القاهرة 14 نوفمبر 2017 الساعة 10:06 ص
مرت ساعات ونحن في طريقنا نحو الشمال الغربي، وكُنا قطعنا ما يربو على (600 كم) دون تخطي السرعة المقررة على الطريق والتي لم تتجاوز (90 كم) إلا في مسافات محدودة رغم خلو الطريق لفترات طويلة من أي زحام ممكن، وعلى طول الطريق كُنا نلاحظ تلك الكاميرات التي تلتقط السرعة المتجاوزة للمخالفين، لكن ذلك لم يمنع أن يمر إلى جوارنا بعض المتهورين من قادة السيارات والمركبات، وهو في ظنّ صديقي واحد من أهم أسباب الحوادث هُنا في البرازيل، ولما سألتهما عن كيفية تفادي كاميرات المراقبة، أخبراني بأمر شديد الغرابة، أن غالبية السيارات هنا يشتري أصحابها جهازًا للكشف عن الرادارات على الطريق، وتحذير القائد قبل موضع الكاميرا بمسافة تسمح له بتهدئة السرعة ضمانًا لتلافي المخالفة المرورية، ولما سألت: "وهل تعرف الحكومة ذلك، أقصد المرور؟"، ابتسما وقالا بإن الحكومة والمرور هما أكبر البائعين لهذا الجهاز. إذن ثمة التباس، لكنهما قالا بسخرية شديدة: "الحكومات في العالم في غالبها لا تختلف، ففي جانب كبير من تلك الحكومات ثمة طرائق لامتصاص الشعوب". كنتُ نسيت أن أحكي لكما أن
الصديقين من أهل "اليسار البرازيلي" المعارض لليمين المتطرف هنا في البرازيل.
تبخرت هكذا بسهولة الأسطورة التي كنتُ أبنيها في خيالي عن هذا المرور المثالي على الطرق في البرازيل، وهو ما سيتلاشى تمامًا بعيدًا عن تلك المثالية المتوقعة وبعد زوال صدمة الانبهار بالمدن الجديدة والأماكن الجميلة، ليبقه لي حقيقة واحدة، تقف عارية من كل انبهار وإعجاب، أن الإنسان واحد في العالم مهما اختلفت التوجهات ومهما بلغ من حضارة إلا أن الكمال لم ولن يصله هذا الكائن المجبول على نقصان دائم، إذ عرفت فيما بعد أن آلاف الضحايا من حوادث السيارات نتيجة هؤلاء القادة غير المنضبطين مروريًا، وهُنا استشهد بجملة صديقي: "في الويك إند سترى ما يحدث من تهور هؤلاء، ما بين قائد مخمور وثان غير مراعٍ لقواعد المرور، وغيرهما كثير ممن تسول له نفسه خروقات مرورية تسبب كوارث بشرية"، كان العجيب في كلام صديقي أن الجميع يعرف (أ. ب) في قانون المرور وقاعدته الأولى؛ وهي أن السائر على الأرض هشٌّ وضعيف، وله كل أولويات العبور والأمان في الشارع قبل المتحركين في سياراتهم ومركباتهم".
في محطة البترول:
كانت الشمس غربت منذ ساعة أو أكثر، حين كُنا نتوقف في استراحتنا الثالثة، وفي آخر المدن التي يمكن أن تقابلنا في طريق المزرعة، وهي إشارة إلى اقترابنا من مقصدنا، فجلسنا نتزود بالوقود، واقترحت الصديقة تناول العشاء في المدينة قبل الدخول إلى الطريق الأحمر. جذبتني التسمية "الطريق الأحمر"، وسألت عن سرّ التسمية فابتسمت وقالت: "ستكتشف يا حضرة الكاتب بنفسك، والآن استمتع بالعشاء البرازيلي".
يجب الإشارة هنا إلى ملاحظتين أراهما على رغم بساطتهما إلا أنهما فارقتين في كل تلك المقارنة التي بدأت منذ ركوبي الطائرة في مطار القاهرة الدولي وحتى الآن وعلى بعد آلاف الكيلومترات، وتأتي الملاحظة الأولى:
- أن كثيرًا من محطات البترول إن لم يكن كلها على الطرق السريعة بالبرازيل، ملحق بها مطاعم جيدة ومقاهٍ لتناول المشروبات أو الوجبات السريعة والمخبوزات، وتخلو من الكحوليات في غالبها، وملحق ببعضها فنادق صغيرة للنوم، تقدم فيها خدمة فندقية كاملة، وما دمنا جئنا على ذكر تلك النوعية من الفنادق، يجب أن أشير إلى الصدمة التي شعرت بها حين رأيت أحد الموتلات (غرف للإيجار محدد الساعات) يحمل العلم المصري، ولافتته العملاقة "موتيل مصر"، وصورة ضخمة للأهرامات وأبو الهول وأظن رأس توت عنخ آمون في مُدخل ذاك الموتيل، ولأني غريب لا يعلم، رُحت أفخر بهذا الغزو الاستثماري للمصريين، فجأة غرق الصديقان في الضحك، وراح يشرحان لي أن "الموتيل" ليس فندقًا بالمعنى المفهوم لدي أو الذي كونته من ثقافة الأفلام الأمريكية، إنما "الموتيل" هُنا هو مكان يمكن أن يتواعد في رجل وامرأة لساعة أو أكثر حسبما أرادا، وذلك لقضاء لقاءات حميمية. أُسقط في يدي كما يقولون، ورحت أقوم بمسح كل الصور التي كنتُ التقطتها للمكان بعد خروجنا من المدينة، وحاول طرد آلاف الصور المخجلة عن مصريين في الغربة. ربما ما مثل لي نوع من الحرج باعتباري ابن ثقافة الشرق، لم يكن عند صديقي إلا نكتة سيحكيان عنها –ربما- في مستقبلهما وعن ذلك التحول من الفخر إلى الخجل الذى لجم لساني.
وتأتي الملاحظة الأخرى أيضًا عن نظافة محطات البترول تلك، وهي نظافة لافتة لشخص مثلي، لا تقل دهشتي فيها عن دهشتي حين رأيت "موقف الأتوبيسات"، إذ لم تكن ثمة نقطة زيت واحدة أو مازوت أو بترول في أرضية هذه الأماكن إطلاقًا، ولا أثر لأي رائحة تملأ المكان، ناهيك عن نظافة العمال في زيهم "اللي بيبرق" وجميعهم يحمل ماكينة الصراف الآلي في يديه إن تعذر الدفع النقدي وهو قليل جدًا هُنا، ولا يتوقف الأمر على ذلك، بل ستجد كل الخدمات البسيطة المعاونة لسيارتك كغسل زجاجها الأمامي والخلفي وتبريد المحرك وتنظيف العجلات يحدث خلال التزود بالوقود، دون أن يأتيك العامل بالمحطة ليقول كلمته الشهيرة في مصر: "نورت يا أفندم" والتي هي في الحقيقة إشارة إلى طلب المال نظير ما فعله من خدمة لسيارتك. قلت لعل تلك الخدمة يتم حساب نفقتها في فاتورة البترول، لكن كانت المفاجأة أنها قانون للمحطات على الطرق السريعة والبعيدة، لمساعدة السائقين. إذن الأزمة تعود من جديد إلى فهمنا في مصر للقانون وتطبيقه وكيف نقتنع أنه بالأساس تم عمله لحمايتنا والحفاظ علينا وحقنا في الحياة.
الطريق الأحمر:
تناولنا العشاء في مطعم محطة الوقود والذي بدا أنه يعج بالوافدين عليه، ثم انطلقنا خارج المدينة، وبعد أقل من عشر دقائق، انحرفت بنا السيارة من الطريق الرئيسي إلى طريق ترابي ممهد في قلب الجبل، بدا لونه أحمر في ضوء السيارة الأمامي، وهو ما ساكتشفه في اليوم التالي، فالطريق كله خط أحمر من طفلة الجبل الذي شُق فيه الطرق وتم تمهيدها، على أن يتولى أصحاب المزارع صيانتها وشق الطرق الفرعية إلى داخل مزارعهم، وهو ما فسر لي وجود "الكاسحات" في المزارع فيما بعد، إذ تتعرض تلك الطرق لأمطار غزيرة يمكن أن تتسبب في انهيارات وتضعضعات تقطع الطريق، لذلك وجب وجود تلك "الكاسحات" لضمان تمهيد الطريق باستمرار أو إذا احتاج أصحاب المزارع إلى قطع طريق جديد وتمهيده.
مرت ساعة وقليل ونحن والسيارة في رحلة الصعود والهبوط في هذا الطريق الأحمر، سائرين بين آلاف الهكتارات من مزارع الأبقار والأغنام أحيانًا، وعابرين ما بين السياجات السلكية والحديدية التي تحدد ملكيات المزارع هناك، وتحدد مرعى الأبقار في المزرعة الواحدة، وطوال ساعة لم ينقطع المطر ليهطل وينهمر لدقائق ثم يعود وينتف لدقائق أخرى، حتى انتهينا إلى قمة جبلية، انحرفنا معها إلى اليسار إذ يرغمك الخط الأحمر على ذلك الانحراف، لنبدأ في النزول لما يربو عن ستين متر إلى وادٍ يكشف عن ثلاث بنايات متفرقة، اكتشف أولها حين تتوقف السيارة أمام بوابته الخلفية، واكتشف الآخرين إلى الجوار قليلاً، واحد منهما لعائلة أقدم الرعاة في المزرعة، والآخر مخزن للأعلاف الخاصة بالأبقار.
وصلنا إذن بعد ثمانين كم من محطة العشاء الأخيرة، حين كانت الساعة تقترب من العاشرة ليلاً بتوقيت غرب البرازيل، أو "الغابة الجنوبية الخفيفة" كما يطلق البعض هُنا.
ابتسم أنت في الجنة:
صحوت مبكرًا جدًا على صوت سيمفونية من تغريد متداخل لطيور مختلفة وببغاوات جميلة الصوت، كانت الساعة تقترب من السادسة، لكن الشمس أشرقت في المكان كله، وثمة مطل خفيف بالخارج وهواء منعش، وامتداد لا حصر له من اللون الأخضر الباهت والغامق يلون الدنيا كلها حين كنت أفتح باب البيت لأخرج وأرى المطر، وهي عادة لم أتخلص منها إلى اليوم منذ الصغر، حين كنتُ أقف على باب بيت العائلة في "منية المرشد" مستمتعًا بالأمطار حين تبدأ في الشتاء.
درت بنظري في المكان، كانت الأشجار تحيط بمساحة واسعة ومسيجة تمّ بناء البيت داخلها، وكثير من النباتات والورد والخضروات تم استنباتها داخل صوبة كبيرة مغطاة بشبكة بلاستيكية لحماية النباتات من الطيور والحيوانات البرية التي قد تتسلل إليها، والجبل ما بين الصعود والهبوط يرسم تلك الانحناءات بلون أخضر فاتحًا للروح براحًا غير اعتيادي على سكان "الزحمة" والمدن من أمثالي، وبعض صغار الأبقار في الجوار ترعى إلى جوار أمهاتها في أمان، وصهيل خيل يقترب بظهور قطيع من الخيول الجميلة التي يتم تربيتها بالمزرعة، وصغيرين من الخيول يركضان في مرح بهذا المطر الخفيف. أغمضت عيني وتركت روحي لهذا الجمال البديع الذي يتوسطه البيت في الوادي بين قمتين جبليتين تضمهما المزرعة، ومرت لحظات أظن روحي تخلت فيها عن جسدي وتركته وطارت في هذا البراح، ولم تعد إلا حين وضع صديقي يده على كتفي الأيسر قائلاً: "ابتسم يا ميخا، أنت في الجنة".
لن أتحدث الآن عن أيام المزرعة، وسأبدأ بها الحلقة القادمة، فربما تتخيلون كيف ستكون تلك الجنة.