القاهرة 16 يناير 2018 الساعة 10:31 ص
ترجمة: صلاح صبري
حقًّا! أجل، أنا مريضٌ، مريضٌ جدًّا. ولكن لماذا تقولون إنني فقدتُ السيطرة على عقلي، لماذا تقولون إنني مجنون؟ ألا ترون أنني أسيطر تمامًا على عقلي؟ أليس واضحًا أنني لستُ مجنونًا؟ في الواقع، لم يزِد المرض عقلي ومشاعري وحواسي إلا قوةً وَحِدَّةً. وخصوصًا حاسة سمعي، أصبحت أشد
رهافةً. صار بإمكاني أن أسمع أصواتًا لم أسمعها من قبل مطلقًا. سمعتُ أصواتًا آتيةً من الفردوس الأعلى؛ وأخرى من الجحيم!
استمعوا! استمعوا وسأحكي لكم كيف حدث هذا. سَتَرَون، ستسمعون كم أنا عاقل.
مستحيلٌ أن أقول كيف تسللت الفكرة إلى رأسي في البداية. لم يكن هناك أي سبب لما فعلتُه. لم أكن أكره الرجل العجوز؛ وإنما كنتُ أحبه. لم يؤذِني قط. لم أكن أريد ماله. أظن أن عينه هي السبب. كانت مثل عين طائر جارح، عين واحد من تلك الطيور المرعبة التي ترقب متربصة بحيوان يحتضر، ثم تنقض على الجثة فتمزقها لتلتهمها. عندما رمقني العجوز بعينه التي تشبه عين النسر هذه، سرت قشعريرة باردة في ظهري؛ حتى دمي كاد أن يتجمد. وهكذا، كان لا بد في النهاية من أن أقتله لأغلق تلك العين اللعينة إلى الأبد.
لهذا تظنون أنني مجنون؟ المجنون لا يستطيع أن يخطط. ولكن كان عليكم أن تشاهدوا ما حدث. طوال ذلك الأسبوع ظللتُ أتودد للعجوز بأقصى ما أستطيع.
كل ليلة في تمام الثانية عشرة، كنتُ أفتح بابه ببطء. وعندما ينفتح الباب بما يكفي، أُدخِل يدي ثم رأسي. في يدي كشاف مغطى بقطعة من القماش لكي تحجب الضوء كله. ثم أقف ساكنًا تمامًا. وبعد ذلك أرفع- بحرص شديد- قطعة القماش، قليلاً جدًّا، لكي تسمح لشعاع واحد رفيع بأن يسقط على تلك العين. لسبع ليالٍ ظللتُ أفعل هذا، سبع ليالٍ طوال، كل ليلة عند منتصف الليل. دائمًا كانت العين مغلقة، لذلك كان مستحيلاً أن أُنفِّذ المُهِمَّة. فليس الرجل العجوز هو من كنتُ أريد قتله؛ وإنما هي عينه، عينه الشريرة.
وكل صباح كنتُ أذهب إلى غرفته، وبصوتٍ دافئ ودود، أسأله كيف نام. لم يخطر بباله أنني كل ليلة، في الثانية عشرة تمامًا، كنتُ أحدق في وجهه وهو نائم.
في الليلة الثامنة، كنتُ أشد حرصًا من ذي قبل وأنا أفتح الباب. حتىعقارب ساعة الحائط كانت تتحرك أسرع من يدي. لم أشعر- قبل ذلك مطلقًا- بمثل هذا العنفوان؛ كنتُ واثقًا في هذه اللحظة من النجاح.
كان العجوز نائمًا، لا يخطر بباله أنني واقف ببابه. تحرك فجأة في سريره. تظنون أنني خفتُ؟كلا.. لم أخف. كان الظلام في غرفته كثيفًا وحالكًا. أدركتُ أنه لا يستطيع أن يلحظ فتح الباب. واصلتُ دفع الباب، ببطء، وفي هدوء. أدخلتُ رأسي. أدخلت يدي بالكشاف المغطى. فجأة جلس العجوز منتصبًا في السرير وهو يصيح: "من هناك؟!"
وقفتُ ساكنًا تمامًا. لمدة ساعة كاملة لم أحرك ساكنًا. ولم أسمعه يرقد في السرير ثانية. ظل جالسًا وهو ينصتُ فحسب. ثم سمعتُ صوتًا، صرخة خوف خافتة أفلتت من العجوز. أدركتُ أنه جالس الآن منتصبًا في سريره، والخوف يملؤه؛ أدركتُ أنه يعرف أنني موجود هناك. لم يرَني. لم يكن بإمكانه أن يسمعني. فقط أحس بوجودي. أدركَ الآن أن الموت واقف هناك.
ببطء، شيئًا فشيئًا، رحتُ أرفع قطعة القماش، حتى أفلت من تحتها شعاع نحيل ليسقط على- ليسقط على عين النسر! كانت مفتوحة- مفتوحة على اتساعها، واشتد غضبي لحظة راحت تحدق في وجهي مباشرة. لم أستطع أن أرى وجه العجوز. تلك العين فقط، تلك العين الزرقاء القاسية، والدماء في أوردتي تجمدت.
ألم أخبركم بأن سمعي صار حادًّا على نحو غريب؟ استطعتُ- حينئذٍ- أن أسمع صوتًا واهنًا خفيضًا متسارعًا، يشبه دقات ساعة تُسمع من وراء جدار. كان ذلك صوت ضربات قلب العجوز. حاولتُ أن أقف ساكنًا. غير أن الصوت صار أعلى. لا بد أن خوف العجوز كان عظيمًا حقًّا. وكلما ارتفع الصوت أكثر، اشتد غضبي، وصار أكثر إيلامًا. ولكنه لم يكن الغضب فحسب. في ذلك السكون الحالك الذي يلف غرفة النوم، صار غضبي خوفًا- فالقلب كان يخفق بشدة جعلتني واثقًا من أن أحدًا سوف يسمع. حان الوقت! اندفعتُ إلى الغرفة صائحًا: "مُتْ! مُتْ!" أطلق العجوز صيحة فزع عالية وأنا أنقض عليه كاتمًا أنفاسه بالبطانية. كان قلبه لا يزال ينبض؛ ولكنني ابتسمتُ إذ شعرت بالنجاح قريبًا. لدقائق عديدة ظل ذلك القلب يخفق؛ ولكنه توقف أخيرًا. صار العجوز جثة هامدة. رفعتُ البطانية واضعًا أذني فوق صدره. لم أسمع صوتًا. أجل. كان ميتًا! ميتًا كالأحجار. لن تزعجني عينه بعد ذلك!
إذن أنا مجنون، أتقولون هذا؟ كان يجب أن تشاهدوا كم كنت حريصًا أن أضع الجثة حيث لا يمكن لأحد أن يعثر عليها. بترتُ الرأس أولاً، ثم الذراعين والرجلين. كنتُ حريصًا ألا أترك قطرة من الدماء تسقط على الأرضية. نزعت من ألواحها ثلاثة، ووضعتُ الأشلاء. ثم أعدت الألواح إلى مكانها، بحرص، بحرص شديد بحيث لا تستطيع عين مخلوق أن تعرف أنها نُزِعت من مكانها.
ما أن انتهيت من هذه المهمة، حتى سمعتُ أحدًا بالباب. كانت الساعة حينئذ الرابعة صباحًا، غير أن الظلام لا يزال مخيمًا. ومع ذلك، لم أشعر بالخوف وأنا نازل لأفتح الباب. كانوا ثلاثة رجال، ثلاثة من ضباط الشرطة. كان أحد الجيران قد سمع صرخة العجوز فاستدعى البوليس؛ هؤلاء الثلاثة أتوا ليسألوا بعض الأسئلة ويفتشوا البيت.
طلبتُ منهم أن يتفضلوا بالدخول. قلتُ إن الصرخة كانت صرختي أنا، بينما كنت أحلم. قلتُ إن العجوز كان بالخارج؛ ذهب لزيارة صديق له في الريف. تجولتُ بهم في أرجاء البيت كله، طالبًا منهم أن يفتشوه جيدًا. قدتهم في النهاية إلى غرفة نوم العجوز. وكأنني ألاعبهم، طلبت منهم أن يجلسوا برهة لنتكلم.
أسلوبي الهادئ السلس جعل رجال البوليس يصدقون قصتي. لذلك جلسوا يحادثونني بطريقة ودية. ولكن برغم أني جاوبتهم بنفس الطريقة، سُرْعانَ ما تمنيت أن يرحلوا. كان رأسي يؤلمني وثمة صوت غريب يتردد في أذُنيَّ. رحتُ أثرثر، وأتكلم أسرع. صار الصوت أوضح. وكانوا لا يزالون يجلسون ويتحدثون.
فجأةً أدركتُ أن الصوت لم يكن في أُذُنيَّ، لم يكن يتردد في رأسي. في تلك اللحظة لا بد أنني صرتُ شاحبًا تمامًا. ظللتُ أتحدث أسرع، ويعلو صوتي أكثر وأكثر. والصوت يعلو ويعلو. كان صوتًا واهنًا خافتًا سريعًا، يشبه دقات ساعة مسموعة من وراء جدار، صوتًا كنت أعرفه جيدًا. صار أعلى وأعلى. لماذا لم يرحل الرجال؟ أعلى، وأعلى. وقفتُ ومشيت بخطوات مسرعة في أنحاء الغرفة. دفعتُ مقعدي على الأرضية لأُحْدِثَ مزيدًا من الضوضاء، ربما تطغى على ذلك الصوت المزعج. رفعتُ صوتي أكثر. وظل الرجال جالسين يتحدثون ويبتسمون. هل كان من المحتمل أنهم لم يسمعوا؟؟
كلا! لقد سمعوا. كنتُ متأكدًا من هذا. لقد عرفوا! في تلك اللحظة كانوا هم الذين يلاعبونني. كنتُ أعاني بأكثر مما أُطيق، من ابتساماتهم، ومن ذلك الصوت. أعلى وأعلى وأعلى! فجأة لم أستطع أن أحتمل أكثر من هذا. أشرتُ إلى الألواح صائحًا: "أجل! أجل، أنا قتلته. ارفعوا الألواح وسترون! قتلته. ولكن لماذا لا يكف قلبه عن الخفقان؟! لماذا لا يكف!؟"