القاهرة 27 فبراير 2018 الساعة 09:58 ص
جيلان صلاح الدين
الفصل الأول
في الأسبوع الذي سبق حفل خروجه على المعاش، قرر الأستاذ وجيه سيد مرسي أن يكتب مذكراته.
جلس إلى مكتبه بقسم الحوالات حيث كل شيء في مكانه؛ حافظة الأقلام، الدوسيهات المنسقة بعناية على الجانب الأيمن، اللوحة الصغيرة التي تحمل اسمه من أيام محاولاته اليائسة في بدء شركة لتصدير الأقطان.
"السبت 15 نوفمبر،
اليوم أكمل عامي الستين، أستطيع الآن العودة من حيث أتيت.
عزيزتي فريدة، ترى هل تعودين؟"
***
لم يعرف وجيه أنه يريد أن يصبح فريدة إلا عندما شاهد أبلة سهام صديقة والدته الست فتحية وهي تزين شفتيها بأحمر الشفاه. تخيل نفسه مكانها، وأحياناً تخيل أنه إصبع الروج الأحمر الجميل. كان يسير في الشوارع وحيداً، محتفظاً بالجريدة اليومية تحت إبطه، يشاهد إعلانات السينما ويحلم، لا ببيرت لانكستر أو أفلام الكاوبوي، لكن بقلم روج مارلين مونرو، يتخيلها ترقص على نغمات أغنية "موجة استوائية حارة" ثم تغمز له بعين، وتناوله قلم الروج الخاص بها، لا لوجيه، لكن لفريدة.
يعلم أن فريدة تحيا بداخله، ومن الصعب التخلص منها أو نسيانها.
"بقى بعد العمر ده كله يا وجيه؟"
يخشى وجيه أكثر ما يخشى أن يموت دون أن يخرج فريدة من محبسها. عندما شاهد فيلم "جامع الفراشات" تخيل أنه مثل فريدي في الفيلم، يحبس تلك الشقراء المسكينة، لا لشيء إلا لأنها أعجبته ويريد اقتناءها، وهو يعلم جيداً أن مجرد إعجابها به، ضرباً من الجنون، ووهماً كان صرحاً من خيال فهوى. هو أيضاً يفعل هذا بفريدة، لا يمنحها الفرصة للانطلاق، تذكر عندما شاهد فيديو لهذا الشيخ الذي يفضله ابنه مؤنس –الشيخ مؤنس الآن- وهو يسب أمينة السعيد كونها افتخرت بأنها أول امرأة ترتدي الشورت وتلعب كرة السلة في الجامعة –أو لعلها سيزا نبراوي- وتذكر كيف جف حلقه، بينما علت قهقهات ابنه واستنكار زوجته يسرية من اللفظ الخارج الذي أخذ الشيخ يكرره مراراً وتكراراً وهو يصف النساء سافرات الوجوه.
"اقفل القرف ده يا مؤنس!"
كان هو في وادٍ آخر. حتى أنه لم يسمع ابنه بينما يسأله رأيه في الفيديو، وعندما انتبه أخيراً، خيل إليه أن الشيخ ينظر إليه نظرة ثاقبة وهو يلعن النساء المتشبهات بالرجال، والرجال المتشبهين بالنساء.
ابتسم في شحوب ولم يجب بينما انهالت يسرية عليه بالتقريع.
"هو ده اللي قدرت عليه ياخويا؟ إلهي يهدهم زي ما سمموا أفكار ولادنا."
في غرفته هو ويسرية اختلى بنفسه، أخرج مفتاح المخزن القديم وتنهد.
حان موعد لقاءك يا فريدة. وياله من لقاء.
***
"جدو، شفتني وأنا برقص"
عندما أصبح جداً لأول مرة، لم يكن يرى من الدنيا سوى خديجة، ابنة مؤنس الكبرى. ما أجملها وهي ترقص، وهي تغني، وهي تكتب على أوراق اللعب. تحاول أن تغلبه في الطاولة ويتهمها بأنها "تقرص الزهر".
"أنت اللي عجِّزت يا جدو،"
تقبله وتركض. بعد عامين من هذا اليوم سيراها فتاة أخرى قادمة مع أمها وأبيها من السعودية وقد ارتدت الحجاب وهي بعد في العاشرة. سيهم بتقبيلها فيحمر وجهها وتنظر لأمها التي تبتسم محاولة التظاهر بالمرح،
"ده جدو يا خديجة، مِحرِم، متخافيش."
ستصيح يسرية فيها وفي ابنهما بأن "البنت لسة صغيرة" وأن "إيه الخيبة اللي بينيلوها دي!" بينما سيكتفي هو بالابتسام وربت رأس الصغيرة. ولن يقبلها بعد ذلك أبداً، كما لن يسمعها تغني سوى أغنية تقول فيها،
"إلا صلاتي، أنا أصليها."
ذلك اليوم أيضاً سيذهب لملاقاة فريدة، سيسير في طرقات سيدي بشر وحيداً، سيتذكر في حنين كيف كان بيته القديم مع أخوته السبع، والذين لم يعرف عنهم شيئاً بطبيعة الحال، كل تفرق إلى مشارق الأرض ومغاربها، كما أبنائه الخمس بالضبط. كل ما يذكره مكالمات أخيه وجدي المحامي الحذق من كندا وسخريته من الأحوال،
"زمن اللعب راح يا أبو الوجاهة!"
كان وجدي أقرب إخوته إليه. لم يشعر بالسعادة وهو يلعب الطاولة سوى معه. كانا يلعبان سوياً بينما زوجتيهما يسرية وأُنسية تمصمصان الشفاه وتلعنان الطاولة بينما وجدي يصيح، "شيش بيش يا حلو. زنقتك!"
فتح المخزن ودلف إليه. في الداخل كل شيء مازال يحمل رائحة الأمس واليوم والبارحة. في هذا المخزن تلقى أول صفعة من أبيه. وتعلم جيداً قيمة القرش، ومع هذا فإن أخاه المُسرِف وجدي هو الذي نال العِز في كندا.
أغلق الباب وراءه. أزاح ملابسه بسرعة. نظر لنفسه. مازال يرتدي لباسه الداخلي، وحاجياته الضخمة محشورة في اللباس الضيق. في مراهقته، كان يقارن بين "بتاعه" و"بتاع أصحابه" وكان دوماً ما يكسب، يهلل له الآخرون وينعتونه "دكر ياله" بينما هو لا يريد سوى أن يحرقهم جميعاً. لم يكن وجيه عنيفاً بطبيعة الحال، في جميع مشاجراته ويسرية يترك لها اليد العليا، يظنه أبناءه ضعفاً لكنه حقيقي ملول للغاية. لا يريد أن يكمل المشاجرة للنهاية، وطاقة يسرية للنقار لا تقارن بطاقتها أثناء الجماع فيما مضى، عندما كانت تتركه يستمنى فيها لأطول وقت ممكن، مطلقة أصواتاً وتأوهاتاً تذيب الحجر.
لم تمانع فريدة علاقته ويسرية.
في الواقع، لم تمانع فريدة علاقته وأي انسان.
ولا حتى علاقته بالحسين.
بعد أن حرَّم مؤنس ابنه زيارة الأضرحة والأولياء، أصبح يزور الحسين سراً، يبدأ الزيارة بالسلام عليه وعلى آل البيت ثم يسأله إذا ما كان أرسل لله سؤاله.
"بسأله يا سيدنا أنا ليه...ليه دائماً حزين؟"
يخرج بعدها ليجلس على قهوة البلالايكا، ويدخن حجرين معسل أعدهما له مخصوص الولد زيكو ذي الصوت الناعم والعينين الناعستين.
"ربنا يخليك لينا يا حاج وجيه."
يمنحه وجيه ما يجده في جيبه، ليس أكثر من خمسة جنيهات لئلا يطمع الولد، لكن وجهه يشرق، وسعادته عدوى لطيفة تنتقل لوجيه هو الآخر. تملؤه مرحاً وحبوراً فيعود للمنزل وهو يصفر، ويتغاضى عن تعاسة يسرية البادية على وجهها وهي تتابع البرامج الإخبارية التي لا يطيقها.
في الليل، يتسلل لغرفة المعيشة، يفتح التليفزيون ويخفض الصوت بقدر المستطاع، ويجلس لمتابعة أي فيلم على قناة الذكريات. يشاهد سامية جمال ترقص فيبكي سراً بينما يبقى وجهه سلسلاً، وقوراً.
"مين يتخيل الأستاذ وجيه الأفندي المحترم وهو بيقابل فريدة؟"
في المخزن، يقف في مواجهة الدولاب الضخم، والذي كان والده يخزن فيه الدقيق والسكر فيما مضى. الآن لم يعد للمخزن معنى. هو إرث مشترك بينه وبين إخوته، لكن أحداً منهم لا يهتم بالمخزن، والذي لن يتعدى مبلغ بيعه الثلاث أصفار. هم بالخارج يقبضون بالعملة الصعبة، وهو هنا بالكاد يتحمل مصاريفه ومصاريف أمراض يسرية المزمنة، ولولا مؤنس وكمال وشكري –لا داعي لذكر ماجد، فهو قد نسى التزاماته الأسرية منذ زمن- لما وجد ما يكفي دستة مضادات الاكتئاب والقلق وأدوية الضغط والسكر ومقويات عضلة القلب وأدوية البواسير والمسكنات لتخفيف آلام التهاب المفاصل. أما هو.
هو.
كثيراً ما يشعر الكلمة متغيرة، كحبة فراولة حامضة. يلوكها فيجد فيها طعماً لاذعاً لا يستسيغه، لكنه يأكلها على أي حال. لن يلقيها في القمامة، هذا ليس مالاً حراماً.
في المدرسة قبل أن يخرجونه منها ليتعلم، سألهم الأستاذ مرة عن الكلمة التي يصفون بها أنفسهم.
كل رفاقه تنوعت ردودهم من معلم لجدع لصاغ لباشا، حتى أن أحدهم قال "دكر" فكان نصيبه صفعة محترمة من الأستاذ على قفاه. وعندما أتى دوره، لم يجد ما يقوله سوى "وجيه" فضج الجميع بالضحك، أما الأستاذ فأمره أن "اقعد خيبك الله".
"أنت أوفر أوي يا جدو،"
يتذكر ميرنا ابنة كمال ويضحك. البنت لا تشبه خديجة في شيء، ومع هذا هما متحابتان، مع أن والدتيهما تكرهان أن تكونا لهما صلة ببعضهما البعض. ميرنا متأمركة على الآخر، ولا تحتمل قضاء دقيقتين على بعضهما معه، إلا أنه يحبها هي الأخرى.
يسرية تفضل الأحفاد الذكور، خاصة محمد ابن بسنت، ابنتهما الوحيدة وقرة عينه، وحتى معز ابن مؤنس، فهي تراه رجل صغير وتكثر من تدليله، على الرغم من أن الولد أحياناً يقف أثناء الغذاء فجأة ليؤذن، ولا يجد لعبة يستمتع بها مع أبناء أخواله وخالته سوى عسكر ومؤمنين، مما يدفع يسرية لتصرخ في والديه بأن "إيه اللي بتعلموه للولد ده!"
لكنها عندما يتأهب مؤنس للسفر ويأتي لتوديعها ووجيه، تبكي بينما تحتضن معز بشدة، وتحاول أن تستخرج منه "بحبك يا تيتا" لولا أن الولد يتملص منها ويجري على جده ليحتضنه. لم يفهم وجيه حتى الآن سر حب ذلك الطفل بالذات له، فهو لم يفعل شيئاً خرافياً، ولم يكن حنوناً معه بالشكل الكافي. وفي قرارة قلبه لم يكن يحبه لشبهه الشديد بهايدي زوجة مؤنس والتي لم يكن يطيقها. شخصياً يفضل البنات، إنهن جميلات وخفيفات الدم ولا يتظاهرن بالعنف ليبدون قويات.
ربما لهذا يحب سامية جمال ومارلين مونرو ولورين باكال، وتلك الفتاة الجديدة الجميلة التي قامت بدور راقصة استربتيز ورقصت بينما شعرها الأسود الطويل يتهاوى على جانبي وجهها.
"ديمي مور يا بابا، بس دي قديمة جداً."
"مين ديمي مور؟" تسأل ميرنا في استنكار.
قبل أن تسافر بيومين، لمحها وجيه تدخن وهي تتحادث إلى خديجة، توترت عندما لاحظت وجوده، لكن خديجة لدهشته قالت لها،
"متخافيش، جدو طيب مش هيقول لحد."
الدولاب مفتوح على مصراعيه، كل شيء في مكانه، يمد يده ليجذب باروكة مارلين مونرو الشقراء، يسمح عنها غباراً وهمياً ويضعها على رأسه بعد أن يصفف شعره بالمشط الصغير الذي لا يغادر جيب بنطلونه.
"فريدة، وحشتيني."
***
منذ متى وهو فريدة؟
قبل العالم كله، قبل أن يوجد الوجود. ليس هناك انفصالية، هو لفريدة وفريدة له. هو وفريدة كياناً واحداً. ليس في الأمر أي مشاعر دنيئة أو رغبة بالتلصص على الأطفال كما تصورها الأفلام الرخيصة. كل ما يعرفه هو أنه أول مرة أمسك فيها بقلم الأحمر الذي تملكه أمه، لم يستطع أن يمنع نفسه من أن يجعله يلامس شفتيه.
كان الأمر أكثر نشوة من أي مرة ضاجع فيها فتاة. سعدية ابنة عوض الحمَّال الذي يساعده وأباه وإخوته في المخزن، تلك المرة التي تلاقيا فيها على سلم بيتهما، عندما عانى حتى أدخل قضيبه في فتحتها الضيقة، ووجدها تهتز وترتعش؛ وريقة صغيرة بضفيرتين وشعر خفيف على جانبي شفتيها، لم يشعر بعدها بالسعادة التي تخيلها، وإن لم يمنعه هذا من أن يتبارى وإخوته في أيهما قضى مع سعدية وقتاً أطول.
رأته أمه مرة وهو يجرب الروج، وكان ضربها المبرح له على مؤخرته بشبشبها دافعاً لأن يعرف بأن اكتشافاته يجب أن تبقى سراً. خاصة وهو يرى الطريقة التي يصف بها والده النساء، حتى والدته نفسها. لِمَ يقرر الانتماء للفئة الأضعف إذاً؟ يكفيه انتقادات والده له بأنه "أخيب إخواته مع إنك الكبير"، والصراعات التي يخوضها كل يوم دفاعاً عن وجدي بشعره الناعم الطويل وبنيته الضئيلة في المدرسة. لهذه الأسباب قص شعره بالكامل عن جانبي رأسه، طوال فترة مراهقته. كان والده يريد أن يراه ولو مرة بشنب، والحقيقة أن كل إخوته تركوا شواربهم تستطيل، وبعضهم لضم اللحية فأصبح لهم سمت العلماء الوقور، أو التجار المخضرمين، حتى وجدي القصير المرح، استمتع بانحسار الشعر عن مقدمة رأسه، ولم يجد غضاضة في أن يصبح أكثرهم شبهاً بأبيه عندما كبر.
إلا وجيه، هو الوحيد الذي كان يحرص على أن يترك وجهه حليقاً، وشعره مشذباً، منمقاً، أخبره أخوه حسين أن مظهره الناعم هو ما جذب يسرية له، لكن وجيه يعرف أكثر. لم تكن يسرية تطمح في أكثر من زوج ثري ابن تاجر، طيع البنان، وعلاوة على هذا وسيم. لم تكن تعرف أن بعد شهرين من زواجهما سيموت الأب، ويترك وراءه ديوناً لا حصر لها، ستدفع أبناءه للشتات في البلاد، ووجيه المسالم سيؤثر الأمان في وظيفة حكومية بسيطة، وسيتخلى حتى عن حلم شركة الأقطان الذي طالما راوده هو ومرسي أخيه الأوسط كثير الشكوى من المرض.
ستظل يسرية تندب حظها، حتى الآن بعد أن تعدت عامها الثالث والستين، ستظل تندب حظها وبختها المائل، ودهشتها أن يكون كل إخوة زوجها قد استطاعوا أن يسلكوا في بلاد الغربة إلا هو.
الآن وبعد مرور سنوات طوال على عمله الحكومي، وقد قاربت سنوات خدمته في هيئة البريد على الانتهاء، يجد وجيه نفسه في حيرة ورعب من القادم. كيف سيبرر ليسرية انقطاعاته الكثيرة خارج المنزل؟ كيف سيوفق بين يسرية والقهوة وفريدة؟ هل سيستطيع الذهاب والعودة من المخزن باطمئنان؟ ماذا لو عاد أحد إخوته وقرر قضاء ما تبقى من عمره في مصر؟ هل سيطالبه أحد بمفاتيح المخزن؟
المخزن...
يتحسس وجيه طريقه في الظلام، إلا من أضواء الشموع التي يشعلها. في المخزن كل شيء، جسد بوجارت المحنط، كتاب المطالعة الذي أخفاه من والده رغم تمزيقه لكل كتبه وكشاكيله المدرسية وقتها ليجبره على العمل فقط، صوره الشخصية وحيداً، وسيماً مرتدياً البدلة الكريب عند استوديو ريو، وصور مارلين مونرو ولورين باكال ونينا سيمون. نينا سيمون تذكره بتلك الجارة مارلي. هي جارتهم منذ عدة أشهر، يراها كل ليلة تقف في البلكونة وحيدة، تدخن وسيجارتها متدلية بينما عينيها الحزينتين تتأملان الأفق بعيداً. سمّيعة البنت، لا يعرف لماذا أتت لتسكن في عمارة قديمة كعمارتهم في وسط البلد بينما هي تبدو عصرية للغاية بالوشوم على جسدها الأسمر، وشعرها المجعد شديد الخشونة، والذي تضمه هي في كعكة صغيرة أعلى رأسها ولا تحاول تصفيفه عند كوافير لحسن الحظ، فتبدو جميلة بشفتين ممتلئتين، ووجه أسمر يشبه ناعومي كامبل، أو أنها لا تشبهها لكنها السمراء الوحيدة التي يعرفها، هي ونينا سيمون، لكن مارلي أجمل بكثير.
في مرة كان ينزل السلالم، فالعمارة ليس بها أسانسير، وهو ما أثار دهشته في السر وراء سكن مارلي وزوجها الشابين الصغيرين في عمارة ليست مجهزة بمرافق ومستلزمات تلائم عصرهما، عهده بالجيل الجديد أنه ضيق الخلق، كثير الشكوى. فكيف يحتمل هذان ظروف معيشية بمثل هذه العتاقة؟
حاول أن يسأل يسرية لكنها صرخت فيه بأن لا شأن لهم، فهي تكره الاختلاط. لكنه في قرارة نفسه صمم على الحديث مع مارلي هذه.
ترى هل تشعر بفريدة؟ ولو شعرت بها، هل تحبها؟
***
قام وجيه بجمع آخر ما تبقى من حاجياته على مكتب العمل.
كانت آخر مرة يطلب من البوفيه باكو البسكويت النواعم وفنجان القهوة من يد الفتى الجديد الذي وفد للبوفيه بعد وفاة عم نبيل. نبيل كان صديقه، كلما أحضر له القهوة أخبره بنكتة أبيحة، كان وجيه يحفظها ليلقيها على مسامع رفاقه على القهوة فيما بعد. في مرة رأى مع عم نبيل صورة، سأله عنها فأخبره بثقة،
"أبونا فلتاؤس، حبيبي، شفيع الغلابة."
تأمل وجيه وجهه، كان يبدو كبابا نويل، فيه دفء وحنان حتى لمن لا يعرفهم. أخذ صورة من نبيل واحتفظ بها في محفظته إلى جانب صور أولاده وأحفاده، وصورة قديمة لوالدته كان كلما هفه الحنين لها أخرجها وأخذ يحادثها. وصورة له يحمل أخته بسنت رحمها الله عندما كانت بعد وليدة.
سار بمحاذاة البحر يحمل الدوسيه الذي يحوي كل أوراقه، عليه أن يذهب للتأمينات لتسوية معاشه، وحتى يتفق معهم لتحويل المعاش على حسابه البنكي بالجنيه، فلديه أيضاً حساب بسيط بالدولار. شرد وهو يسير حتى وجد نفسه سرح في الكورنيش. جلس على حافة الصخور وتأمل صفحة الماء بعمق، ربما يكون الحل أن يغمر نفسه في مياه البحر، فيختفي للأبد وتكف رأسه عن الطنين.
عاد ثانية للوراء، حيث الكورنيش عبارة عن صخور ضخمة متلاصقة، تواجه البحر مباشرة، وعلى منزل من الكوبري، هبط وهو يحمل حذاءه بيد، والدوسيه باليد الأخرى. لا يريد للحذاء أن يتسخ بالماء والرمل والطحالب، لئلا تسرد يسرية على مسامعه ما لا يسر، لكنه يريد الجلوس هنا. عندما كان يذهب لزيارة أبناء عمه في أبو المطامير، كانوا يحذرونه من السير ليلاً وحيداً، لئلا تندهه الجنية. في ليلة تسلل من المنزل الذي يبيتون فيه جميعاً، ينامون جنباً إلى جنب، فتختلط روائح عرقهم بالخبيز المختمر في الأفران البلدي بالضراط الذي يطلقونه تباعاً أثناء النوم. سار يلهث في عمق الليل، حافي القدمين، يعتمد على ضوء القمر الشاحب وسط حقول الذرة. لم يرَ جنية أو نداهة، لكنه رأى قطة سوداء بعيون خضراء لامعة، مشقوقة من النصف. ظلت ترنو إليه بتحد حتى واتته الشجاعة واقترب منها. استند على ركبتيه ورسم ما توقع أنها ابتسامة متوددة على شفتيه، مد إليها يداً. رفعت القطة جسدها الممشوق على أقدامها الأربع، وارتفع ذيلها عالياً، كل هذا ووجيه مازال ينتظر. ارتخت ثم سارت حتى وصلت إليه، وفي قفزتين كانت على حجره، وعندما نظر لمؤخرتها، عرف وجيه بأنها رجل. وبينما هو يمسح على ظهره، فكر في أنه قد يكون مثل هذه القطة، ينظر إليه الرائي فيظنه وجيه، لكن إذا حاول أحدهم الاقتراب منه حقاً، وخلع عن عينيه قناع البصر، ليرتدي نظارة البصيرة، سيرى فريدة رأي العين.