القاهرة 06 فبراير 2018 الساعة 09:57 ص
مختار سعد شحاته
داري درية:
لا أعرف على وجه التحديد عدد المدن التي زرتها، ولا كم من الوقت عشته خارج ما أعرف أنه المكان الوحيد الذي يصح أن أطلق عليه "البيت" أو "الدار"، لكن يظل عالقًا في ذهني المثل الشعبي الذي كانت خالتي تردده أمامي كلما أعود من السفر، وأقوم بزيارتها، فلماذا على الدوام لم تفلح أي مدينة أن تكون تلك "الدرية"؟ إذ يقول المثل: "داري دِرِية وإن جارت عليا".
يمكن بتحليل المثل أن نفهم المعنى بسهولة، لكن أحب أن أخذ المثل إلى زاوية جديدة وتأويل جديد، فعلى طول السفر وسنواته التي أحب تأريخها باليوم الذي كنت طفلاً لا أزال، لم يتعد عدد سنواته عدد أصابع كف اليد، يمسك بكف والده بقوة وتشبث كأنه يتشبث بالحياة، يخشى الضياع والفقد على إثر جملة تحذيرية قالها له والده منذ أربعين عامًا، ربما شكلت الكثير من طبيعة العلاقة بينه وبين المدن كلها فيما بعد، قال: "خلي بالك لأحسن تتخطف"، وتلك جملة أضيفها إلى زاوية التأويل للمثل، ومؤسِّسة في علاقتي بالمدن التي زرتها بوجه عام، وبالإسكندرية على وجه الخصوص، والتي ظللتُ أتعامل معها من ذلك المبدأ "المدينة خاطفة، ستخطف الطفل"، وهكذا كانت بذرة من عداء خفي بيني وبين المدينة تلك، تعلن عنه أو أعلن عته، وكثيرًا ما كُنا نخفيه، حتى يوم خطفت مني يد الأب وأعادته جثة هامدة، أخفيت عداوتي للمدينة، حتى إشعار آخر، ربما حين تمكنت من مواجهتها وجهًا لوجه بكتابتي التي تحفر في طبيعة علاقتنا تلك.
تأويل جديد مصحوبٌ بتنظير سريع:
أعود إلى زاوية التأويل، وأحاول التنظير حول كلمة "دِرية" التي تعني في أبسط وأقرب معانيها مرادف الحنان و"الطبطبة" التي نحتاجها جميعًا حين تقسو الدنيا، لكن في زاوية تأويلي الجديدة سآخذ المفردة إلى مفهوم جديد من الدِراية والمعرفة، لتتحول العبارة في المثل إلى المعنى (أن أكثر الدور معرفة ودارية بالمرء هي داره مهما كانت جائرة عليه)، ربما من باب التأويل بالدراية والمعرفة، ما يجعل للغة دخل كبير، إذ يشعر المرء بميل فطري نحو هؤلاء الذين ينضمون تحت سماء نفس اللغة، ونفس اللغة تظل الهاجس الأول والأكبر للكثيرين في أسفارهم، وتتحول تلك اللغة الأجنبية (أو حتى اللهجة الغريبة) إلى واحد من أقوى حواجز الاندماج، وهو ما يتطلب جهدًا مضاعفًا، لكن ما لم ننتبه إليه هو أن اللغة –على اعتبارها الآن بيتك المتخيل لك في الغربة- يمكن أن تتحول إلى الوجه الآخر خلال السفر، وتصبح تلك "الدِرِية" بالمعنى الأول قبل التأويل، فتكون أكثر حنانًا ومحبة إذا ما سمعتها في غربتك.
أظنني في تجربة سفري الجديد، قررت العكس تمامًا، قررت أن أحول ذلك الحاجز العظيم إلى سور من الحماية، ففي سفرتي الأخيرة تلك، وبعدما قررت الهجرة، صارت اللغة العربية (التي كانت حاجزًا) مهربًا، إذ يمكنني أن أصرخ بها فرحًا وطربًا، ويمكنني أن "أشتم وأسب" دون أن يفهمني شخص، كأنها في حالات كثيرة كانت ملاذًا للتنفيس، إذ لم أتقن اللغة البرتغالية بالشكل الذي أراه يؤهلني للكتابة بها كما أفعل مع العربية، وهو ما يجعلني أدرك الآن لماذا كنتُ أغضب –قبل طلاقي ثُم خروجي الذي أخشاه أبديًّا- حين يتحدث أولادي باللهجة السورية التي تحدثت بها جارة من سوريا هربت وأسرتها إلى مصر. لعلي كنت أحاول التمسك بهويتي التي تُمسح رويدًا رويدًا الآن بابتعادي عن العربية والناطقين بها، والبعد هنا ليس مكانيًّا قدر ما هو نفسي بالأساس.
حاجز اللغة:
سيقول البعض أن تلك وضاعة، إذ أعمد إلى "الشتم" والسبِّ بلغة غير مفهومة لمن حولي، حتى أنهم مرات ومرات يضحكون لنغم الكلام معجبين بأصواته دون أن يفهموا المقصود، وأن الشفافية تحتم عليّ أن أكون شفافًا مع الآخرين، لكن لأنني منذ البداية كما قلت أسافر محصورًا بين جملة خالتي في المثل الشعبي وعبارة والدي في أول زيارات الدهشة إلى المدينة، حتَّمت علي أن ألجأ إلى هذا "التكتيك"، وأظن أن "دي سيرتو" حين تحدث عن تكتيكات الأفراد في حياتهم اليومية كان يقصد ما فعلته، أنا مع اللغة هنا في البرازيل، حين قررت أن تكون كل الشتائم بالعربية، وأن يخرج غضبي على الدوام بالعربية لا بالبرتغالية، والأمر جد بسيط وهين، هو أنني بالفعل أشعر بأننا أبناء القرى الذين رحلنا عن قرانا الطيبة –قبل أن تتشوه الآن- يظل في داخلنا ذلك العود الأخضر الذي تجتهد المدينة أن تجعله يابسًا يتناسب مع قساوتها، وهناك من يقتلع ذلك العود وهناك من يتركه على حاله، وهناك من قرر أن يحميه وأن يظل في مدينته الجديدة محاولاً الحفاظ على ذلك العود الأخضر. أستطيع ان أحصي لك الكثير ممن اقتلعوا ذلك العود وألقوا به مع أول محطة عبرها القطار أو تعدتها السيارة من القرية نحو إخطبوط المدينة الرأسمالي المخيف، ويمكنني أن أشير إلى عشرات كذلك أبقوا على العود الأخضر ظانين أن ذلك العود وحده هو هويتهم فانغمسوا فيه حتى تغربوا على غربتهم الأولى في المدن، فلا صاروا من أهلها ولا بقوا أصحاب العود الأخضر من الريف، وأعرف قليلاً عن هؤلاء الذين حاولوا معادلة الأمور. انظر حولك ستجدهم وستحدد أسماءهم بسهولة في كل مكان ومجال.
العود الأخضر:
أظن أن السفر الكثير لا يمنح صاحبه خبرة وفقط، قدر ما يُطلعه على الخيارات التي يمكن للمرء أن يتعامل بها مع ذلك العود الأخضر، والذي لا ينتبه له كثير من الناس في دواخلهم، فإيماني المطلق بأن الخير واحد في الجميع ما دام يمكن لإنسان واحد أن يكون خيرًا، وكذلك الشر، لذا لا يصدمني كون فلان رجل خير على غير العادة وكون علان رجل شرير له شر مستطير، فتلك الفطرة التي ساوت الجميع بعدالتها، لكننا نختلف فيما تفعله فينا ومعنا المدن والبيوت، وأدعي أن السفر الكثير واحد من أهم الأسباب التي تحافظ على ذلك العود الأخضر، إذ ينتعش ذلك العود بالاختلافات ومحاولات التفاهم والتصالح التي يجريها كثير من المضروبين بجين السفر والترحال أشباهي، فيحولون دموع الغربية –بالمناسبة عادي جدًا البكاء في الغربة لوحدك- إلى مصدر مائي لعودهم النابت ذلك، ويقلبون أرضه للماء وللشمس وللرطوبة ولكل أنواع الطقس حسب المدن التي يزورونها فتزيد خصوبة دواخلهم، فيكبر عودهم الأخضر، ويعرف حقيقة معنى "الدار" والوطن، وكلما اشتد عوده؛ اشتد العود الأخضر داخله، حتى أنني أعترف انني هنا شعرت ببعض "العنصرية"، أو تسرب إلى ذلك الإحساس بتعمد من بعض من قابلتهم، فجعلوا لساني العربي سببًا للمزاحمة ومحاولات الإقصاء، وهو أمر غاية في الصعوبة، وللحقيقة ليس كثيرًا ولا يُشبه مثلاً ما فعله النازي في اليهود، لكن الشعور نجح في التسرب إلى النفس. إذن أنا الآن مغترب يتعرض إلى أزمة عنصرية وجريمة كراهية بغيضة لكنها مستورة ومغلفة بانفعالات أخرى، وأسباب أخرى لإخفائها. لولا ذلك العود الأخضر لما احتملت، ولولا الخوف إن عُدت إلى مصر أن يجف للأبد فيموت وأموت معه لكنت على اول طائرة ترجع، لكن يبدو أن بلادنا مارست ضدنا بالأساس أولاً جريمة عنصرية أكثر خفية وبغضًا من تلك التي نتعرض إليها ونشعر بها حتى لو لم نملك الدلائل عليها.
أرى في ظني أن الحفاظ على ذلك العود –على الرغم من نبت أعواد أخرى لا تمت بصلة للقرية الأم ومن ناتج الحياة في المدن لأكثر من ثلاثين عامًا- هو مكسب المسافر الأهم، وأن الحفاظ عليه لن ولم يكن بأمر هين كما يتخيل البعض، فكما قلت ربما لا يدرك البعض وجوده، فيتم اقتلاعه دون انتباه من داخله أو يتم قتله عمدًا وكمدًا دون انتباه، وقليلون فقط من يقررون ألا تخطفهم المدن كما حذرني والدي صغيرًا، فظللت لأكثر من عشرين عامًا –نصف عمري- أحارب تلك المدينة التي حاولت سرقة روحي، وأسمد أرض عودي بتلك الأسفار إلى الأبد.
الآن ربما كانت رسالتي للماجستير هنا في البرازيل، أتفهم أسباب اختياري لموضوعها عن "أشباه المدن" وعن قريتي الأم التي غادرها الطفل منذ حذره والده وهما يخطوان في قلب محطة مصر الكبيرة المزدحمة، ومحاولة مني لرفض التشوه الذي حدث لأرضنا الأولى أرضنا التي نبت فيها عودنا الأخضر، وأظنها يدي التي تمتد على طول زراعي عبر قارتين ومحيط لتظل ممسكة بيد ذلك الأب الذي رحل منذ أكثر من ثلاثين عامًا، لكن يده ظلت ممتدة تمسك بيدي مخافة أن تخطفني المدينة التي وصفتُ علاقتي بها بأول عنوان لروايتي الأولى "لا للإسكندرية"، وفي أذني يتردد على الدوام صدى صوته "إياك أن تخطفك المدن!!".
البرازيل في 30 ديسمبر 2017
تساعدني الكتابة كثيرًا في تقوية ذلك الارتباط وأن أظلَّ على الدوام صاحب "الكتابات الساذجة البريئة" كما وصفها مرة واحدٌ من أبناء المدن، ولذلك أسجل اليوميات تلك في محاولة للتنبيه على عودي الأخضر أن يكون أكثر اندماجًا على ألا ينسى أننا حين خرجنا كان خروج محصور بمثل الخالة، وأننا سنظل جميعًا نعرف في قرارة أنفسنا أن: "داري درية وإن جارت عليا".
روائي وباحث أدبي
ري ودي جانيرو/ ميجال بيريرا