القاهرة 16 فبراير 2018 الساعة 12:34 م
المرآة ..لوكليزيو
ترجمة لطفي السيد منصور
مساءً، حينما تسبح الغرفة في وميضها غير الصحي والحزين قليلًا الآتي بلا صدامات من المصباح الكهربائي، عندما في الخارج، يسود الليل، الصمت، الضجيج داخل الصمت، عندما يبدو كل شيء في تراجع، يسبح بمشقة، وفي نفس الوقت ينبض بالخطر وبالكراهية بلا رنين، عندما تنضح الكائنات بالموت، تتعطر بالموت، تتخضب بالموت، يستغرقني قلق حيث لا شيء يستطيع الدوي. الآخر هناك، أشعر به، يترصدني عبر كل النوافذ وعبر كل الفتحات المفتوحة على حجرتي. لقد تنكر. وضع عينيه في كل مكان، في زوايا السقف، في ثنيات الأبسطة والستائر، في أكرة الباب الزجاجية، في الترمومتر المعلق على الجدار، في رسومات السجادة الرقيقة، داخل خشب الكراسي، في كل مكان، في كل مكان يمكن أن يراقبني منه ويخترقني. لقد استقر هناك، ككل مساء، مع الليل، ولا أستطيع أي شيء. انسَلَّ إلى داخل الأجزاء الحديدية أو البلاستيكية، في عُقد الزجاج، في الغبار؛ لقد تنكر في هيئة ذبابة، صرصار، أو دودة أكالة، ومد قرون استشعاره المرتعشة نحوي، مد فكه السفلي، أقدامه في المناور المعلقة، ينظر لي من غور الظل بعينيه الصغيرتين اللامعتين والثابتتين. لأخدع نفسي، أتحدث، أُحدث ضجة، أعمل؛ لكنني لا أستطيع نسيان حضوره. صرت تدريجيًّا ما يشبه الضحية. حينئذ أود النضال، أود محاربته، ولذلك، أنظر له في كل الكائنات. أستفزه. أذهب مباشرة تجاه أفواه الظلام، وأتحداها. الشياطين، قوى الشر، والمجهول، الأشباح التي تود محوي من العالم، أحاول أن أصرعها مع حياتي. أستخدم جسمي، عيني، قدميّ، يديّ القويتين لمواجهة الأعداء غير المرئيين. لم أعد أتظاهر بتجاهلهم. أبين لهم أنني أعرف أنهم موجودون، من حولي، وأنني أعرف من يكونون. أحدق فيهم، من خلال كوات الأشياء التي تؤويهم. أجابههم. أحدثهم أيضًا، أمنحهم أسماءهم الحقيقية: "أنت، الموت، أنت، الشيطان، إبليس، الشبح، الروح التي تهيم، روح الليل والشر، أنت، نعم، أنت، أعرفك! لا تستطيع شيئًا حيالي. لا تستطيع قتلي. لا تستطيع أي شيء مطلقًا. فلتظهر لي، حاول فقط أن تظهر. فلتظهر. حاول إذًا أن تصارعني، لأن هذا ما تريد! لكن لا تستطيع! لا توجد. لست سوى اختراع، عبث البشر. لا أخشاك. لا تستطيع أن تميتني. لا تستطيع أن تميتني. أنطق بكل الأسماء التي لا ينبغي النطق بها أبدًا، أتحداها جميعًا، بجسمي، بعيني، بفكري. أضع الخنجر على الطاولة، واضح تمامًا، أنتظر أن تأتي اليد التي تمسك به وتوجهه نحو حنجرتي. أسب كل الآلهة وكل الشياطين، أستفز نظام الخير ونظام الشر، وأعرف أنهما لن يجرآ على مهاجمة حياتي! أنهما في الجانب الآخر من الحاجز، في عالم الموتى. تضخمت قواهما من الكراهية، لأنه لم يعد لهما أبدًا انتماء لمملكة الأحياء.
لكن ينبغي أن أراقبهم باستمرار، لا أتوقف أبدًا عن أن أكون حاضرًا. لا بد أن أشاهد بكثافة كل الفتحات التي من خلالها أستطيع الغوص داخل الواقع. كل النوافذ خضراء شاحبة، كل الفوهات ظليلة، كل الانعكاسات، كل النوافذ الزجاجية السائلة ترتعش وتهتز تحت ثقلها، وكأنها مستعدة للكسر في أي لحظة.
وأدير وجه المرايا للجدران، أخفي الجدران الزجاجية أو الشفيفة، أغلق الكتب المفتوحة، أنير بعنف الأركان المظلمة. وهكذا يرونني، وهكذا أستطيع رؤيتهم. في بئر المرآة المسطح، هناك سلطة الذكاء المضاد. الواقع، الواقع المعاد إنتاجه لم يعد نفسه. إنه، بمضاعفته، أصبح خطرًا ومشؤومًا. لقد حُفر، لقد حُمل بالرموز. ما كان صلبًا هنا، الخشب، المعدن أو الحجر، فُرغ هناك؛ الأشياء كهوف.
المحاكاة شيطانية. يُظهر الكون المحاكي سخريته وأنيابه. يلقي بصرخته الببغاوية، صرخته المبحوحة، الغبية، الشريرة، وإنه كما لو لم يكن يوجد أي شيء أبدًا حقيقيًّا ولطيفًا فوق الأرض. المرايا، مناطق غير محدودة من الجحيم، ليست أماكن حقيرة للموت، لكنها موجودات الشر في الحياة. مناور صغيرة مفتوحة على لا شيء، تعكس عدمية الكذب. بحيرات شاحبة.
نوافذ مستديرة يصعد منها الخوف، المساء، في هذه الغرفة، في الحمام الدافئ والمَرَضي لوميض المصباح الكهربائي. صورة العالم مرتبطة بالوعي، بالعرض الذي قد جعل نفسه فجأة كعارض ومشاهد لكم. أهو الخوف من الذات، الخوف من هذه النظرة التي تعود بغتة كسلاح تجاه الذي سددها؟ أهو الخوف من الإدراك؟ من أن يتفرسك الآخر الذي كان قد تفرس ذاته؟ أهو الدوار من الفراغ، أو الهجوم الوحشي من الإفراط، من امتلاء الذات التي لم تعد تُحتمل؟!
يمكن أن يكون الوعي فائق الإنسانية. ربما يكون الوعي هذه الهوة التي هي الذات، هذه الهوة التي تخرج من الإنسان وتفتته، وتدمر عرضه، عمله. قد يكون الوعي هذه الطاقة التي تُفقد للأبد. يلتهم الحامض الغدة التي تفرزه. المرآة، نفس صورة الاعتداء ضد الذات، صورة الانتحار الإجباري. كل ما أحمله سرًّا من أجرام، حيوانية، عنف، كل هذا الخنجر، كل هذا الموسي الغريب والمألوف سيخرج إذًا عن سيطرتي، ويعود مباشرة نحو ذاتي، تجاه حنجرتي، سيسيل دمي بلا رحمة. الشياطين المنهكة هناك، لكنها ما كنته. البشع، البغيض يترصدني، بعينيه اللتين كانتا عينيّ. الآخر، إنه أنا، إنه أنا. عبر هذه الطبيعة الأخرى التي تظهر لي من داخل المرآة، يسيطر هذا الإنسان الذي ينتمي للموت بالفعل، هذا الإنسان الذي أعرفه كأبي وكولدي، والذي يستاء من حياتي.
ما كان ينبغي، إنه كسر نوافذ الشر هذه مرة واحدة وللأبد؛ إخفاء، كسر، تلطيخ، المرايا، تضبيب الزجاج والقصدير، والبقاء في العرض بلا شاهد. لكن أيمكن كسر مرآة؟ أليس واضحًا أنها لا تُدمر؟ إنها هناك، في كل مكان، من حولي؟ الأشياء مرايا. الكتب مرايا. أجسام الآخرين، عيون الآخرين مرايا. يدي مرآة. في كل مكان حيث أحدق، عندما يأتي إلى داخلي هذا الأرق المضاعف، لا أرى سوى ذاتي تنظر لي. شياطين وعيي العائدة تسكن العالم بأكمله. مجالها المرئي، المحسوس، المسموع. إذًا كل جزيء من العالم في مواجهتي، ويسخر. ولا أستطيع الفرار من السخريات.
مهما كسرت المرايا، مهما أغلقت الكتب وأخفيت الرسومات، مهما أفنيت الصور الفوتوغرافية والعلامات المألوفة لحضوري، دومًا أكون هناك. أي انتقام ألاحق به ذاتي هكذا؟ أي شحناء، أي حرب ألفية أسلم نفسي لها، بفضحي وباضطهادي بهذه الطريقة؟
ماذا يوجد في هذه الكتب المطبوعة التي تطاردني بلا رحمة؟ الفكر، الفكر الفاحش المنبجس من كل شيء ويحوطني. هؤلاء الأعداء المجردون، هؤلاء الأعداء الذين يتخفون تحت الكلمات القاسية. لأنه من أجل النضال ضدهم، في الحقيقة، ليس لديَّ غيرهم. متى أتخلى عن ضرباتي الذاتية، التي قد تنقذني؟ من يستطيع صرفي عن ذلك، أو يخفيني، بما أن في هذه الحجرة العارية، الصلبة، الواقعية، في هذا العالم، لا يوجد أي شيء آخر غيري؟ أنا الرجال والنساء، أنا الحيوانات، أنا الأشياء، ما أراه وما أسمعه، ما ألمسه، إنهم إذًا عيناي، صوتي، وجلدي. الأكثر من ذلك، أيضًا: لا أرى إلا ما أرى، لا أسمع إلا ما أسمع، لا ألمس إلا ما يلمسه جلدي. اختفت ذاتي. وأنا في كل مكان. أنا المركز والمحيط ومعًا، ومعرفتي تنجز فقط على هذه المعرفة. واقعي، قلقي، انتصاري هي عدم الشعور بأي شيء آخر غير المتاح لي. ولذلك ردني الوعي بعيدًا عن ذاتي، أجبرني على أن أكون ما أكونه. قادني إلى التشقق. جعل العالم على صورتي، وصورتي على صورة العالم.
الموت، الذي صممني وحملني، لقد عدت تقريبًا إلى ذاتك. لقد نسيت نشوة عظمة سلطانك، لقد نسيت ما كنت قد تعلمته منك وحفظته في حياتي. مجالك فيما وراء المجالات، تتأسس بداخلك الحدود وتتقابل. كل ما هو واضح، مطلق، جميل، كل ما هو فوق بشري على الأرض، ذلك قد نبع منك. كل الهروبات وكل استحالات الهروب. كل الهوات الوديعة وكل الهاويات التي تبتلع الأرواح، المحيطات، كل اللانهائيات المجردة والمسرورة، عواطف الرحيل العظيمة التي لم تعد حلمًا، بل التي تتحقق، كل تقهقرات الدراما الصغيرة الشرسة، العواطف الحقيرة، الكلمات المضحكة والغثة؛ كل ذلك أنت، الموت المتأصل وغير الشَبِع أبدًا، شهية العدم غير المشبعة أبدًا، المشمئزة أبدًا. فراغك كبير للغاية، وهذا الوقت صغير للغاية! كيف يمكن ما كان الحقيقة هنا، هنا حيث لا شيء يدوم، هنا حيث لا شيء يتمدد، هنا حيث لا شيء يحوم، عندما هناك، بداخلك، ينفتح الغطاء الواسع للغاية والقوي للغاية؟ عندما يكون الفراغ محملًا لهذه الدرجة، لم يعد فراغًا! في مواجهة المديين السرمديين، اللذين لم يكونا فعلًا، يكون عجاج ولمعان الحياة، حياتي بلا أهمية. ما يعتد به، إنها هذه الصحراء المستديمة وغير المادية، إنها هذه الملايين وهذه الملايين من القرون ومن الفضاءات التي كانت من قبل، والتي ستكون من بعد. الطويل، الطويل بشكل لا يحتمل، هذا القبو الجبار من الفراغ والظلام، هذه القبة التي تثقل، التي تبلع، التي تغفر وتسرمد. هذا الفراغ هو منزلي الحقيقي، هذا الظلام هو كوني الواقعي. لن يمر هذا الزمن الملغى من الزمن، وهذا الوجود لما هو غير موجود لن يتقوض أبدًا.
الموت مملكتي، مملكتي الوحيدة، الموت، الصمت الذي هو صوتي، صوتي الوحيد، عمياء عيناي، عيناي فقط، التبعثر في المادة التي هي وحدتي الوحيدة، الشك عقيدتي، الغياب حضوري، الموت، حضوري.
إنه نحوك، نحوهم، أتى. منذ قرون وقرون بلا قرون، منذ أيام بلا يوم واحد، لم أتوقف عن أن أكون معك. عبر الضوء الجارح واللذات المؤلمة، عبر سهام المطر والملاطفات العابرة، بدأت عودتي. جهزت الباقي من حياتي. سعيت إلى الانزلاق نحو الخلود المعروف، حلمت لو لم يكونوا قد أيقظوني أبدًا بشكل مقيت ذات يوم، وأن يلقوني في علبة لحمي وعظامي في وسط جنون المرهف المختصر.
ومع ذلك، أكثر من اللانهائي أو من فكرة مبدأ سامٍ، ما هو ملتبس في الإنسان. فكرة اللاشيء، الغياب.
عالمنا هناك؛ مادتنا هناك؛ جسمنا، أظافرنا، خصلات شعرنا، بشرتنا، عيوننا، أيادينا هناك؛ تتغذى أرواحنا على هذه الموجودات، إنها محصلة هذا الجسم. لا شيء مما تخيلناه، لا شيء مما فكرنا فيه يفر من عناق هذا الجسم. كيف نصدق أن كل ذلك الذي كان فظًّا، عنيفًا، كيف نصدق أن كل ذلك الذي كان، استطاع ويستطيع أن لا يكون؟ عندما سيحللنا الموت، كيف نستطيع أن لا نبعث؟ كيف لا يعاد عمل ذلك باستمرار، وفق إيقاع المقايضة؟ قوانين سرمدية، نفْس، بعث الأجسام، تواصل الحياة، التقدم الدائم للروح، كل ذلك أليس مجرد كذبة؟ أليس هناك شيء آخر غير الموجود، دون أي شيء يعلن عنه أو دون أن يتمدد؟ قبل الزمان، قبل المادة، قبل الذي أعرفه حقًّا لأنني عشته، ألم يكن يوجد أي شيء؟ كيف يكون ذلك ممكنًا؟ الخلود، خلود الكائن، ربما يكون خارج الحياة والموت تأسست مملكته. المادة بلا لانهائي، بلا خلود، لكن أيضًا بلا مقاييس أو تاريخ، المادة متمددة من كل الجوانب، تملأ كل شيء. ليس لها حدود، لأنها ليست غير محدودة. الكائن، ليس إذًا كائنًا على قيد الحياة. الحياة، الموت، وضعيتان بلا أهمية، كما النباتي أو المعدني. الحياة والموت شكلان يتبنيان المادة، من بين أشياء أخرى كثيرة. ما هو إذًا المبدأ الأساسي لهذه المادة؟ أهي الحركة؟ لكن كيف نكتشف هذا القانون الذي لم يعد حتى قانون، بل واقع؟ كيف نبتكر الشيء الوحيد الذي لا نستطيع رده، المبدأ الوحيد الذي يوجد في العالم والذي لا يتبعه؟
صمت، لا شيء، جمود، ها هي إذًا كلمات المستحيل. إنها ربما الهاويات الوحيدة التي لا توجد من أجل الإنسان. كل شيء يتحرك. كل شيء يكون. كل شيء ضجة. لا يمكن أن يوجد الهدوء، كما لا يمكن أن يوجد أي شيء. كل شيء حاضر، ولا يختفي. كل شيء يتغير، كل شيء يتشكل، كل شيء يعيش ويموت، لكن ببقاء شبيه. ما يتعارض وكل شيء دون كونه حقيقيًّا، بالأحرى ما يلقى في الخلف وليس قابلًا للتبديل، ليس قابلًا للتعديل، يبقى نقيًّا، ثابتًا، سحريًّا، إنها قوة ما يكون.
هنا يوجد أكبر أمل للبشر، على الأرجح: إنه هنا قد يبدأ تغيير هيئتهم، نشوتهم المادية: لن يختفي شيء. سواء في الحياة، في الموت، سواء في أكبر الأكوان هاربًا في الفضاء، سواء في أصغر مملكة، في الحضور المجرد تقريبًا للطاقات الأولية، سيوجد، وجد دائمًا، يوجد شيء ما. شيء ما.