القاهرة 28 نوفمبر 2017 الساعة 10:23 ص
انتشار كليات تدريس الفن أنتج لنا عدداً ضخماً من صانعي اللوحات والأعمال الفنية !
أنا ابن الأرض ،تجدني في لوحاتي أتجول في حقولي ،و أري نفسى علي سطح ماء البحيرة
معرض "ناس" محاولة لطرح وجهة نظري في المجتمع الذي أعيش فيه ،ومحاكاة لناس أراهم كل يوم ،في كل مكان !
حواره ـ أحمد مصطفى الغـر
عندما بحثنا في دروب الفن التشكيلي عن معاني العطاء الممزوجة بالفن في أشرعة المساء الساحرة ... قادنا البحث إلى هذا الفنان ،هو غنيٌ عن التعريف ،لكن في إطار الاحتفاء بالقامات الفنية التي أثرت ومازالت تؤثر ،كان لابد لنا من هذا اللقاء ،إنه الفنان القدير "د. عبدالوهاب عبدالمحسن" ، وقد تكون فرصة مناسبة أيضا لإلقاء مزيداً من الضوء على مشروعه الذي أطلقته مؤسسته "مؤسسة الفنان عبد الوهاب عبد المحسن"، وهي منظمة غير هادفة للربح ترمي لتنمية المجتمع بالفن، حيث ساهمت المؤسسة في رسم جداريات مشرقة غيرت وجه قرية البرلس بكفر الشيخ تماماً. مجلة "مصر المحروسة" إلتقت بالفنان التشكيلي القدير" د. عبدالوهاب عبدالمحسن " ،و كان لنا هذا الحوار:
* في ريف بلقاس بمحافظة الدقهلية، صادف الفتى "عبدالوهاب عبدالمحسن" أنه داخل كتّاب قريته وكل من فيه من المكفوفين ،فكانت تلك الحادثة بداية إنتقاله لعالم آخر من التعليم ،فهل لنا أنعود قليلاً للوراء .. لتروى لنا عن بدايتك؟ ،ومن ثمَّ كيف دخلت إلى عالم الفن ؟
بدايةً.. نشأت في عزبة "أبو سيد" التابعة لمنشأة عبد القادر ، بمركز بلقاس في محافظة الدقهلية ، وأنا طفل صغير مرضت مرضاً شديداً ،ونذرتني أمى إن تعافيت من المرض أحفظ القرآن وأصبح فقي، وفعلا تعافيت ،ومرت سنوات ،وجاء ميعاد المدرسة ،وتذكرت أمى نذرها ،فأخرجونى من المدرسة بعد أسبوعين ،وذهبت لكتّاب الشيخ شاهين بقرية قراش القريبة من عزبتنا ، وفي الكتاب مكثت أكثر من 4 سنوات ،كنت أحفظ فيها القرآن بصعوبة ،وكان والدي يغرينى بكل الوسائل لإتمام حفظ القرآن ، المهم حدثت بعض المشاكل في البيت وذهبت أمى عند أهلها ،ولمن لا يعرف مكانة المرأة في الريف ، فهى كل شيء بالبيت ، فمن دونها .. لا أكل ولا شرب ولا لبس، ويعم البيت الظلام ، فهي ما تنيره في الليل ،وهي الدفء والحنان ،والأب في الريف خارج البيت لا يعلم عنه شيء، ووجدتها فرصة للضغط وتنفيذ ما أريد ، في حالة الحزن والكآبة التي أعيشها بسبب غياب أمى عن البيت، وفي لحظة تأملت حالي في الكتّاب ، أنا الوحيد الذي بلا عاهة، والوحيد الذي لا يقال له شيخ، بعد أكثر من 4 سنوات اكتشفت أنني الوحيد السليم، ويقودني في الكتّاب شاب كفيف وأظل أهز جسدي طول النهار ،ولو توقفت لا أدري إلي الآن كيف كان هذا الكفيف يعرف أننى توقفت عن هز الجسد علي عادة من يرتلون القرآن في الكتاتيب، جاءت لحظة التمرد والعصيان ،فأنا في الكتاب رافض هذا الوضع ،والبيت مظلم خالي من نور والدتي، وفي رحلة العودة من "قراش" مع قرب الغروب ،و إصفرار الجو وشحوبة من الحزن الذي يسكن القري في الليل بين عزبتنا وعزبة "قراش" كانت عزبة الدكتور ،وهي قرية يسكنها فلاحين أرض الدكتور وكل سكانها من الإخوة المسيحيين ،وبين البيوت والطريق مسافة بها أرض فراغ ،كنا أحيانا نستعمل هذا الفراغ ملعباً للعب الكرة ،جائتني فكرة جهنمية حينها ، قررت أن أغرس أصابعي بالطمي الموجود بتلك الأرض وأن أضعه في عيناي ،فتورمت عيناي وانتفخت ،أخذوني كالأعمى إلى المنزل ،عادت أمي إلى المنزل خائفة عليّ ،كانت مرعوبة مما حدث ،سألتني عن سبب فعلتي لذلك ، فأخبرتها إما أن أصير أعمي لأكمل فى الكتّاب ،أو أن تتركني أكمل دراستي بالمدرسة ، فاستجابت أمى وتخلت عن نذرها ،ولأن والدى كان عضواً في مجلس الأباء.. ذهبت للمدرسة في منتصف السنة الرابعة ،لأجلس علي مقعد ،وفي فصل ،وأسمع الجرس ،وأطبل في طابور الصباح وأرسم ، وأظل أرسم إلى الآن.
* درست الفن ثم عملت في مجال تدريسه ، هذا يدفعني لسؤالك: هل الفن موهبة .. أم لابد من دراسته ؟
الفن موهبة ،والدراسة تثقلها ، لكن دراسة الفن وحدها لا تخلق فناناً ، من الممكن أن تنتج لنا صانع ماهر ، وبكل أسف انتشار كليات تدريس الفن أنتج لنا عدد ضخم من صانعي اللوحات والأعمال الفنية ، وهنا فرق بين الإبداع وحرفة صناعة الصورة ، والآن في مصر صناع كثر في مجال الفن ومبدعون قلة جدا.
* بينك وبين البرلس قصة عشق طويلة ، عنوانها الفن ، وفي مضمونها العطاء، فهل لك أن تحدثنا عن ذلك قليلاً ؟
منطقة البرلس بالنسبة لي مصدر للإلهام ،وكل إنسان له أماكن يتفاعل معها ،ويقال إن هناك كيمياء مع المكان ، فالبرلس أري فيها ألواني وفراغ لوحاتي و إيقاعها ، أنا ابن الأرض ،وأعيش قربها ،تجدني في لوحاتي أتجول في حقولي ،و أري نفسى علي سطح ماء البحيرة.
* "مؤسسة الفنان عبد الوهاب عبد المحسن"، منظمة غير هادفة للربح ترمي لتنمية المجتمع بالفن ، حدثنا عن أنشطة تلك المؤسسة ـ بخلاف ما أثمرته
بالبرلس ؟
المؤسسة مؤسسة أهلية تابعة لوزارة التضامن الاجتماعي ،وتهتم بالعمل الثقافي ورعاية المواهب وتنمية الحرف اليدوية.
* في معرض "ناس" قدمت أعمالاً كشفت التنوعات الكثيرة لوجوه وأشكال البشر، يرى د. عادل مصطفى أنك قدمت الشر والجمال الداخلي معاً، لكن في نفس الوقت تشابه بعضها مع أشكال الحيوانات بشكل أو بآخر، فما الرسالة التي حملتها أعمال ذاك المعرض برأيك؟
معرض "ناس" محاولة لطرح وجهة نظري في المجتمع الذي أعيش فيه ومحاكاة لناس أراهم كل يوم في كل مكان ، وطوال عمري بعيد عن هذه المساحة في التعبير ،ولكن لفت نظري في الفترة الأخيرة حالة التبدل التي حدثت للناس ،وأظهرت أسوأ مافيهم ،ووجدنا حصاد سنوات طويلة من التشوه وتحطيم الشخصية المصرية ،وقد طفح علي الوجوه والسلوك ، فأصبحنا بلا هوية ولا ملمح.
* قلت سابقاً .. تعقيباً على شللية المعارض الكبرى للفنانين الكبار:" أنا مع الشللية ،طالما تتفاعل لمصلحة الفن" ،لكن أن تلك الشللية تنتقل إلى الجوائز
والتكريمات ومنح التفرغ ،فما تعليقك ؟
مازلت عند رأيي عندما نتكلم عن العمل الجماعي ، فطالما تجمعت مجموعة واجتمعت علي التجرد والنزاهة وحب العطاء والجدية والشرف والخير، لماذا نحاربها؟!، أما المحسوبية والاستحواذ والفساد ،فأنا ضده علي طول الخط.
* هل يستطيع الفنان التشكيلي في مصر اليوم ،أن يعيش حياة كريمة من فنه وبيع لوحاته فقط ؟
ليس كل الفنانين يعيشون من فنهم ،البعض هكذا و البعض الآخر لا، هى تجارة وسوق، حسب الثقافة وحسب البيئة وحسب العلاقات ، وأحيانا المصالح.
*كيف تنظر إلى واقع الفن التشكيلي المصري المعاصر ،وهل الأعمال الفنية للجيل الجديد تبشر بأفاق مشرقة؟
في كل جيل هناك الأصيل والمزيف، ولا تعول علي هذا كثيرا ،لايوجد نقد والتاريخ مزيف في أغلبه ، أنا أعيش و أبدع بالقرب من أرضي ، أتمني من متابعي ومتلقي أعمال أن يري فيها عبد الوهاب ولا يري فيها آخر ، أعمالي هى أنا ،وأنا ابن بيئته وثقافته. لايوجد نقد فيه اجتهادات نابعة من وجهة نظر من يكتب عن الفن ،أو مدى علاقته بصاحب اللوحة ، والنقاد معظمهم عرابين لفنان أو فنانة حسب المصلحة والصداقة والارتياح الشخصي.
* الرسم بالنسبة لك هو ...؟
الرسم بالنسبة لي مهنة ، أعيش بها ومنها وعليها !
* بصراحة ، لو لم يكن "د. عبدالوهاب عبدالمحسن" فناناً تشكيلياً ، لتمنى أن يكون ..... ؟
كنت أتمني أن أكون مزارع ،يزرع الأرض ، أنا أحب الفلاحة والأرض ،وأملك الفضول لمتابعة النبتة ومراحل نموها و أتجدد و أنمو معها.
* كلمة أخيرة ؟
أتمنى أن ابني مكان أحفظ فيه كل أعمالي ، عندي تجربة في الحفر علي الخشب تصلح لعمل متحف نوعي لفن الجرافيك، أعشق البناء، و اتمني أن أظل أرسم و أمارس فعل البناء قبل موتي، والرحيل.