القاهرة 06 مارس 2018 الساعة 12:30 م
سمير فوزى
1-
رائحة أشياء قديمة لم يمسها الهواء منذ زمن بعيد، لم تفلح في إخفاءها المبخرة التي لا يتركها الشيخ شحات من يده.
توقعوا أن يكون الرجل قد شاخ، أن يروه ضعيفًا بظهر مقوس، تكاد قامته تصل الأرض, سيخرج محمولًا أو على الأقل على كرسي متحرك، أطراف ترتعش، جلد تكرمش أضاع ملامح الوجه، أكبر من على الأرض، لا يستطيع أحد تحديد عمره، حاضرٌ في كل الأحداث والحكايات التي تُروي و طرف فيها.
يتطلعون في وجوه بعضهم، يبحث كل منهم عن أحد يعرفه، الوجوه غريبة، الذكريات بينهم منعدمة، لا تاريخ يجمعهم، أنماط متنوعة، من يرتدي بدلة كاملة برباط عنق وحذاء يلمع، من يرتدي جلبابًا شعبيًّا، شباب صغير ورجال بشعر أبيض أو رأس أصلع تمامًا، الكابتن بيومي بزيه الرياضي المعتاد يبدو الأكثر قلقًا ينظر في ساعته دائمًا، معتز الفوال انتحى ركنًا، يفكر ماذا يريد الرجل منه بعد أن طرده وفرّج عليه الناس ومنعه من الصلاة على أبيه، هناك من يتجولون في جنبات البيت الواسع ويدخلون غرفه، يدقون بأيديهم على الجدران يختبرون متانتها، المرأة الوحيدة بينهم بنظارة طبية سميكة وعكاز في يدها تجلس على كرسي وترفع ساقًا على كرسي أخر تتفرس الوجوه، شاب صغير يرفع كاميرا هاتفه المحمول، يدور على الحوائط والجالسين والداخلين من الباب، يرصد تحركاتهم جميعًا.
الصمت يلف الجميع فلا شاغل مشترك بينهم إلا استدعاء الجد لهم والرغبة في المعرفة.
أغلق الشيخ شحات الباب الحديدي الصدئ خلفهم، ووجههم إلى حيث ينتظرونه.
طال انتظارهم فهمس أحد المنتظرين للذي بجواره.
- "ها يلطعنا كتير؟".
رد عليه:
- "الله أعلم".
- "شفته قبل كدا ؟".
- "مرتين، حضرتك تقرب له إيه؟ ".
- "أنا مصطفي ياسين حفيده، ابن ياسين ابنه الكبير، قابلته مرة واحدة لما قبضوا على سيد ابني ولفقوا له قضية رشوة، مأمور جمرك عشان يعدي له بضاعة مستوردة –تصدق بالله إسكندرية كلها كانت تعرف إن مأمور الجمرك دا مرتشي– المهم قالوا لي جدك الفوال إيده طايلة ومعارفه كتير ممكن يخرجه لك جت له".
- "وحلها؟".
- "طردني، الكلام دا كان من عشر سنين ".
- "وابنك".
- "ولا حاجة، طلع براءة ودلوقتي نائب في البرلمان، أكيد سمعت عنه".
- "مين؟".
- "سيد ياسين".
- "فوال؟".
- "باقول لك ابنى".
- "هو اللي قالوا عنه دفع في الصوت 200 جنيه؟".
- "ما تصدقش الكلام دا، اللي زي ابني مش محتاج يشتري أصوات، سيد عضو كبير في الحزب الوطني، اتبرع زي غيره ونظموا له الحملة بمعرفتهم، وحضرتك مين؟".
قبل أن يجيبه تدخل ثالث يجلس بقربهما قال:
- "يا اخواننا والله كأن قوة خفية شدتني، والله ما فاضي أعرفكم بنفسي عبد الوهاب القاضي تاجر موبيليا في دمياط أمي عنايات الفوال طول عمرها تكلمني عن أبوها جلال الفوال، كانت تيجي تزوره كتير، حاولت تاخدني معاها أكتر من مرة كنت برفض، الله يرحمها كانت بتحبه مع إنه عمره ما زارها، ما اعرفش لما بعت لي إيه اللي خبطني في مخي وسيبت اللي قدامي وورايا وجيت، حد يلحلحه شوية".
ضحك الجميع وتطلعوا ناحية الشيخ شحات الذي جلس صامتًا يدور بعينيه بينهم
استكمل الثاني الحديث قائلًا:
- "أنا عزمي الفوال، حفيده من ابنه سلمان، اللي يقول إنه أصغر واحد، واللي يقول إن الراجل خلف اتنين على كبر، المهم، شفته مرتين، الأولى كنت صغير وأبويا كان على قد حاله، بعد ما طرده الحاج جلال لما رفض يعيش معاه في البيت، خدته الدنيا لغاية طنطا، اشتغل عند المقدس سمعان، يلف بأتواب القماش على العزب والكفور شايلها على ضهره، إتجوز أمي في بلد اسمها كفر رحمة وعاش راضي بقليله، فجأة انتشر في جسمي كله دمامل وحبوب، شكلها غريب، لفوا على دكاترة طنطا كلهم من غير فايدة، ولاد الحلال قالوا له يزورني أولياء الله في مصر لكن أبويا جاله حنين لجدي، أخدني له، الحقيقة الراجل فرح بي جدًّا وكان حنين على الآخر، خدني لدكتور كبير من أكبر دكاترة الجلدية، فعلًا كان الشفا على إيده، المرة التانية كانت العربية الكارو بقت تجارة واسعة والحالة زهزهت على الآخر، جيت أعزمه على فرح نورا بنتي، خطيبها اللي هو جوزها دلوقت ظابط في أمن الدولة".
فوجئوا برجل ملتحي يقف متحدثًا وكأنه على منبر، بعد أن سمى وصلى على أشرف المرسلين قال:
"علينا يا إخواني أن نعلم أننا وإن كنا لا نعرف بعضنا البعض، رغم صلة القربى بيننا جميعًا، أن هذا خطأه؛ لأنه شتتنا بعناده ورأسه الناشفة، اليوم أيا كان السبب في جمعنا هذا، لا بد ألا نغادر هذا المكان إلا بعد أن نرغمه على بيع هذا البيت، أليس حرامًا هذا الخراب !! بيت بهذا الاتساع، وفي هذا الموقع المهم يساوي ملايين، نحن أولى بها".
قاطعته المرأة ذات النظارة:
- "ما تنساش يا شيخ أفضاله علينا كلنا، ولو كنا سمعنا كلامه ما كناش اتشتتنا، أنا واحدة من الناس مش هارفض له طلب، ومش هاجبره على حاجة مش عاوزها".
ارتاح كثيرون لحديث المرأة واهتزت رؤوس كثيرة مؤيدة.
يحفظون جغرافية البيت، رغم أن معظمهم لم يدخله، ولم يعرف طريقه، وإن لم يعانوا كثيرًا في الوصول إليه.
خطف أبصارهم بعكس ما توقعوا، رأوه عفيًّا منتصبًا، يمشي على قدميه دون عكاز ولا يتسند على أحد.
وقفوا جميعًا في انتظار أن يأتي ناحيتهم، لكنه اتجه مباشرة باتجاه الباب الرئيسي، في يده طفل صغير يسير بجواره، فقط قال لهم بلهجة آمرة عندما مر بجوارهم:
- "ورايا".
فتح له الشيخ شحات الباب وخرج؛ فخرجوا وراءه.
لم يره الكثيرون منهم أبدًا، وإن عرفوا عنه الكثير من الحكايات والمرويات التي خلفها لهم من سبقوهم، ممن ينتسبون جميعًا إليه وتنتهي أسماؤهم باسمه، فالجميع –باستثناء عدد قليل من الرجال وبعض النساء- من صلبه، أحفاد وأحفاد أحفاد، لكنهم في النهاية ينتمون إلى (الفوالة) نسبة إليه.
ساروا خلفه، خطوته واسعة تباعد المسافة بينه وبينهم، الطفل الصغير يسير بمحاذاته تمامًا، بنفس سرعته التي تفوق سرعتهم، يحاولون اللحاق به، لكن المسافة تتسع، يرونه عن بعد، فيسيرون باتجاهه، الناس ممن يمرون عليهم ينضمون إليهم، يسألونهم:
- "فيه إيه ؟ماله الحاج؟".
يسمعون من يقول:
- "باين عليه اتجنن".
أدهشهم قدرته على استدعاء الجميع، رغم تفرق السبل، جاءوا في أذهانهم صورة البيت الذي طالما سمعوا عنه، وعن الخلاف المزمن بين جدهم جلال الدين الفوال وأبائهم.
أدركوا أن أباءهم كانوا على حق، فالبيت لا يزال واطيًا عن كل البيوت من حوله، التي تحولت لعمارات عالية أسفلها محلات ضخمة، وتقف أمامها سيارات حديثة جدًّا، رغم أن بيت الفوال هو الأقدم، وأول بيت بني في هذا المكان الذي كان مجرد زراعات واسعة.
لم يروا من البيت إلا حجرات مغلقة على فراغ، لا يسكنها أحد، حتى الزاوية التي بناها في الجانب الشرقي للبيت، وبابها يفتح من الخارج مهجورة، لا يركع فيها أحد، الحديقة التي تتوسط البيت الواسع جدًّا لم يعد ينبت فيها إلا حشائش صفراء ذابلة، لاحظوا أعشاش حمام تتحوط الحديقة المفتوحة على السماء دون سقف.
رأوا أغنامًا تخرج من خلف أحد الأبواب تعرف طريقها إلى الحديقة، وبمجرد أن فتح الباب هلت رائحة الروث والعلف المعجون بالماء.
النقوش على الجدران باهتة، والأبواب تسوست، تفتح وتغلق بمجرد أن يمسها هواء فتصدر (تزييقًا) وتكشف عن ظلام في عز الظهر.
كل هذا والرجل لا يزال مُصرًّا على ألا يغير في البيت شيئًا، ما زال موقفه الثابت الذي طفش بسببه الجميع.
- "من يريد العيش في البيت يقبل به كما هو".
ولم يقبل أحد.
اتسعت مساحة الرؤية فتضاءل حجم الرجل، يرونه شبحًا يتحرك مسرعًا باتجاه هدف يعرفه وحده، تساقط الكثيرون إنهاكًا أو يأسًا، سبوا له ولجنونه.
عبر الرجل والطفل جسرًا عاليًا وانحدرا لطريق ترابي طويل، على جانبيه أشجار عتيقة متشابكة تحجب الشمس تمامًا، تنتهي إلى بناية وحيدة في خلاء فسيح.
سأل أحدهم عن الطفل فأجابه آخر: "إنه جلال الفوال الصغير ابن ربيع الفوال الذي مات من شهر وتركه له".
وصل الرجل والطفل أمام البناية، كان في انتظارهما رجل، هو نفسه الشيخ شحات، الذي استقبلهم في البيت، لم يشغلهم كثيرًا السؤال كيف سبقهم وقد تركوه هناك؟
فتح الشيخ القفل الخارجي وسحب الجنزير الطويل ودخلوا، ثم أغلق الباب بنفس القفل وابتعد ثلاثتهم إلى الداخل.
كانوا يصلون أفرادًا وأفواجًا، وجدوا شاهدًا على يمين البناية مكتوب عليه مدفن جلال الدين الفوال، لاحظوا نقوشًا ورسومات على جدران المدفن تشبه تلك التي رأوها على جدران البيت، بينما كان الرجلان والطفل بالداخل والباب مغلق, رأوا الشيخ شحات قادمًا ينفض التراب عن قفطانه وذقنه المعفرة والطفل في يده، قبل أن يسأله أحد قال:
"الحاج جلال مات، بيقول لكم انسوه".