القاهرة 24 اكتوبر 2017 الساعة 11:40 ص
بقلم: د-سعاد مسكين
يمثل القلق في نصوص "نوم الأيام"(1) للكاتبة علوية صبح الدافع الحقيقي للكتابة باعتباره مغامرة في طرح سؤال فهم الإنسان لذاته، والكشف عن
كينونته في ظل معاني الوجود المتعددة: الألم، الحب، الجنس، الحرب، الموت. وبهذا المعنى لا يغدو هناك فرق بين قلق الكتابة وكتابة القلق.
ومن ملامح قلق الكتابة عدم ركون المبدعة إلى نموذج أو أسلوب محدد في الكتابة، إذ تترك نصوصها السردية عبارة عن فضاء مفتوح قابل للتشكل والتحول المستمر، وهي بذلك تسعى إلى الخروج من نمطية الكتابة كي تبحث عن خصوصية تحدد هوية إبداعها ، بما هو تجدد لا يلغي بالضرورة الماضي ولكنه يعني الرقي به إلى المستقبل.
من هذا المنطلق، ستصاب ذات القارئ أيضا بقلق السؤال الذي لا يقبَل الوصفات الجاهزة في التحليل، ولا يستكين للاستقبال العفوي لعوالم نصوص "نوم الأيام" إذ سيعمل على البحث في الحركية الداخلية لهذه النصوص كي ينتج المعاني، ويعرف أسرار وهج الكتابة السردية لدى المبدعة على اعتبار أن "مشاركة القارئ متعة الخلق هي دلالة الخلق" بحد تعبير برغسون. وفي إطار القراءة التفاعلية بين نصوص المبدعة وذات القارئ سنحاول إبراز مظاهر قلق الكتابة /قلق النص في" يوم الأيام" بالوقوف عند ثلاث محطات رئيسية :اللاتجنيس، اللازمن، النسقية.
I. اللاتجنيس:
تكتفي المبدعة بتصنيف عملها "نوم الأيام" ضمن باب "نصوص"، ويدل على ذلك المناص الخارجي الذي يُقدم في الصيغة الآتية:" كتبت هذه النصوص بين صيف 1982 وشباط 1984". مما يعكس تمرد الكاتبة على التجنيس بتقديم العمل دون تحديد مسبق لهويته. ولا يعني هذا عدم وعيها بأهمية التجنيس وإنما يهدف اللاتجنيس إلى تحقيق مرامي، نجملها في:
1. النظر في توسيع حدود الجنس الأدبي، وتكييف محدداته مع كل كتابة جديدة تفرض أشكال جديدة في المقاربة والتحليل.
2. إعادة التفكير في الطريقة التي تنتج وفقها النصوص وتستقبل وتتداول بعد مرحلة إنتاجها وانتشارها داخل مجتمع من المجتمعات.
3. مراعاة إمكانية تجدد النص عبر سياقات مختلفة، سياقات لا تسلم بكون هذه النصوص "مجموعة قصصية" وإنما هي نصوص مفتوحة على اللامحدود، وتعمل على تكسير القوالب المرسخة في السرد القصصي.
بهذا الوعي النقدي تريدنا المبدعة علوية صبح أن نقرأ نصوصها بعيدا عن المقاييس النقدية المعيارية المكرسة، وتدفعنا إلى تجديد الأسئلة حول كيفية تشكل هذه النصوص والكشف عن طريقة بنائها، إننا أمام قلق هوية نصوص لا يختلف عن قلق هويات الشخصيات الحكائية التي ظلت تبحث عن مواطنها في خضم مخاوف الرصاص في مدينة تعج برائحة الموت. من هذا المنظور، نتساءل: كيف لنا أن نقرأ ونتلقى نصوص" نوم الأيام"؟
إذا كانت القصة القصيرة وحدة كلية تتأسس على وحدة الحدث، فنصوص "نوم الأيام" لا يبرز فيها الحدث جليا، كما تتلاشى فيها الحكاية، وتستبدل ذلك بتوليد الصور التي تشبه الأحلام. صور تقوم على استيهامات المعاني وتوليد اللحظات، تقول الساردة في نص اعتراف:" كن حذرا أيها السيد من أن تتعلق بلحظة زمن رقيقة ودافئة لأنها تنساب حتما من أصابعك، والإصبع ليس لك، الإصبع في الوقت. الإصبع على الوقت. شيء فظيع أن تعرفه وحدك" (2).
إن الشخصيات الحكائية تقطف اللحظات الكلية واللامتناهية التي تحيا بعيدا عن الزمن، لحظات قد تعيشها أو تبقى حبيسة تفكيرها، وفي هذه الحالة تكون اللحظة تخييلية هاربة وليست لحظة حقيقية، تستعين بها للتخلص من هاجس الخوف، والابتعاد عن أحاسيس الحزن والعزلة.
ولِعيش اللحظات أو تخيلها تشتغل الحواس باعتبارها أسطرلابًا يحدد وجهات الأشياء، ويعيد ترتيبها كي يزيل عنها العتمة، ويعيد إلى الذات كينونتها في مدينة النوم التي تعرف الحظر حيث النوم ممنوع، والرقص ممنوع، والإضاءة ممنوعة. وحينئذ تبقى الأصوات وحدها تتعالى معلنة نداء الحرية، وداعية إلى الحب، وكارهة لرائحة الموت، جاء على لسان حسن في نص زيارة:" إنها الحرب.
قال: ولكي نواجهها يجب أن نرتب شؤوننا، وذلك بمزيد من الاهتمام ببعضنا، وشيء من الحب والألفة نستطيع أن نصمد بوجه الحرب القاسية" (3).
ولكي تتصالح الذات مع دواخلها، ومع العالم تختار " النوم" مطية لكل مظاهر التحرر من رقص وصراخ ونسيان، تقول إحدى الشخصيات: "لم أسمع، أو كنت أحاول فورا أن أنسى ما أسمع. ولكثرة ما تمرنت على النسيان، بت لا أنسى الحرب كلها، بل لا أصدق، ولكما أردت أن أنسى شيئا أنام، والمدينة كذلك كلما تريد أن تنسى تنام" (4).
تنعكس مظاهر التحرر الذاتي على جسد النص إذ يبنى على التشظي والانشطار إلى مقاطع كبرى ومفاصل سردية ذات نفس طويل، إذ يشغل مثلا نص "مدد مدد أعوذ من الكهوف الحديثة" حيزا فضائيا طباعيا كبيرا، يبدأ من الصفحة ( 34 ) وينتهي في الصفحة (69)، وهو نص مجزأ إلى ثلاثة مفاصل كبرى، ويعكس هذا التشظي انشطار الذات نفسها إلى لحظتين متناقضتين: وقفتُ/ لم أتوقف، كان عابسا/ كان مبتسما، الشهيد السعيد/ الشهيد المظلوم، دون أن انتبه/ بانتباه شديد، لا أفعل أي شيء/أفعل كل شيء.. صيغ خطابية تزاوج بين الثبوت والنفي لأن الذات تريد أن تعيش اللايقين، وتطمح في أن تعيش خارج الذاكرة كي لا تظل رهينة الزمن الماضي، وإنما تعيش هواجس ذاك المستقبل الذي سيأتي أو لا يأتي.
كما ينعكس التحرر الذاتي أيضا على اختيار الكاتبة بأن تولف بين اللغة السردية الفاضحة والصادمة، واللغة الشعرية الغارقة في الترميز والتلغيز.
الشيء الذي جعل فضاء الكتابة لا يعتمد نظام الفقرات المنثورة وإنما نظام الأسطر في غالب النصوص السردية. وعمدت أيضا إلى أن تجاور بين الكتابة الخطية اللفظية والخطاب الأيقوني (الصورة) إذ نجد بين ثنايا بدايات النصوص رسومات بريشة الفنان رفيق شرف التي في غالبيتها عبارة عن أجسام مشوهة، وخيوط وخطوط متداخلة، وأشكال هندسية تجمع بين المربعات والدوائر والمثلثات والنقط السوداء. وفي هذا التعدد التشكيلي توجد ذات واحدة ووحيدة تعيش الوحدة والعزلة في خضم الضجيج والحركة والرصاص، وتحيا لحظات العتمة والقتامة "تضحك ضحكة سوداء، تُنزل دمعة سوداء، رائحة السواد تلف الجميع" (5).
هكذا استطاعت الكاتبة علوية صبح أن تجرب تقنيات جديدة في إبداعها السردي، ويحق لها أن تصفه بكونه مجرد "نصوص" وليس "قصصا قصيرة" لأنها نصوص تشكل بؤرة انبثاق الكتابة الروائية. الأمر الذي يبرر توجه الكاتبة إلى الرواية ووفائها لها لأنها بعد "نوم الأيام" أصدرت ثلاث روايات: مريم الحكايا، دنيا، اسمه الغرام.
II. اللازمن:
لا تستقيم أي كتابة سردية في نصوص "نوم الأيام" إلا بوجود زمن القصة الذي يحدد بحرب لبنان سنة 1982، وزمن الكتابة الذي يمتد بين سنة 1982 وسنة 1984، وزمن النص الذي يمثل الزمن التخييلي الذي تفرضه العوالم الحكائية التي سبق وأن أشرنا أنها لا تنبني على الحدث وإنما تتشكل من لحظات ومشاهد تتجاوز الزمن الفيزيقي -المحدد بالليل والنهار والصبح والمساء -وتخرق ترتيب الوقت، وتعبث بنظام الزمن بغاية البلوغ إلى الجوهر الثابت والخفي للأشياء. الشيء الذي يجعل النصوص السردية في "نوم الأيام" تحتفي بوهم الزمن أو اللازمن.
ويمكننا أن نجلي هذا الملمح النصي من خلال المظاهر الآتية:
1. الزمن يتجاوز القياسات لأن الذات هي من تخلق وضعياتها وعلاقاتها داخل فضاءات حركاتها وتحولاتها، وهي التي تنتج العلاقات الافتراضية مع الموجودات المادية والفيزيقية. ورد في نص سعادة سرية: "ينهض الصباح من أذنيك، تدخل في الصباح بتعب شديد، تخرج إلى الصباح بتعب شديد، تخرج من الصباح إلى صفحة عينيك، ولا تجد أثر عينيك السابقتين، تدخل في ذكريات عينيك. لم يكن الشارع كما هو أو كما تركته قدماك في المساء. يدخل المساء في الحرب. (6).
2. الشخصيات تعيش اللازمن لأن الماضي والحاضر والمستقبل أزمنة تحضر مجتمعة لا انفصال بينها ولا حدود. لا لشيء سوى لأن الكون منكمش في لحظة هي "الموت" حيث يصبح الإنسان يعبر عن العدم، ورد في نص اعتراف:" لا تجمع الزمن في لحظة واحدة(...) لا تذهب إلى الوقت لأن لا خيط في الشيء أجمل من اللاشيء" (7). وحيث تصبح الصيغة "اللائية" صيغة تعني ملاحقة المجهول، وانعزالية الذات، جاء في أحد مقاطع نص أشياء طبيعية: " لم يكن خيط لحظة يربطها بالزمن، ولا نقطة يوم تصلها ببحر الأيام. ولا حجر بيت يربطها بمسك البيوت المتكدسة في الطرقات والعيون، ولا حبيب يضع يده على جبينها ليمتص حرارته وجنونه الذي بدأ يدب بثقة كبيرة، ولا أحد يضع وردة في كأس ميلادها أو قبرها" (8).
3. تحتفي النصوص بحقيقة الوجود اللحظي وليس الوجود الزمني فكل ما يوجد في الذاكرة من الماضي لم يعد وجودا حقيقيا إنه وجود تخييلي وتصوري للحظات انقضت ولم يعد لها وجود، ولم تترك أثرا، تدعو الذات الساردة إلى ذلك في نص اعتراف بقولها: "تصرف بأعوامك الآتية كأعوامك الماضية فالسكون لحظة قطف، وتلك اللحظة لا تدعها تترك بصماتها في نفسك" (9).
4. ترفض الشخصيات الحكائية فكرة الخلود ووهم الزمن الأزلي إذ تحول مصائرها إلى حالة وجودية، وإلى حلقة من حلقات الوجود المادي السرمدي الذي يدرك اللحظة في تعددها ولا تناهيها حتى وإن تكررت في مشاهد متعددة فإنها لا تعني التطابق وإنما تعني وحدة المصير، جاء في نص "مدد مدد أعوذ من الكهوف الحديثة" مقطعا يدل على ذلك:" شعرت بمتعة ألم أن ألتقي بعصور مجتمعة في يوم واحد وأزمنة في شخص واحد وأجيال في أجساد واحدة شديدة التشابه في النوم والأكل والملذات، لا سيما ملذات القتل والجنس والموت" (10).
5. اللازمن في نصوص "نوم الأيام" اعتراف بأن الزمن معطى وجودي مرتبط بذواتنا فنحن من نحدد بداياته ونهاياته، ووحدها حواسنا من تتحمل عناء ترتيب فوضى اللحظات التي نعيشها، وكشف سر ماهية الأشياء التي تحيط بنا، ونتفاعل معها كي تجعل منا وحدات جزئية لا متناهية تعرف التحول والتغير والتكرار المستمر:" أي داخل داخلنا؟ أي أشياء مخربة في الداخل؟ أي أشياء مضحكة مضحكة في الداخل؟ حملت بعض داخلي من الذكريات على ظهري وتبعت زمنا آخر أجهله" (11).
III. نسقية الكتابة:
صحيح أن "نوم الأيام" هي مجموعة نصوص تجدد في طرق تشكل المتن السردي، وتغير أنساق تلقينا له، وذلك بإعادة نظرنا في اللغة الواصفة التي تُقاربه بعيدا عن تحديده الجنسي في كونه "قصة قصيرة".
لهذا نظرنا إليه بكونه نصالا غير فتعاملنا مع الكتابة من داخل الكتابة لا من خارجها، ونعترف ونحن نقوم بهذا العمل بأن المبدعة اشتغلت بصنعة وهي تؤسس العوالم الحكائية وتبدو هذه الصنعة في "كون السارد يشبه القارئ تماما: لا يعرف شيئا، ويتقدم في خجل وخوف، وبتردد، ويكتشف مع القارئ في نفس الوقت ما يقع، بل ما يمكن أن يقع، بل ما لا يقع، ولكن يُحس أو يُحلم به، أو يُتذكر أو يُتوهم أو يُتصور أو يُفترض أو يدندَن أو يُغنى، لأن ما يتحدث عنه الكاتب يتخلق في الداخل وليس في الخارج، داخل الكتابة لا قبلها، ويُبنى لا يعبر عنه" (12).
وفي بناء نصوص نوم الأيام راعت الكاتبة مبدأ النسقية إذ على الرغم من كون كل نص يتشكل من مفاصل وطبقات سردية مستقلة، وعلى الرغم أيضا من تعدد النصوص وتباينها فنيا وجماليا فتبقى تيمة" الموت" اللاحم بين أطراف هذه النصوص. الأمر الذي يبرر اختيار الكاتبة عنوانا خارج مجامع النصوص "نوم الأيام". أوليس النوم الأخ الشقيق للموت ؟ كما أن منظورها للموت يُعد منظورا خاصا إذ لا تعتبره فكرة وإنما صورة جسد ممزق الأوصال مقطوع الرأس محطم العظام، كما هو جسد النص تماما، وفي شتاته تتشكل الوحدة" لأن الواحد في الكل والكل في الكل" (13). ويتجلى معنى الموت في مظاهر جزئية تتمثل في السواد، والظلمة، والصفرة، والألم، والخوف، والجثث، والقتل، والمقابر، والنوم، والليل، والحرب، والضجيج، والصراخ، والرصاص، والمستعمر، والقذائف...ويضمر المعنى الكلي(الموت) معاني أخرى تشكل الوعي الممكن، الحلم بالحياة، الحلم بالوطن، لذلك تحضر في النصوص نفحات أمل، نذكر عبارات دالة عنها:
? تركته نائما وخرجت من بطنه إلى أيام مدينة النوم ولم تكن تعرف ماذا ينتظرها. (14)
? فتحت ستارة المنان من أجل حريتي حرية العصر(15).
? وإن مات الليل يوما أيها الرجل السيد صدق أنك موجود(16).
إن وعي الكاتبة بكونها تكتب "نصوصا" فقط له ما يبرره الآن على اعتبار أن أي نص هو في حد ذاته حادثة ثقافية نسقية، تنفتح على المرجعيات الثقافية والتاريخية والأيديولوجية حاولت علوية صبح أن تعرضها تخيليا بشكل يجمع بين السردي والشعري، بين التلفظي والأيقوني، بين الواقعي والغرائبي، بين الداخل والخارج، بين الكاتب والقارئ. توليف يخلق التوتر القَلِق الذي تولد عن رغبة المبدعة في خلق الخصوصية في الكتابة السردية تخييلا وبناء، وتولَّد أيضا عن إرباك القارئ في استهلاكه لهذه النصوص التي استطاعت الابتعاد عن قواعد الكتابة المألوفة في نهاية الثمانينيات، والتي كانت مهووسة بالواقعية النقدية. لتكون الكاتبة علوية صبح قد شيدت لحساسية جديدة في تلك المرحلة تقوم على الواقعية الرمزية التي تجعل العمل السردي يغط في الفنتازيا والغرائبية بغاية تقديم صور كرنفالية ومشوهة عن الواقع تخفيفا من حدة مآسية، واستنكارا للمصائر المجهولة التي يمكن ان تتخبط فيها الذات الإنسانية داخل كل مجتمع عرف أو يعرف الحرب والاستبداد.
هوامش
1) علوية صبح، نوم الأيام، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، لبنان، ط:1، 1986.
2) اعتراف، (ص:7).
3) زيارة، (ص:180).
4) رائحة المرأة، رائحة المدينة، (ص:156).
5) سعادة سرية، من قرص ميت وكوني بطلة، (ص:79).
6) سعادة سرية، من قرص ميت وكوني بطلة، (ص:79).
7) اعتراف، (ص:11).
8) أشياء طبيعية، (ص:139).
9) اعتراف، (ص:10).
10) مدد مدد، أعوذ من الكهوف الحديثة، (ص:35).
11) سعادة سرية، من قرص ميت وكوني بطلة، (ص:92).
12) أحمد بوزفور، القانون الأوفيدي، مجلة قاف صاد، كلية الآداب بنمسيك الدار البيضاء، العدد:2، 2005، (ص:66).
13) مدد مدد، أعوذ من الكهوف الحديثة، (ص:42).
14) زوربا يدخل جسده وينام، (ص:23).
15) مدد مدد، أعوذ من الكهوف الحديثة، (ص:47).
16) اعتراف، (ص:12).