القاهرة 05 ديسمبر 2017 الساعة 10:15 ص
بقلم: د. أحمد عمر
" سيمر وقت طويل ليولد إن ولد / أندلسي بهذا الصفاء ، وبهذا الغنى في المغامرة ". هذا مقطع من قصيدة للشاعر الإسباني " لوركا " قالها في رثاء صديقة مصارع الثيران " أغناثو سانشيث ميخياس " الذي قتلته أحد الثيران في حلبة المصارعة. وهي أصدق كلمات يمكن أن تصف الراحل محمود أمين العالم، لما تمتع به من سمات فكرية وشخصية، وثراء إنساني وتنوع في التجربة.
الإخلاص الصوفي:
كثيرة هي ملامح الورع والإخلاص الصوفي في شخصية الأستاذ محمود أمين العالم، مثل: صفاء النفس، الرقة والعذوبة عند اللقاء وأثناء الحديث، الدفء الإنساني وحب البشر، التفاني الشديد في العمل لكي يصبح " المثال " وما ينبغي أن يكون هو الكائن بالفعل. التمسك بالأمل والتفاؤل الذي كان أبرز صفاته، والابتسامة الدائمة التي لا تفارق وجه مطلقاً.
وقد يستغرب البعض هذا الربط بين الماركسي العتيد والتصوف، ويتساءلون : كيف يمكن أن تجتمع في شخصية محمود أمين العالم تلك المتناقضات؟!
لكن تلك الغرابة تزول في سيرة وشخصية محمود أمين العالم، بل هي تًجسد التنوع في شخصيته وثقافته؛ فقد نشأ في بيئة دينية كابن لعالم أزهري، كان وكيلًا للجمعية الشرعية، وصاحب عمود في صحن الجامع الأزهر، يُلقي فيه دروس يومية بعد صلاتي العصر والعشاء . واسمه الحقيقي هو " السيد أمين " أما لقب " العالم " فهي صفة له أصبحت اسمًا وصيق الصبة به دائمًا.
ومحمود أمين العالم، هو صوفي بالمعني الأكثر ثراءً للتصوف، بوصفه رؤية فكرية للكون ولحياة البشر فيه. رؤية جوهرها البحث عن الوحدة والاتفاق خلف التعدد والكثرة. وهو صوفي على شاكلة " الحلاج " في رغبته الثورية في تغيير الوضع القائم الظالم. الحلاج " الذي كان الناس يلتفون حوله أينما حل، ويسيرون خلفه أينما ارتحل". الحلاج الذي دفع حياته ثمناً لمحاولته منع مستمعيه ومريديه من الانحناء المر أمام " وهج الرغيف " كما رأى الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور في مسرحيته الشعرية الشهيرة عنه.
ومحمود أمين العالم، هو صوفي بحكمة السنين التي امتلكها وباتساع تجربته الحياتية، وهو صوفي بروح الطفولة والهشة والرغبة في التعرف على كل جديد التي كانت تميزه. وبتسامحه وبانفتاحه على مختلف التيارات والاتجاهات الفكرية؛ فكأنه " محي الدين بن عربي " عندما قال : " لقد صار قلبي قابلا كل صورة / فمرعى لغزلان ودير لرهبان / وبيت لأوثان وكعبة طائف / وألواح توراة ومصحف قرآن".
وهو أيضاً صوفي فيلسوف، كابن مدينه أخميم في صعيد مصر " ذو النون المصري " هذا الصوفي الذي كان أول الصوفية الفلاسفة، والذي يٌقال إنه بحث عن " إكسير الفلاسفة " الذي يحول التراب تبراً. ومثله فعل محمود أمين العالم بحث عن إكسير الفلاسفة لا ليحول التراب تبرًا ، بل ليوقظ العقول والأرواح من ثباتها العميق لتسعي لتكريس قيم الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية.
وكان إكسير الفلاسفة الذي وجده محمود العالم هو المنهج النقدي والرؤية النقدية؛ فالمثقف عند العالم – كما هو عند جرامشي الذي كتب عنه كتاب " الأساس الفلسفي لفكر جرا مشي " – هو ناقد للسلطة والمجتمع علي الدوام. وهو المسؤول عن تنمية الوعي النقدي لدى الجماهير. هذا الوعي النقدي الضروري والممهد لأي نهضة حقيقية.
المثقف الفاعل الملتزم:
" لقد خرجنا من ضيق وصمت الجامعة إلى فضاء وصخب الشارع ". بتلك الكلمات كان محمود أمين العالم يعزي رفيق دربه الراحل الدكتور عبد العظيم أنيس، وهما يهمان بالخروج معًا من بوابة الجامعة - التي فصلا منها عام 1954- إلى الشارع.
ومنذ ذلك الحين إنحاز محمود أمين العالم إلى الشارع بفضائه الرحب، وإلى الجماهير العريضة. وأصبح نموذجاً للمثقف أو الفيلسوف الفاعل الذي أسس ذاته وفكره وهذبهما بمجهوده الشخصي. وبالطريقة التي اختارها لنفسه؛ فرفض أن يكون فيلسوفًا موظفًا ومثقفًا مدجنًاأو مغيبًا عن الناس، كما فعل غيره من سكان الأبراج العاجية.
ولهذا فإن " الإنسان مواقف " هو أكثر من عنوان لأحد كتب محمود أمين العالم؛ فقد كان في واقع الأمر أسلوبًا ودستورًا لحياته وعمله.
رحم الله الأستاذ محمود أمين العالم؛ فقد علمنا أن الأمل هو آخر ما يمكن أن يفقده الرجل العظيم، وكان هو عظيمًا بحق؛ فلم يعرف اليأس طريقًا إلى قلبه، وعاش حتى ساعته الأخيرة في تفاؤل بمستقبل الإنسان، وبقدرته على تغيير الحياة إلى الأفضل والارتقاء بها.
بل أظنه عندما حانت ساعة الرحيل وعندما دنا منه " ملك الموت " تبسم له كعادته مع الجميع ، وقال له: " أفعل ما تُأمر به، فالموت هي النهاية الحتمية للبشر, وهو نهاية منطقية لحياة أي كائن. واعتقد أن حياتي على الأرض لم تكن " مصادفة " أو عبثًا، بل كانت ذات جدوى عظيمة. وقد نجحت في إيجاد معنى لحياتي، وقيمة لوجودي، ولذا سأرحل إلى أرض الكواكب هادئاً مطمئناً؛ فقد أديت واجبي على أكمل وجه، وما قصرت في شيء قط، وقلت معظم ما كنت أريد. وكما قال سقراط لتلاميذه، أقول لتلاميذي: " مثل النحلة أترك فيكم شوكتي قبل أن أموت".
ولكن عن حق أقول لك: أني أرحل وفي القلب غصة وفي الحلق مرارة، منبعهما أمرين: الأمر الأول، أني لم أكتب الجزء الثاني من كتابي " فلسفة المصادفة "؛ فكثيراً ما روادني هذا الحلم، وكنت أُمني النفس بأن يتاح لي من العمر والجهد ما ييسر لي ذلك. الأمر الثاني، عدم يقيني من قدرة مثقفي هذا الزمن في استكمال مشروع تطوير مجتمعنا وثقافتنا على الأسس التي وضعناها، لكي تأتي مشاريعنا الفكرية بثمارها تقدمًا وازدهارًا وعدالة اجتماعية.
في النهاية، تحية إلى روح الراحل النبيل محمود أمين العالم. تحية من أبناء جيلنا الذي افتقد دفىء وجوده بيننا، وافتقد كل القيم التي مثلها في حياتنا الثقافية. تحية له وقد اتعبنا معه عندما جسد لنا بذاته وحياته نموذجًا عظيمًا يصعب الاقتداء به، ومثل النحلة ترك فينا شوكته قبل أن يموت.