القاهرة 16 يناير 2018 الساعة 09:08 ص
كتبت : نضال ممدوح
هل الكنوز الحقيقية هي الذهب والجواهر؟ أم هي تلك التي نحملها في ذواتنا وأروحنا وقلوبنا ؟ أو كما قال الإمام علي ابن أبي طالب: وتحسب انك جـِرمٌ صغير ..وفيك انطوى العالم الأكبر
داؤك منك وما تبصر.. دواؤك فيك وما تشعر
تحسب أنك جرم صغير.. وفيك انطوى العالم الأكبر
طريق التصوف والمتصوفة? أو طريق العشق الآلهي الذي لا ينتهي عطاؤه ولا تنضب مواجيده? أنه العشق الذي ذاقه كبار العابدين والزاهدين? قد يختزله البعض في حضور موالد أقطاب الطرق الصوفية? أو حتي الحديث عن كرامات الأولياء والإعتقاد فيها. وما يغذي هذه التصورات هي تلك الصورة النمطية التي تتناول سير أقطاب المتصوفين? فرسان العشق الآلهي? بأنهم أهل خطوة? ينبذون الدنيا بصراعاتها وأطماعها? شهواتها ومطالبها? طالبين وجه الله سالكين طريقه بتقشف وزهد وطلاق الدنيا بملذاتها وإلقائها علي جوانب ذلك الطريق.
إلا أن الباحث الكاتب والروائى عمار علي حسن? في روايته الأحدث"خبيئة العارف" والصادرة في القاهرة? عن الدار المصرية اللبنانية للنشر والتوزيع? يقدم الجانب الآخر الأكثر تفاعلا وحيوية وإشتباك مع الحياة وأحوال العباد? وهو ما لا يتعارض مع الطريق الذي يسلكه الصوفي? فالنضال من أجل مبدأ أو قضية? وتحمل المصاعب والمشاق في سبيلها? لا يقل في شيئ عن تلك التي يتجشمها المريد في طريق العشق الآلهي.
فبطلنا الدكتور "خيري محفوظ" الأستاذ الجامعي? يطرق باب التأريخ متجولا بين حنايا? التاريخ الحديث والمعاصر? يفتش في جنباتها ويستنطقها فتهديه? ولا يحصر نفسه في موضوع واحد كدأب زملائه. لذا وقع عليه إختيار ناظر وزارة الأوقاف? ليتقصي سيرة القطب الصوفي الشيخ"محمد ماضي أبو العزائم" بحثا عن الكنز الذي أخفاه طمرا تحت التراب? ليحصن مريديه من بريق ذهبه الزائف.
قسم عمار حسن الرواية لثلاثة أقسام? يبدأ القسم الأول منها المعنون ب"خطي العراف" بموظف نظارة الوقف "ماهر السعدي"وهو يقلب في رأسه الحكايات التي تناقلتها الأجيال? جيلا وراء الأخر حول الخبيئة التي دفنها الشيخ أبو العزائم تحت بيته? مستعيدا حكاية خلف المنياوي أحد مريدي الشيخ? وهو يزف إليه فرحا إكتشافهم لكنز من الذهب وهم يحفرون سعيا وراء الماء العذب. وهنا يترك الراوي قارئه معلقا فلا هو أفصح عن أن هناك كنزا بالفعل أم أنه شبه للمريدين? والكنز الحقيقي وهو حيث الصدور والقلوب. ف"عرض الدنيا يثير الشحناء بين المكتالبين عليها" كما خطب الشيخ في مريديه. إلا أن خلف لم يقتنع وظل يحله بالكنز ونقل القصة لولده الذي نقلها بدوره لحفيده"عليوة" الموظف الآخر بنظارة الأوقاف.
وفي محاولتهما للبحث عن الكنز? تصل أخباره إلي"الجالس على الكرسي الكبير"? والذي يتربص بدوره بالكنز ويصدق الحكايات التي حيكت حوله? لدرجة أنه يستعين بعراف مغربي للوصول إليه ! وربما أراد الراوي أن يلجأ الحاكم إلي المشعوذين والدجالين? للتأكيد علي أن من أسباب تخلف مجتمعاتنا العربية? هو رسوخ الإعتقاد في السحر والدجل رغم القشور الحضارية? والتي توهم بها نفسها بأنها في حال نهضوي? فبينما تلك المجتمعات تستخدمه تكنولوجيا الإتصالات والمعلومات? لكن عقولها مازالت أسيرة الوهم والخرافة. فما بال شعب حاكمه يستعين بعراف للحصول علي كنز? جاء ذكره في حكاية خرافية لا دليل علي حدوثها من الأصل? إلا أقاويل شفوية تناقلتها الشفاه.
أما القسم الثاني من الرواية? فجاء بعنوان"أوراق العارف" وهي حصاد الرحلة التي خاضها الدكتور خيري محفوظ? بحثا عن سيرة الشيخ أبو العزائم? حيث أقتفي خط سيره من (محلة أبو علي) مسقط رأس الشيخ? باحثا عن أية واردة أو شاردة? أية كلمة أو عبارة? أو مكان أنس القعود فيه? إلا أنه يتغافل عن أولي الإشارات للطريق الصحيح الذي عليه أن يسلكه:"وطال بي السير لكنني كنت مستمتعا بنسائم طرية? ومدي مفتوح تتراقص فيه عن بعد أضواء خافتة? شعرت أن أصابع تنقر كتفي ? استدرت مذعورا فرأيت كائنا ملفوفا في لباس أبيض لا تظهر منه أي ملامح? يقول: من استكبر علي البدايات أن يصل إلي النهايات". تتواصل رحلة محفوظ وراء سيرة الشيخ أبو العزائم? إلي أن يصل نهايتها في مدينة"سواكن" بالسودان. تتكشف الحقائق أمامه وتسقط الأحكام المسبقة التي كان قد كونها من قبل عن الصوفية? وعن الشيخ. فقد كان أبو العزائم من المناهضين للحكام? يقف ضد الظلم وقمع الضعفاء. حيث تزامن وجوده معلما في السودان مع الإحتلال الإنجليزي? الذي وجده خطرا علي وجودهم هناك? فلم يستسلم الشيخ عندما وجد المدرسة خاوية? وتلاميذها في الحقول مع أبائهم? وأنما دار من نزل لأخر ليقنع الأهالي بأهمية تعليم أولادهم? لدرجة أن إمام المسجد وكان له حظوة? قرر أن يحاربه هو الاخر لما لمسه من خطر علي سطوته? علي الأهالي لكن محاولته تفشل ويتحول لمريد له. كان أبو العزائم يحارب علي الجبهتين? ففي السودان يحارب الجهل المتفشي بين أهله? لكنه لا يقطع صلته بمصر والحراك السياسي والثوري بها? حيث كان يرسل إلي الزعيم"مصطفي كامل" ليشد علي يده وينصحه بما عليه أن يفعله في مقاومة الإنجليز.وعندما يطرده ــ أبو العزائم ــ الإنجليز من السودان? ويعود إلي مصر يجمع مريديه من الطريقة العزمية وتكون لهم مشاركة قوية في ثورة 1919 ? حيث إلتقي أبو العزائم ب"سعد زغلول" ورافقه عدة مرات في النادي السعدي? بل وجعل من فناء بيته الخلفي مكانا لتطبع فيه منشورات الثورة. كل هذا وأكثر توصل إليه خيري محفوظ حتي وصل لقناعة مفادها المضي في تأليف كتاب عن? التاريخ السياسي للطريقة العزمية? فقد يفيد منه الجالس علي الكرسي الكبير? في التعامل مع المتصوفة? وتفهمه أنهم جميعا ليسوا مستأنسين أو متآلفين مع الحكام.
في القسم الثالث والأخير من الرواية"رحلة العارف" تكون ذروة الرحلة وبدء إكتمالها? ليس بمواضعات خيري محفوظ الدنيوي الذي تلقف أمر ناظر الأوقاف? طمعا في منصب رئاسة الجامعة? أو أحد الوظائف العليا في الدولة? لكن المريد الباحث عن الحقيقة في أماكنها التي تجاهلها? رغم الإشارات الكثيرة التي صادفته طوال طريقه. فبعد أن طرد محفوظ الأطماع من قلبه? ورفض أن يغير قناعاته وما يؤمن به? وألا يشارك في المؤامرة التي يدبرها الجهاز الأمني? يهرب من القاهرة لاجئا إلي صديقه"مرتضي" وهناك يعتكف في بيته لا يبارح غرفة المكتب? حيث وجد في كتب الشيخ أبو العزائم وأشعاره? مدارج السالكين التي تاه عنها في بداية رحلته.
لم يكن قرار خيري محفوظ بالهروب إلي السودان? عن جبن أو خوف من مواجهة مصيره بعد رفضه المشاركة في تزييف الحقائق والتاريخ? إنما كانت خطوة جسورة ليستعيد بها تاريخه الذي فرط فيه? بعدما قضي عمره منتظرا في لهفة? ثمن صمته ورضوخه? لا تشفع له فترات متقطعة? حاول فيها التمرد والتغريد خارج كورسهم المؤدلج. قرر خيري أخيرا أن يسلك طريق الشيخ أبو العزائم? ينهج منهجه عندما ضيق عليه الإنجليز الخناق. متلمسا كلماته وأفكاره الرافضة للفرقة والمذهبية? وجهوده الداعية لإصلاح أحوال الناس ومقاومة الظلم والإستعباد والفساد? وللتصدي للغزاة أيا كان نوعهم ولونهم? ونصرة المستضعفين أينما وجدوا. تحرر خيري محفوظ أخيرا وهو يضع أقدامه علي المركب النيلي متجها إلي السودان.