يوم، لن يصدقني الناس أبدًا. "الطبيب الأبيض يحب طائرًا". "يتركه يحط على ذراعه". "يحبه كثيرًا لدرجة أن يعلمه الكلام بلغة البيض". بإمكاني فقط أن أتخيل ردود أفعالهم. سيرمونني بما في أيديهم من أشياء، وينفجرون ضاحكين، ولا ينقطع حديثهم في هذا الموضوع طيلة قمرين متواصلين. "احكي لي ثانية عن الرجل وطائره".

لا يحاول الطبيب أبدًا أن يلمسني بينما الطائر ينظر نحونا. أولاً، يجعلني أفرد القماش على القفص. هناك رجال تشتعل عيونهم بقصد الإيذاء، غير أن هذا الرجل الأبيض له عينان دامعتان زرقاوان واهنتان.. حتى عندما لا يكون بإمكان الطائر أن يرانا. كلما وضع يده على كتفي أو ظهري، أدفعه بشدة وأصرخ في وجهه غاضبة. عندئذ يبتعد خائفًا مثل كلب نهره صاحبه، ويبدأ في القراءة في كتاب يحتفظ به في الغرفة. يقرأ بصوت عالٍ. يبدو وكأنه يقول الكلمات نفسها مرات ومرات. من الغريب، أنه يعطيني أحيانًا أي شيء أطلبه. طعام. ماء. قطعة أخرى من القماش من الصندوق الذي يحتفظ به في قمرته. أو واحد من أقراصه المعدنية الغريبة، والتي تحمل وجه رجل على أحد وجهيها. 

الرجال البيض يحضرون الأسرى من محبسهم في مجموعات صغيرة كل يوم. أراهم يخرجون من الظلام متعثرين، ترف أجفانهم في الضوء الباهر، فيغطون أعينهم بأذرعهم. محبوسين في مقصورتهم الصغيرة على السطح، يُمنَح الرجال بعض الماء، والطعام، ويُسمَح لهم أحيانًا بالاغتسال. أرى رجلاً أكبر مني ينكفئ على وجهه وهو يحاول أن يشطف نفسه. لا يستطيع أن ينهض. ضلوعه بارزة، ويبدو منهكًا إلى أقصى حد. امرأة من وطني، أكبر مني وواهنة هي الأخرى، تعتني به، تدلك جبهته، وتسقيه من قرعة مليئة بالماء. أربعة من البيض يدفعونها جانبًا، ممسكين بالرجل من ركبتيه وإبطيه. يتداعى بين أيديهم، مفتقدًا أدنى قدرة على المقاومة. تصرخ المرأة، وتتوسل محاولة أن ترخي أصابع الرجال البيض القابضة عليه. يدفعونها بعنف، ويسحبونه إلى جانب السفينة، ثم يلقونه في الماء. 

في الأيام التالية، يزداد حزن المرأة إلى درجة تجعل أية واحدة لا تريد الاقتراب منها على السطح، ولا أن تقعي بجانبها عند دلو الطعام. أسمع من سانو ذات يوم أن المرأة لم تعد تريد الصعود إلى السطح. بعد يومين أو أكثر، لا تعود تتحرك. يحملونها ويقذفون بها إلى الأعماق، تمامًا كما فعلوا مع زوجها. لا أحد يقاتل من أجلها، ولا يتوسل. لا أحد يريد الحديث عنها عندما تذهب.  أسأل فانتا إن كانت تعتقد أن المرأة قد ماتت، على الأقل قبل أن يخرجوها من المحبس. 

تقول: "ششش." ثم تستدير مبتعدة.

أبدأ بمرور الأيام أدرك أنه كلما ازدادت النساء حرية في التجول، ازدادت المخاطر المحدقة بهن. تقول لي فانتا إنني حمقاء لأنني ذهبت مع الطبيب. تقول إنها تفضل النوم بجانب دلاء الخراء على النوم في سرير رجل أبيض. هي عادة ما تبقى في المحبس، والرجال البيض يتركونها تفعل ذلك بسبب ارتفاع بطنها في أواخر حملها. ولكن ليس أمامي فرص كثيرة للاختيار، وكثير من النساء الأخريات يُجبرن على قضاء الليل، أو جزء منه، مع زعماء الرجال البيض. الطبيب يأخذ امرأة إلى فراشه كل بضع ليالٍ. هناك ثلاث أو أربع نساء أثيرات لديه، وهو يجعلني أبقى في السرير حتى عندما يكون بصحبة امرأة. عندئذ ألصق نفسي بالحائط، وأسد أذنيَّ، وأدندن بصوت عالٍ محاولة أن أتجاهل التنهدات والاهتزازات. أعرف أنه ينام برهة، تقريبًا بمجرد أن يتوقف جسده عن الاهتزاز. أحيانًا تنهض المرأة من الفراش محاذرة بقدر ما تستطيع، فتنبش الغرفة، وتختلس ما تصل إليه يدها من الصندوق، داسة إياه في ثوبها. أحيانًا يستيقظ الطبيب جافلاً، فينهض، ويعطي المرأة شيئًا من الطعام أو الماء أو القماش الملون، ويتركها تخرج.

وهن في غرفته بالليل، لا تنظر النساء صوبي، ولا تلتقي عيوننا مطلقًا. أعرف أنْ ليس لي أن أتحدث إليهن. لن أقول أبدًا إن بنات الوطن يسرقن ما يستطعن سرقته من الصناديق التي تدخل قمرة الطبيب وتخرج منها يوميًّا. أرى مبارد حديدية تختفي في لفائف من القماش. أرى امرأة تأخذ برتقالة بموافقته، وتنتظر حتى يدير ظهره لتلتقط مسمارًا من الأرض، فتدسه عميقًا داخل الثمرة. 

على ظهر السفينة، أسمع النساء وهن يثرثرن. يقلن إن زعيم البيض مجبول كالحمار, وهو لا يعطي النساء شيئًا سوى ما يفوح من جسده من روائح خبيثة. ويقلن إن الشعر يغطي رقبته، وظهره، بل وأصابع قدميه أيضًا. تنخر فانتا محذرة من أن واحدة منا لا بد أن يكون مصيرها في معدته. 

بعد عشرة أيام في البحر، يبدأ البيض يفكون القيود عن بعض الرجال المسموح لهم بالصعود إلى سطح السفينة، ولكنهم يقيدونهم ثانية عندما يسوقونهم إلى محبسهم السفلي. يشجعني بيتون على أن أتعلم كل ما أستطيع تعلمه من كلمات البيض، حتى أتمكن من جمع المعلومات له. وهو يقول لي دائمًا أن آخذ أشياء من قمرة الطبيب.

يحذرني تشيكورا قائلاً: "لو أن بيتون يحبك فعلاً مثل أبيكِ.. لما حاول أن يعرضك للخطر.. قولي له إنكِ لم تجدي شيئًا."

ما زال فومبا صامتًا ومقيدًا. أعرف أن بيتون قال لي ألا أطلب أية امتيازات لفومبا، غير أني لا أطيق أن أرى بشرته المليئة بالقروح، ولا الدماء التي تغطي كاحليه. هو لا يريد حتى أن يشكو لي. أُقنِع الطبيب أن بإمكانه الوثوق بفومبا، وأن يحل قيوده ليقوم بإفراغ الطعام من أواني الطهي في الدلاء. أستطيع أيضَا أن أدبر مئزرًا لفومبا. ولكن بعد ذلك، بدأ يزعجني أن أرى النساء يقتربن من فومبا أحيانًا ويناولنه أشياء بعيدًا عن أنظار البيض. "ابتعدي عن المتاعب.. وابقي في أمان." هكذا أتخيل أبي وهو ينصحني. 

أستبقي بعض الطعام من قمرة الطبيب، وأحمله لفومبا وتشيكورا وفانتا وسانو على ظهر السفينة. ذات يوم، أُحضِر برتقالة لتشيكورا، فيمزقها ملتهمًا أحشاءها، وملقيًا بالنفاية في البحر. يصير وجهه كله ملطخًا بآثار البرتقالة، ويبدو وكأنه طفل يتعلم للمرة الأولى كيف يأكل بنفسه، غير أنه لا يكترث. فهو متخم بالأخبار.

"جائز أن فومبا لا يتكلم.. ولكن من المؤكد أنه يستطيع أن يستخدم يديه."

"ماذا فعل؟"

"تحت.. في المحبس.. أحضر مسمارًا وفتح قيده.. ظن بيتون أنها مصادفة.. قفله فومبا ثم فتحه مرة ثانية.. حاول بيتون أن يفعلها.. ولكنه لم يستطع.. طوال الليل وهو يحاول أن يفتح قيده بالمسمار.. لم يستطع.. صاح مناديًا فومبا الذي فتحه له في غمضة عين."

بعد ظهر يوم من الأيام، وقبيل غداء الأسرى، يظهر زعيم البيض على ظهر السفينة مستعرضًا ببقايا دجاجة فرغوا من أكلها. يلقي بها وسط زحمة الأسرى من الرجال. يتدافع الرجال ويتصارعون من أجل الفضلات، لاعقين ما يغتنمونه منها، مفتشين في العظام عن أي أثر للحم، وساحقين إياها من أجل النخاع. تُلقَى بقايا دجاجة أخرى وسطهم، ومرة أخرى يتقاتل الرجال. يضحك البحارة حتى يستلقوا على ظهورهم، ثم يرمون بواحدة أخرى. 

بيتون من بين الوطنيين الموجودين على ظهر السفينة. أسمعه وهو يصدر أوامره، وأرأى الرجال يكفون عن العراك، ويرجعون مبتعدين عن بقايا الدجاجة الثالثة. يلتقطها بيتون ملقيًا بها إلى زعيم البيض. 

يصيح بيتون: "أنت لا تجرؤ على قتلي.. أنا أهم من أن أُقتَل."

ليس لدى الرجل الأبيض أدنى فكرة عما قاله بيتون، ولكنهم يجلدونه على أية حال. أرى الجلدة الأولى وهي تمزق لحمه، فأذهب إلى غرفة الطبيب. لا أحتمل رؤية بيتون وهو يُضرَب بالسوط.

في اليوم التالي، يصعد إلى السطح ثانية، يمشي بصعوبة، ولكن من غير أن يئن. منذ ذلك اليوم، يصير بيتون زعيم الأسرى بلا منازع. 

لا يكره أبناء الوطن شيئًا مثل إجبارهم على الرقص فوق حلبة يعدها المساعد على سطح السفينة. ذات يوم، عندما يمرض المساعد تاركًا بحَّارًا من البيض ليكون مسؤولاً عن الحلبة، أبدأ أغني في أثناء رقصنا، منادية كل من رأيتهم بأسمائهم. أحاول أن أسمي كل واحد، وأن أذكر اسم القرية التي ينتمي إليها. 

لكنني لا أعرف سوى القليل فعلاً. 

أبدأ: "بيتون.. من ساما."

أغني: "تشيكورا.. من كينتا.. عيسى.. من سيراكورو.. نجولو من چيليبوجو.. فانتا من بايو." يزداد حماس أبناء الوطن قليلاً. كل من أقول اسمه من غير أن أخطئ، يصفق، بينما يردده الآخرون مرة واحدة. عندما أخطئ في اسم أحد، أو عندما لا أعرفه، يصفق هذا الشخص مرتين، ويرقص معي برهة وهو يغني ذاكرًا اسمه واسم قريته بصوت عالٍ. يحب الجميع هذه اللعبة، وعندما نؤمر بالرقص بعد ذلك، يأخذ كل منا دوره في الغناء، ذاكرًا أسماء الموجودين وقراهم، غير أنني بعد عدة أيام، أحفظ أسماء جميع من أراهم تقريبًا.

يجعلنا بيتون نلعب لعبة الأسماء، ونرقص بحماس يجذب البيض الذين يقتربون منا ويشاهدوننا في إعجاب. يتجمع البيض في نظامهم المعتاد؛ يتقدمهم الزعيم ونائبه والطبيب والقادة الآخرون. ذات مرة، يرقص بيتون بنفسه، مغنيًا لنا جميعًا لنسمعه. 

يتساءل وكأنه يغني قائلاً: "هل مساعد البيض موجود هنا؟ أرجوكم أخبروني يا رفاق." شخص ما يجيبه مغنيًا: "المساعد ليس هنا." يقول: "انظروا ثانية يا صحاب.. كي تتأكدوا." وعندما يتأكد بيتون أن المساعد ليس حاضرًا، يسرِّع من وتيرة رقصه، ويواصل غناءه قائلاً: "هذا الرجل ذو الشعر الذي يغطي ذقنه.. هو الزعيم الثاني.. وهو يدير السفينة.. نريد أن يعيش.. وهذا الرجل الثاني.. بكرشه المنتفخة وكأنه امرأة حبلى.. إنه زعيم البيض.. سوف يموت.. ولكن.. ننتظر مولود فانتا أولاً."

نبقى على ظهر السفينة دورة قمرية كاملة. الوطنيون يموتون بانتظام، بمعدل واحد أو اثنين يوميًّا. لا حرمة للموتى على الإطلاق. ارتطام رجل أو امرأة بالماء يزيدني فزعًا في كل مرة، ويضيف إهانة جديدة لأرواح الموتى. وفقًا لقناعاتي، هذا أسوأ من قتلهم. أصغي لصوت الارتطام رغم فزعي منه، غير أن الشيء الوحيد الذي يفزعني أكثر، هو ألا أسمعه أصلاً. أن تشق الجثة طريقها إلى البحر في صمت، يعني بالنسبة لي أنها تضيع في غياهب النسيان. في الليل، تملأ أحلامي صور لأناس يهوون من حافة بايو، ليتلاشوا في صمت، وكأنهم كانوا يسيرون وأعينهم معصوبة على حافة جبل شاهق.

البحارة البيض يموتون هم أيضًا على ظهر السفينة. في الأيام التي أرافق الطبيب فيها هنا وهناك، أرى بعضهم وهم يمرضون ويحتضرون. لثة تلتهب وتتورم، بلغم أخضر في البصاق، بقع سوداء تنتشر في البشرة، وقروح لها رائحة بشعة. عندما يموت قائد من البيض، يلقونه في البحر مرتديًا ملابسه. وإذا مات بحار منهم، يجردونه من ملابسه، ويلقون به إلى أسماك القرش التي تتبعنا كجوارح الماء. يوميًّا يرمي البحارة جميع أنواع المخلفات في البحر؛ دلاء الخراء، براميل الطعام الفاسد، فئران متعفنة. غير أنهم صاروا يفعلون ذلك بطريقة تجعلني أخشى ما هو أسوأ، كلما سمعتُ صوت ارتطام بالماء.

ليس في السفينة أطفال في مثل سني. ليس هناك من ألعب معه. باستثناء عدد قليل من المواليد الرضع، ليس هناك سوى الرجال والنساء. أنا محظوظة لأنني مع الآخرين في المحبس، ولكني غالبًا لا أجد ما أفعله. أحيانًا، أنام وحدي في غرفة الطبيب لأقتل الوقت. أو أسلي نفسي بإلقاء الفول السوداني إلى الببغاء، أو بتعليمه بعض الكلمات بالفولانية مثل "الرجل الأبيض سيدفع الثمن". أتخيل حوارات بين أبويَّ. أجعلهما يتناقشان بخصوصي. "تنام مع المرأة في المحبس." "كلا.. من الأفضل أن نتركها مع الرجل الأبيض لأنه غير مؤذٍ." "غير مؤذٍ؟ هل هو غير مؤذٍ مع النساء ليلاً؟" عندما يدق رأسي بعنف بسبب هذا النوع من النقاش، أدير دفة الحديث نحو البيت. "أنتِ قضيتِ وقتًا أطول مما يجب في زيارة النساء في القرى الأخرى.. بينما لم نزرع ما يكفي من الدخن.. النسوة يشتكين كل مرة تتخلفين فيها عن الذهاب معهن إلى الحقول." "أنا لا أزور النساء.. أنا أولدهن.. وأحضر إلى البيت دجاجًا وأواني وسكاكين.. بل إنني أحضرت عنزة ذات مرة.. أنا لا تهمني نساؤك الحمقاوات في الحقول.. هل يزرعن دجاجًا هناك؟ هل يزرعن ماعزًا؟"

ذات مساء ونحن على السطح، تخبرني فانتا أنها تحس بتقلصات في بطنها، وأن ساعة الوضع قد حانت. أشير إلى تشيكورا، بينما يقتاده الحراس عائدين به إلى محبسه السفلي ليقضي الليل. يومئ حين يراني أشير نحو فانتا، جاعلة يديَّ المضمومتين تنزلقان معًا من أعلى بطني إلى أسفله.

منذ فترة، وأنا أتحرك كل يوم جيئة وذهابًا بين سطح السفينة وغرفة الطبيب في الأسفل، ولا يجرؤ أحد على أن يوقفني، لأنني أخصه. هذه المرة، أحضر فانتا معي. هذه أول مرة تنزل فيها إلى مكان إقامة الرجل الأبيض. حين ترى إناء الطبخ المخصص للبيض، تصيح قائلة: "يجب أن نقتلهم قبل أن يسلقونا جميعًا."

في قمرة الطبيب، أفرش على السرير مزيدًا من قطع القماش، وأحضر دلوًا من الماء بالقرب منه. أتمنى لو تتم هذه الولادة سريعًا. 

تقول فانتا: "أستطيع أن أبقى هنا طوال الليل.. لو أن هذا الأمر يستغرق وقتًا طويلاً.. ولن أقضي الليل في السرير مع أي رجل أبيض.. سأموت قبل ذلك.. أو سيموت هو."

أضع يدي على كتفها، وأقول لها أن تفكر في المولود. تمتعض.

"لم أعد أهتم بذلك منذ وقت طويل.. لن يفعل أي رجل أبيض بهذا المولود ما فعلوه بنا." تسري قشعريرة في جسدي.

يجب أن أبتعد عن فانتا هنيهة. يجب أن أستجمع نفسي، لهذا أفعل ما قاله لي الطبيب من قبل. آخذ من الغرفة طستًا معدنيًّا واسعًا، أخرج لحظة، وأشير إلى العامل الأبيض، الذي يعمل على نيران الطهي، أن يلقي في الطست قطعتي حديد مسخنتين لدرجة الاحمرار. أرجع بالطست والقطعتين إلى القمرة. في الداخل، فانتا مصوبة إصبعها نحو الطائر، بينما فمها مفتوح عن آخره. الطائر يصرخ في وجهها. ألقي له بضع حبات من الفول السوداني، وألقي فوق القفص قطعة من القماش لأجعله يصمت.

تقول فانتا: "لا تعطي طعامًا لهذا الشيء.. خذيه لنفسك.. أعطيه للآخرين.. أعطيه لي."

"يجب أن أطعم هذا الطائر.. وإلا سوف يموت.. وإذا مات.. فإن الطبيب..."

تقول: "أعرف.. أعرف."

أصب في الطست عدة دلاء من المياه، وأجعل فانتا تجلس فيه. تقعي بحرص متحاشية المعدن الساخن.

تقول: "لم أستخدم ماء ساخنًا مثل هذا منذ كنا في بايو."

أقول: "هممم!"

"هل تفعلين هذا؟"

"أحيانًا."

"هل يراكِ؟"

"نعم."

"يلمسكِ؟"

"حاول.. ولكني ما كنتُ لأسمح له."

"تستطيعين أن تفعلي ذلك؟"

"يكف عندما أنظر في عينيه وأكلمه بحدة."

"هو رجل ضعيف.. والضعيف يموت أولاً."

لا أستطيع أن أسأل مَنْ مِنَ الضعفاء تقصدهم فانتا.. الوطنيين أم البيض؟

تسترخي فانتا قليلاً. أراها تجتاز نوبة قصيرة من الانقباضات. تنتهي من حمامها، تجفف نفسها بقطعة من القماش أعطيتها لها، ترتعش، وتصعد إلى السرير.

تسأل فانتا: "هل تسمينه أي شيء؟"

"من؟"

"الطبيب.. هل تنادينه بأي اسم؟"

"له اسم.. يشبه ‘توم’"

"هل تنادينه هكذا؟"

"كلا.. أنا لا أناديه بأي شيء أبدًا.. فقط أكلمه.. لا اسم."

"حسنًا."

تعاودها الانقباضات لبعض الوقت، غير أنها تتلاشى في النهاية لتستغرق فانتا في النوم. في هذه الأثناء، يجيء الطبيب إلى الغرفة. ترتفع يداه فجأة. يبدو مذهولاً.

أقول: "مولود.. حالة ولادة." كان قد علمني هذين المصطلحين.

"لا."

أقف. أنظر في عينيه. هذه هي الطريقة الوحيدة. كانت تفلح حينما كنت أدفع يديه بعيدًا عني، وأتمنى أن تفلح الآن. أقول ثانية: "حالة ولادة." وأضيف بالبامانية في إصرار، قائلة: "اِذهب.. الأم نائمة."

يتساءل: "متى؟"

أقول: "الولادة حالاً."

يتناول برتقالة من جيبه، ويستل من حزامه سكينًا طويلة لها مقبض مصنوع من سن الفيل. ثم يقطع البرتقالة، ويضعها والسكين على منضدة صغيرة، موضحًا أن بإمكاني أن أتناول الطعام مع فانتا. يستدير، ويلتقط قطعة قماش أخرى من صندوقه، تاركًا إياها عند قدمي فانتا. تقع عيناي على السكين. ينساها الطبيب على المائدة. يتناول جرعة من زجاجة، ويدسها ثانية في صندوقه، ثم يلتقط بضعة أشياء قليلة أخرى، ويغادر الغرفة.

أجلس على حافة السرير في انتظار أن تصحو فانتا. يتعالى شخيرها. أفكر في مشاكستها فيما بعد، قائلة لها إنها كانت تبدو مثل خنزير بري. عندما تستيقظ أخيرًا، تجلس بسرعة، وتروح تنظر حواليها حتى تتذكر أين هي. تتوجع، وتستلقي على ظهرها.

تقول: "يجب أن تعرفي شيئًا."

أقول: "لن يؤكل أحد.. لا تفكري الآن في ذلك."

تقول فانتا: "في ظرف موسم مطر أو موسمين على الأكثر.. كنتِ ستصبحين الزوجة التالية لزوجي."

أفغر فمي، وأجذب يدي بعيدًا عنها. "هذه أكذوبة." تقول فانتا: "هذا هو سبب عدم حبي لكِ.. كنتِ صغيرة آنذاك.. لم تبلغي حتى نصف امرأة.. وكنتُ أعرف أنكِ ستصبحين الأثيرة لدى زوجي ذات يوم." تنتشر حبات العرق فوق جبينها، ولكني لا أحرك ساكنًا لكي أمسحها. تردف فانتا: "كنتُ سأجعل أمك تترككِ عند الباب.. وبمجرد أن نصبح وحدنا.. أوسعكِ ضربًا مبرحًا.. كنتُ سأنتقم منكِ."

أقول: "أنا لا أصدقكِ.. ما كان أبي وأمي سيوافقان مطلقًا."

"كلا؟ في ظنك.. ما الذي كان سيقوله صائغ لزعيم القرية؟ ألم يكن من الأفضل أن يوافق وأن يتفاوض حول الشروط المناسبة؟"

"أنا لا أصدقكِ."

"ألا تريدين أن تعرفي ما الذي ستكونينه؟"

"كلا."

"يومًا ما.. سوف تكرهين الناس مثلي تمامًا.. لن يكون لكِ هذا الوجه الطفولي الذي يجعل الجميع يحبونكِ.. ويصفقون بأيديهم فخورين بأن حشرة صغيرة مثلك تستطيع فعلاً أن تولِّد النساء.. تعرفين يا أميناتا؟ أية واحدة يمكنها أن تنجب.. وأية بلهاء تستطيع أن تولِّد."

يعقد الغضب لساني، فلا أعرف ماذا أقول. أريد أن أغرس السكين في أحشائها. أن أنزع شعرها. أن أصرخ قائلة إنها كاذبة وإن والديَّ لم يكونا ليتركاني أذهب لهذا العجوز قط. حتى وإن كان الزعيم. ولكني أعرف أنني لا أستطيع أن أؤذيها، ولا أن أصرخ. علمتني أمي جيدًا. عندما تولِّدين امرأة، كوني هادئة. قد تتصرف الأم كما لو كانت مستبدة، أو طفلة متوحشة، أما أنتِ، فلا. في أثناء التوليد، أنتِ لا تكونين نفسكِ. تنسين نفسك وتساعدين الآخرين. أبتلع ريقي. أتساءل إن كان ما قالته فانتا حقيقيًّا. ثلاثة أقمار على اليابسة، وقمر واحد على ظهر سفينة البيض هذه ذات الرائحة النتنة، والحزن يستعر بداخلي، وها هو الآن ينفجر. تنهمر الدموع من عينيَّ، وتتلاحق أنفاسي. أجهش بالبكاء، بينما فانتا مستلقية على ظهرها، تراقبني وتنتظر. تنتابني رعشة فظيعة للحظات قليلة، تتسمر قدماي تحتي، عيناي مغمضتان، ويداي معقودتان. أظل أهتز وأترنح، حتى أستلقي أخيرًا على الأرض. ليس لديَّ ما أفعله سوى أن أتضرع، كما لم أفعل منذ وقت طويل جدًّا، إلى الله. أغمغم: "الله أكبر." الله عظيم.

تقول فانتا: "لا تضيعي وقتكِ في هذا بعد الآن.. ألا تستطيعين أن تفهمي أن الله ليس موجودًا؟ البيض يحكموننا.. ولا شيء هنا غير الجنون."

ربما كان هذا صحيحًا. قد لا يكون الله موجودًا إلا في بلادي، مع أبناء الوطن. ربما لا يكون موجودًا على ظهر سفينة البيض، ولا في بلادهم. لا أقول شيئًا. أحاول أن أدفع بكل الأشياء التي قالتها فانتا إلى غرفة ضيقة في عقلي، وأحاول أن أغلق بابها. أتخيل صوت أمي، هادئًا، وواثقًا. "لدينا حالة ولادة."

بدأ جسد فانتا يرتعد ثانية. أقترح أن أفحصها بيدي لأرى إن كانت جاهزة، ولكنها ترفض. بدأت الانقباضات تنتابها بعنف، ولمدة طويلة، وبشكل متواصل تقريبًا، فأترك لفانتا أن تقرر متى تبدأ الحزق. لا أريد أن أرشدها. سأعطيها ماءً، وأمسك يدها، وأنتظر زوجة الزعيم حتى تقرر ما الذي تفعله في الخطوة التالية.

تظل تحزق فترة طويلة، ثم تستوي على ظهرها مسترخية. تبدو وكأن شيئًا ما أمسك بجسدها ثانية، فتعاود الحزق مرة أخرى. تسترخي مجددًا، ثم تحزق بقوة حتى أبدأ أحس بحركة أمعائها. تقول: "الآن." تحزق ثلاث مرات أخر. أرأى شعرًا لرأس بدأ يفارقها، غير أن المولود لم يأتِ بعد. تحزق مرة أخرى، فيخرج الرأس كله، أزرق ومائلاً إلى الأرجواني، وبه بقع من الدماء وأخرى بيضاء. تحزق مجددَا، فتخرج الكتفان. ينزلق الباقي سريعًا: بطن، وعضو ذكوري، ورجلان، وقدمان. أستخدم سكين الطبيب في قطع الحبل السري، ثم ألف الوليد، وأعطيه لأمه. يبدأ الطفل يبكي، فتتركه فانتا يبكي طويلاً قبل أن تسمح له بأن يعثر على حلمتها. هي ليست أمًّا فخورة، بل غاضبة. أحاول أن أجعلها ترقد مستريحة على السرير، ولكنها تدفعني بعيدًا.

أدير ظهري، وأجلس على دلو الفضلات. يبدأ الوليد يصرخ ثانية، فأستدير لأرى فانتا واقفة تترنح في الغرفة. تزيح الغطاء عن قفص الطائر، تفتح بابه الواسع، وتمسك الطائر من منقاره. يخمشها بمخالبه، فتسبه، غير أنها تظل تمسكه.

أصرخ: "كفى."

تتجاهلني. تمسك سكين الطبيب في يدها. تظل تطعن وتطعن حتى تتوقف المخالب عن خمشها، ويسكن الجسد تمامًا. تلقي بالجثة ثانية في القفص، تغلق الباب، وتغطيه بقطعة القماش. بعد أن تنظف السكين، تلف نفسها، وتدس السكين في ثوبها. بعد ذلك تلتقط رضيعها الذي ما زال يصرخ، دافعة وجهه نحو حلمتها. تنام والرضيع ثانية، غير أني أبقى صاحية، خائفة مما سيحدث حين يعود الطبيب، ويزيح الغطاء عن القفص. يلوح ضوء عبر النافذة الصغيرة، ولكن ليس ثمة أثر للطبيب.

أوقظ فانتا، ونصعد ثلاثتنا إلى السطح، بينما تلوح في الأفق تباشير الصباح. قمر شاحب معلق في أسفل السماء، وفي اللحظة نفسها، تلوح الحافة العلوية لكرة نارية وهي تتوج في الجانب الآخر من الأفق. المتاعب تأتي عندما يجتمع القمر والشمس في سماء واحدة.

يرى الطبيب المولود، فيروح يدندن بأغنية مرحة. يربت على كتفي. يخطو خطوة نحو فانتا، ولكن تستوقفه النظرة التي تلوح في عينيها. فانتا الآن واقفة على قدميها في ثبات. أتذكر كيف استطاعت فانتا أن تمشي ثلاثة أقمار وفي بطنها جنين آخذ في النمو، وكيف شقت الببغاء، بينما كان يضرب برجليه، ويخمش جارحًا رسغها. الشمس تبدد السحب. الآن هي كرة ملتهبة حمراء. يبدأ القمر يتلاشى في السماء، ولكنني أحس أنه راحل عني ليجعلني أعتمد على نفسي.

الرجل الأبيض ذو الشعر البرتقالي سعيد بالطفل لدرجة أنك تشعر وكأنه هو الذي كان يحمله في بطنه. يرسل نفرًا من البحارة البيض، فيعودون بصحبة الزعيم والمساعد. يتحدثون ثلاثتهم. بعد أن يتلقى التعليمات، يحدثني المساعد، ولكني لا أفهم. يكرر المساعد ما قاله. أُدركُ أن الطبيب يريدني أن أنادي على الرجال الموجودين بالأسفل. يجب أن أخبرهم بأن فانتا وضعت مولودها.

رجل أبيض يرفع الباب المؤدي إلى محبس الرجال. أنزل بضع درجات في الظلام. أكاد لا أرى.

أهتف بالبامانية قائلة: "ولد لفانتا."

يأمرني المساعد قائلاً: "أعلى."

أصيح ثانية، ثم أكرر بعد ذلك بالفولانية.

كنت أتوقع أن يهلل الرجال، وأن نرقص جميعًا عندما نصعد إلى سطح السفينة. ولكن لا حركة. لا صوت. ولا حتى همسة. أسمع صليل قطع معدنية ترتطم ببعضها. بحسب أوامر المساعد، أنادي مرة أخرى. لا حياة لمن تنادي. أصعد عائدة إلى السطح.

مرة أخرى، يتشاور الطبيب مع زعيم البيض والمساعد. يرسلون اثنين من البحارة بصحبة المساعد، مسلحين بالهراوات وعصي اللهب، ومعهم شعلة للإنارة. يهبطون عبر الباب الأفقي. أسمع المساعد وهو يصرخ في طريقه بأن فانتا وضعت مولودها، وأن بإمكان الرجال أن يصعدوا إلى السطح ليرقصوا مع النساء. يذهب بحار من البيض ليخرج النساء عبر الباب الأفقي المخصص لهن.

شخص ما يمس مرفقي. أستدير. هي سانو، ممسكة طفلتها بين ذراعيها. الطفلة نائمة. تصعد سانو لتعانق فانتا، التي راحت تحملق فيها ببرود. تتراجع سانو، لتقف إلى جواري مرة أخرى. النسوة الأخريات، وقد أتى بعضهن من محبسهن، وبعضهن من غرف القادة البيض، بدأن يتجمعن حولنا.

في تلك اللحظة، يبدأ أبناء الوطن من الرجال يتدافعون خارجين من محبسهم. يتحركون بسرعة كبيرة، لدرجة أن الحارسين أدركا على الفور أنهم ليسوا مقيدين. يُلقَى الحارسان من الباب الأفقي، لتتلقفهما أيدي الرجال الصاعدين.

يطلق الحارسان النار بشكل متواصل. يصاب بعض الوطنيين في الوجه أو الصدر، فيسقطون من فورهم في طريق الرجال المندفعين كالسيل، بينما يتدافع الآخرون عبر الفتحة مهرولين إلى السطح. حوالي عشرين أو ثلاثين رجلاً يتمكنون من الهرب عبر الفتحة، قبل أن يشتد إطلاق النار ليصل إلى درجة تجعل كل من يظهر صدره، يتلقى طلقة تعيده ثانية إلى المحبس.

يمرق بيتون من جانبي، وفي إحدى يديه مبرد حديدي، وفي الأخرى الأغلال التي كانت حول كاحله. يطعن واحدًا من البيض بالمبرد في عينه، ويهشم بالأغلال وجه واحد آخر.  واحد من أبناء الوطن يستخدم مسمارًا صدئًا ليفقأ عين واحد من البحارة. القادة البيض مستمرون في هجومهم العنيف بعصي اللهب.

الطلقات تدوي حولي من جميع الجهات، والنساء تصرخ. أستند بظهري إلى جدار السفينة. امرأة تثب على ظهر بحار من البيض، قابضة عليه كالقردة، وغارسة أصابعها في عينيه. أبناء الوطن، رجالاً ونساء، يصرخون، وكذلك بعض الرجال البيض. آخرون من البيض يصيحون بالأوامر. عصيهم قاتلة، ولكنهم يستغرقون بعض الوقت لكي يستعملوها أكثر من مرة. بالسكاكين والمطارق والأظافر والأيادي الغاضبة، يستطيع الوطنيون أن يهاجموا أسرع.

على يساري بخطوات قليلة، فانتا مقعية. أظنها في البداية جريحة، أو منهكة من الولادة. محنية، والطفل يتلوى على قطعة من القماش إلى جوارها. تمد فانتا يدها في ثوبها. الطفل يصرخ صرخة قصيرة. يرفس الهواء بكعبيه. تخرج فانتا السكين التي أخذتها من غرفة الطبيب، وتضع إحدى يديها على وجه الطفل رافعة ذقنه لأعلى. تغرس طرف السكين في رقبة الطفل، ذابحة إياه. بعد ذلك، تغطيه بقطعة القماش الزرقاء، ثم تقف ملقية إياه من فوق السفينة. تغثى نفسي، و تخور قواي، غير أنني لا أستطيع أن أجذب عيني بعيدًا عنها. تجري فانتا وراء الطبيب، الذي يصوب عصا النار في اتجاه آخر، وتغرس السكين إلى آخرها في قفاه. يحاول أن يستدير، ولكنه يخر على ركبتيه. ينكفئ على وجهه وقد جحظت مقلتاه، بينما ذراعاه ممدوتان باتجاهي. يندفع الدم خارجًا من فمه. تبدو عيناه مثبتتين صوبي. لا أحتمل أن أنظر في عيني هذا الرجل المحتضر، وأتمنى لو يموت سريعًا.

يهاجمني أحد من الخلف. أنا الآن ميتة لا محالة. أسقط على الأرض وأنا أغمغم قائلة: "الله أكبر." ولكن لا يد تلتف حول عنقي، ولا سكين تنغرس بين ضلوعي. هو فومبا، راقد فوقي. يسيل الدم من ذراعه على وجهي. يقفز ناهضًا مرة أخرى. معه مطرقة في يده الجريحة، يحطم بها جمجمة واحد من البيض كان يسدد عصا اللهب نحو بيتون.

يشل الرعب حركتي. تهرول فانتا صاعدة إلى السطح نحو سانو، التي تنكفئ على طفلتها، محاولة أن تجنبها الأذى. تشير فانتا بجنون إلى سانو، محاولة انتزاع الطفلة منها. تتشبث سانو بطفلتها، ولكن تشدها فانتا ثانية، تدفعها وترفعها، وأخيرًا تضرب سانو ضربة شديدة في أنفها. تقع سانو على ظهرها. فانتا تمسك الطفلة من رجلها، بينما الطفلة تصرخ فزعًا. أحاول أن أنهض. يجب أن أصعد إلى هناك. يجب أن تسمعني فانتا. ولكن قبل أن أتمكن من الحركة، تمسك فانتا الطفلة من كاحلها. لا أدري أي نوع من الجنون هذا الذي ينتابها. تخطو نحو الدرابزين، ملقية بالطفلة إلى المياه المترقبة. تقفز سانو عاليًا. فمها مفتوح، غير أني لا أستطيع أن أسمع صوتها الذي يتلاشى وسط طلقات النار، وصرخات البيض وأبناء الوطن. تصعد سانو الدرابزين، ملقية بنفسها في أثر ابنتها إلى البحر.

الآن، تحاول فانتا أن تتسلق الدرابزين، ولكن يهاجمها رجل من البيض، ويطرحها أرضًا، ثم يوسعها ضربًا. إلى جواري، واحد من أبناء الوطن، مغروس في أحشائه سيف. ينكفئ عليَّ مغطيًا جسدي، بينما ينساب دمه حارًّا على جلدي. يمرق رجلان من جانبي، ويقفزان في البحر. يجفلني هذا الارتطام الثنائي. امرأة تقفز من فوق السفينة. وكذلك امرأة أخرى. أحاول أن أدفع جثة الرجل بعيدًا عني. مستحيل. بيتون مشتبك مع زعيم البيض، الذي لم تعد عصاه تطلق النار. يرفع الزعيم عصاه. ينحنى بيتون جاذبًا قدم الزعيم، فيطرحه أرضًا. رجل آخر من أبناء الوطن، يستعمل مطرقته ضاربًا جمجمة الزعيم. مرة، وما زال الرجل الأبيض يتحرك. مرة ثانية، فيسكن تمامًا. رجلان من البيض يغلقان الباب، ويحكمان إغلاقه. أحد البحارة يقاتل تشيكورا، فيجرح ذراعه بسكين. يسقط تشيكورا ممسكًا كتفه، ولكن يثب فومبا من الخلف. يمسك البحار من شعره، جاذبًا رأسه للوراء، ومطبقًا بيده الأخرى على أعضاء الرجل، ليطوحه من فوق ظهر السفينة. يتلقى فومبا ضربة قوية على قفاه بمؤخرة إحدى عصي اللهب، فيسقط بعنف على الأرض.

رجل من أبناء الوطن يستخدم حوضًا خشبيًّا، ليخبط بحارًا من البيض جاعلاً محتويات دماغه تتناثر، ولكن تصيبه عندئذ طلقة تحدث فجوة في صدره. لا أقوى على رؤية هذا الشلال من الدماء. يحضر اثنان من البحارة مجموعة جديدة من عصي اللهب إلى البيض، الذين راحوا يطلقونها على كل من ظل يقاتل من أبناء الوطن.

يسقط اثنان آخران من أبناء الوطن بطلقتين. أغمض عينيَّ لحظة. لم أعد أسمع المزيد من صيحات القتال التي يصدرها المهاجمون من أبناء الوطن. الآن، ليس ثمة واحد منا ما زال واقفًا على قدميه. ليس هناك سوى الأنين، وأصوات عصي النار المدوية. ثم تتعالى قعقعة مدوية، بينما راح البيض يشدون وثاقنا جميعًا بالقيود الحديدية. فومبا مغلول من قدميه. تشيكورا ينزف، ولكن ليس إلى الحد الذي يجعلهم يلقونه من فوق السفينة، ولذلك فهو أيضًا مقيد. بيتون مضروب بوحشية، وفمه محشو بقطعة من القماش، والقيود الحديدية في قدميه. أمامي جثث ثلاثة من البحارة البيض، علاوة على جثة الطبيب، وجثة الزعيم. أحس بأني مخدرة. وسط كل هذه الجثث المتناثرة، سواء النازفة أو فاقدة الوعي أو الميتة، لا أستطيع أن أعرف كم قُتِل من أبناء الوطن، وكم منهم ابتلعهم البحر.

البيض هنا وهناك، يجرجرون أقدامهم، ملابسهم ممزقة، وشعورهم سائبة، ووجوههم عابسة، والدماء تسيل من جراحهم. واحد منهم يصرخ في الآخرين، الذين يتجهون إلى حيث أشار فاعلين ما أمرهم. أنا أيضًا مغلولة بالحديد. المعدن يخبط كاحلي. غير أني ما زلتُ حية. كل ما عليَّ الآن، هو أن أبقى ساكنة.

أنظر إلى أعلى، عبر الكلابة الحديدية التي تحيط بقدمي. بحار ضخم بنطاله ساقط حتى ركبتيه، يمسك فانتا ممدة على سطح السفينة. يثبِّت معصميها بيده الغليظة، بينما يتأرجح عضوه الذكري مثل لسان منتصب طويل، يلطمها بيده الأخرى، ملقيًا نفسه عليها. رجل أبيض آخر يخبطه على رأسه بدلو من الخشب. يستسلم المعتدي، ويتدحرج من فوق فانتا راكلاً إياها. تُوضَع في الحديد، وتُحشَرت في فمها قطعة من القماش لكي تبقى صامتة.

يرمي البيض، من فوق ظهر السفينة، بجثث الموتى من أبناء الوطن. وسط صرخات الاحتجاج، يمسكون أيضًا ذوي الإصابات البالغة من الجرحى السود، دافعين بهم إلى السطح. ما أن يصعد أبناء الوطن إلى السطح، حتى يصرخوا من جديد. سبع أو ثمانٍ من جثث البيض الذين سقطوا متخذين كل أوضاع الموت التي يمكن تخيلها: وجوههم لأعلى، وجوههم لأسفل، على جنوبهم، معلقين على قضبان الدرابزين. زعيم البيض والطبيب كل منهما راقد على ظهره، وميت مثلما تمنيتُ. أغمغم لنفسي: "الله أكبر." ولكن ربما كانت فانتا محقة. قد يكون الله مستحيلاً هنا.

لا يعدم البيض بيتون. يعلقون بعض أبناء الوطن من أصابع الإبهام، ويجلدونهم حتى الموت. ولكن لا يفعلون ذلك إلا بالرجال الضعفاء والمقعدين، وأولئك الذين لا يساوون الكثير بالنسبة لهم. أظن أنهم سيقتلون فانتا، أو ربما جميع النساء، ولكنهم لا يفعلون ذلك.

من بعد التمرد، وهم يتركوننا مقيدين طوال الوقت. يحضروننا إلى أعلى في مجموعات صغيرة لنشاهد عمليات الجلد. يجعلوننا نأكل ونشرب، ثم يسوقوننا إلى أسفل مرة أخرى. لا استحمام. لا ملابس. لا ترفيه. لا نساء في غرف القادة البيض. يؤمر البحارة بالنزول إلى أسفل مسلحين بعصي النار والهراوات. يخرجون جثث الموتى، ويجمعون كل ما يجدونه من الملابس والأسلحة التي لم تُستخدَم.

مع كل إشراقة شمس، يموت المزيد من الناس. نهتف بأسمائهم وهم يجرجرونهم خارج المحبس. "ماكيدا من سيجو." "ساليما من كامبولو." على الأقل، لن أسمع ارتطام الجثث بالماء وأنا هنا في الأسفل. برغم عتمة المحبس وقذارته الشديدة، لم أعد أرغب في رؤية الماء، ولا في استنشاق الهواء على السطح.

بعد ما يبدو لي وكأنه أيام عديدة، يبدأ البيض يحضروننا ثانية إلى السطح في مجموعات صغيرة. يمنحوننا طعامًا، وشرابًا كريهًا به قطع صغيرة من الفاكهة. يعطوننا أحواضًا وماء لنستحم. يحرقون القار في أماكن نومنا، فنختنق، ونصاب بالغثيان. يحاولون أن يجعلونا نغسل الألواح الخشبية التي ننام عليها، ولكننا أضعف من ذلك. ضلوعنا بارزة، ومؤخراتنا تُسْهِل. البحارة البيض يبدو عليهم المرض الشديد. الكثير منهم يموتون، ويُلقَون في البحر بلا طقوس.

بعد شهرين في البحر، يحضر البيض كل واحد فينا إلى السطح. يجعلوننا نستحم عرايا. لا يتبقى منا سوى الثلثين. يمسكون هؤلاء الذين لا يقدرون على المشي، ويلقونهم من فوق السفينة، واحدًا واحدًا. أغمض عيني، وأسد أذني، ولكنني لا أستطيع منع الصراخ تمامًا من الوصول إلى مسمعي.

ذات مرة، بعد أن تنتهي الضوضاء، أفتح عيني وأحدق في الشمس الآفلة. من مكانها فوق الأفق مباشرة، ترسم الشمس مسارًا قرمزيًّا عبر الماء الساكن. نبحر بانتظام نحو القرمزي الساحر، الذي لا يفارقنا أبدًا، دائمًا يظل قريبًا، ولكنه، أبدًا، لا يكون معنا. يبدو وكأنه يقول: "تعالوا من هنا." بعيدًا في اتجاه الشمس، يمتد أمامنا شيء ما رمادي، ومتصل. يكاد لا يُرى، ولكنه هناك. نحن نتحرك باتجاه الأرض.

عندما يعيدوننا إلى السطح في الصباح التالي، أراه ثانية. إنه الآن أقرب كثيرًا. أرض. أشجار. شريط ساحلي. بل وأكثر قربًا من الساحل، هناك جزيرة صغيرة. أراها الآن بوضوح. لا أشجار، وإنما حاجز عريض. ذلك هو ما نحن متجهون صوبه. يفكون قيودنا. يظهر تشيكورا إلى جواري، يكاد يكون جلدًا على عظم.

"آسف يا أميناتا."

أقول: "لقد فقدنا وطننا.. فقدنا أهلنا."

"آسف لما فعلته لكِ."

أنظر إليه بعين لا تعبر عن شيء. كونه كان يعمل ذات يوم مع لصوص البشر، ذلك آخر ما أفكر فيه. "أشعر بالبرد.. ولا أستطيع حتى أن أصلي.. الله لا يقيم هنا."

يقول تشيكورا: "ما زلنا أحياء يا أميناتا.. يا ابنة بايو.. لقد عبرنا البحر.. لقد نجونا."

وهكذا، فإن السفينة التي أثارت الرعب في قلوبنا في المياه القريبة من ديارنا، هي نفسها التي أنقذت بعضنا على الأقل من الغرق في الأعماق. نحن، الناجين من العبور، تعلقنا بذلك الوحش الذي اختطفنا بعيدًا. لا أحد بيننا كان يرغب في اعتلاء تلك السفينة، ولكن ما أن خرجنا إلى المياه التي لا حدود لها، حتى تشبثنا بحبالها خوفًا وفزعًا. صارت السفينة امتدادًا لأجسادنا المتعفنة. هؤلاء الذين تحرروا من هذا الحيوان العائم، سرعان ما لقوا حتفهم غرقًا، أما نحن الذين بقينا عالقين به، فقد ازداد ذبولنا بطئًا كلما تغلغل السم في أحشائنا. بقينا مع الوحش حتى وطئت أقدامنا أرضًا جديدة، ونزلنا عبر السقالات الطويلة، بخطًا متعثرة، قبل أن يصبح السم مميتًا. ربما نظل على قيد الحياة، هنا في هذه الأرض الجديدة.