القاهرة 24 اكتوبر 2017 الساعة 10:02 ص
بقلم: مختار سعد شحاته
نصيحة المهدي الأخيرة:
جلستُ والمهدي قرابة ساعة كاملة في حديقة البيت نُدخن، ونتحدث، الحقيقة كان يتحدث بينما أنا كنتُ منصتًا إليه باهتمام شديد، إذ رحتُ أتعامل مع المهدي باعتباره أحد هؤلاء الأبطال الحقيقين لروايتي الجديدة التي أجهز مسوداتها حول عائلة من الأمازيغ، تابع الرجل حديثه بلا توقف، كأنه نهِمٌ للكلام بالعربية، أو هكذا كنتُ أظن، حتى انتهى إلى جملة –قلت أنها كانت تتكرر في الأيام الأخيرة قبل السفر- "استمتع بالحياة قدر استطاعتك، ولا تندم"، قالها
ثٌم أدار وجهه ينظر نحو وردة بيضاء كانت تنبت في الحديقة قريبًا من مجلسنا، وبدا أنه شاردًا قليلاً.
إذن فإن "الاستمتاع" بالحياة صار من المفردات التي تحاصرني في أيامي الأخيرة، وتُلح عليا إلحاحًا، لذلك رحت أنظر إليه وأنا أحاول التأمل في سؤال حول مفهومنا للانبساط، وكيف يُعد هذا المصطلح نسبيًّا إلى حدّ بعيد، مثل كل الأشياء في حياتنا، فالمهدي من يراه لا يُدرك حجم المأساة التي يعيشها الرجل بعد اغتراب دام أربعين سنة، ومن يراه الآن يُدخن سيجارته العُشبية العجيبة لظنه شخصًا مغمورًا بالسعادة حتى النخاع.
لعل أجمل ما كان في المهدي هو ذلك الإصرار على الابتسام، الذي لاحظت أنه لا يتوقف عنه إلى الحد الذي تظن أن الرجل بالفعل ينام مبتسمًا، ولا أعرف إن كان ذلك إصرارًا من المهدي على هزيمة الألم أو هو استسلام منه لكل الحياة بكل ما فيها من قساوة ومفاجآت، لكنها كانت درسي الأخير في هذا اللقاء مع "محمد المهدي" الذي أصر على أنه "المهدي" الذي جاء بعدما تعداه الوقت.
نسخة من المفاتيح:
كنتُ أغلق بوابة الفيلا خلفي، حين عبر أمامي عامل النظافة قائلاً: "bom dia"، ابتسمت: "صباح الخير"، كانت في يدي سيجارة تحرجت أن ألقى بها في الأرض احترامًا للرجل، وتعجبت كيف لا أخجل من نفسي وأخجل من الرجل، ففي حالات أخرى كنتُ سألقي بالسيجارة إلى الأرض ولا أبالي بذلك، لكن ما الذي استوقفني في عامل النظافة هذا الذي أراه في أول صباح لي في ساو باولو؟! في ظني أن خجلي كان نابعًا من كون هذا العامل لم يتعدَ سنه الثلاثين بعد، وأنه يتعامل بحماس مع الأمر ولا يرى أي إهانة في ذلك، وفي لحظة قررتُ أن أقارن بين متوسط أعمار عمال النظافة في مصر ومتوسط أعمار عمال النظافة التي سأراها في ساو باولو، وبالفعل بدأت الإحصاء معتمدًا على ذاكرتي في شوارع مصر وبين من ألقاهم هنا في شوارع ساو باولو، وبعد ساعات النهار الأولى في شوارع ساو باولو، اكتشفت أن متوسط أعمار عُمال النظافة شابُ جدًا مقارنة بأعمار عمال النظافة في مصر. لماذا؟ الأمر بسيط للغاية حين نفهم أن العالم كله له ثقافة مختلفة عن ثقافة المصري حول العمل وطبيعته في عصرنا هذا.
تتزين شوارع ساو باولو بإشارات المرور الكثيرة التي تكاد تغطي كل شارع من شوارع المدينة مترامية الأطراف فوق الهضاب والوديان التي تكون خريطة المدينة، وفي وسط المدين كما أشرنا سابقًا ذلك القلب الأسمنتي لكثير من مُدن العصر الحديث حيث العمائر والبنايات الشاهقة، وتركز رأس المال وإدارته في مركز المدينة، لكن العجيب في كل شوارع ساو باولو أنني لم أسمع ضجيجًا يليق بمدينة تُعتبر العاصمة الاقتصادية للبرازيل كلها، فلم أسمع صوت بوق واحد لسيارة أو صوت فرامل زائد، الحياة على الرغم من حجم المدينة المهول إلا أنها سلسة وتسير في هدوء بالغ، وهو ما لفت انتباهي ورحتُ أعرضه على كل النصائح التي حملني بها أصدقاء ومعارف، وبدا لي أخيرًا الحقيقة المرة أن ثقافتهم تلك كلها ثقافة أفلام، وفجأة وجدني صديقي أجلس على الرصيف شديد النظافة غارقًا في الضحك، فلم يدرِ ما يفعل، والمارة ينظرون ويبتسمون لي في فرح، كأن العالم كله "مبسوط" لأجل انبساطي وضحكي، ولا يعنيهم السبب، وبينما همَّ صديقي بسؤالي، كنتُ أقول: "تخيل يا دكتور ولاد اللذين مفهمش أصلا حد سافر بره مدينته، ههههههههه"، رفع حاجبيه وابتسم مجاملة لي دون ان يفهم قصدي، وأنا غارق في استعادة نصائحهم حول عشوائية البرازيل وحول ثقافة الـ"كاو بوي" التي اختلطت في أذهانهم بين الأمريكي والمكسيكي والبرازيلي، أدركت أن السينما واحدة من أكبر القوى الناعمة والتي يمكن من خلالها أن تخلق أو تقتل التعاطف مع القضايا المختلفة، وهنا أتذكر ما فعلته السينما الأمريكية حين صورت لنا أن قتل الهندي الأحمر الذي يُدافع عن أرضه هو حرب للإنسانية يخوضها الرجل الأبيض ضد هذا الهندي الهمجي، والحقيقة أن الرجل يموت مدافعًا عن أرضه "شهيدًا"، لكن السينما قلبت الحقائق رأسًا على عقب.
وصلنا إلى صانع نسخ المفاتيح، وهُنا يجب تسجيل ملاحظتين الأولى عن المحل الذي تزين بابه بلوحات مرسومة باليد وبالقم الرصاص على أوراق اسكتش للرسم، زين بها الرجل باب المحل، فبدا أكثر جمالاً ودهشة، إلى جانب الترتيب المذهل للأدوات داخل المحل والميكنة المتطورة للغاية لرسم وصنع نسخ المفاتيح على اختلافها، وأما الملاحظة الثالثة أنني انتبهت إلى الخوذة الواقية والنظارة التي ارتداهما الرجل، وتفهمت كيف يمكن للدولة أن تصل بثقافة شعبها إلى كون كل صاحب مهنة أو مهارة ليس موضع استغلال أو نفور إنما هو ثمرة من ثمار كنزها القومي وأن القوانين التي تضعها الدولة بأساسها ليست إلا للحفاظ على هذه الموهبة ورعايتها وضمان الاستفادة العامة منها، وتحسرت في نفسي على حال العامل المصري –حتى هؤلاء أصحاب المهن الخاصة- وما يعانيه من إهمال في هذا الصدد، وكأن الوقت لم يحن بعد أن نتفهم في مصر أن السكان هم ثروة حقيقة يجب الانتباه إليها والحفاظ والاحتفاء بها بالشكل المنتج اللائق.
في شوارع ساو باولو:
قلت بأن المدينة تتشكل كلها من مجموعة كبيرة من الهضاب والأودية التي طوعتها البرازيل بالطوع مرة وبالكراهية مرة لتتشكل منها شوارع وأحياء مدينة ساو باولو الكبيرة، وبشيء من الهدوء والتفكير بدأت أتفهم السر في كون مدينة كبيرة وعظيمة مثلها ولا تزال أسلاك الكهرباء وأعمدة حاملة للسلك تملأ شوارع المدينة، وفي البداية كان ذلك مثار عجب ودهشة وظننته تناقضًا، فالمدينة حديثة جدًا، لكن أسلاك الكهرباء والتليفون معلقة في الشوارع كلها بشكل عجيب، ولكن بعد إدراكي لطبيعة المدينة، وهي طبيعة عامة في كل البرازيل تقريبًا- تكتشف أن أفضل الأمور هو ان تظل هكذا على حالها.
وللحقيقة حاولت السؤال عن ذلك باعتباره تناقضًا بين عصرية المدينة وحداثتها وما رأيته متأخرًا في موضوع الأسلاك المُعلقة ذلك، لكن صديقي هنا ابتسم وقال ببساطة أنهت التساؤل: "والله ما أعرفشي فعلا"، ألم أقل لكم أن الناس هنا بسيطة ومباشرة إلى حدّ رائع، فالرجل بلا محاولات للفلسفة أو الإحساس بأي انتقاص له ولبلده أجاب أنه لا يعرف السبب في ذلك، ولم يمضِ في خطبة عصماء عن حُسن الآداء الحكومي أو نقده، إنما اكتفى بخير الكلام ما قلّ ودلّ دون أن يتورط في مزايدات حول بلده الجديد التي منحته جنسيتها وقدمت له الفرصة التي ضيقها عليه السفه الإنساني والسياسي في بلده الإفريقي.
لم أسمع كما قلت في شوارع ساو باولو صوت بوق سيارة واحد، ولا صوت راديو يخرج من أي محل لبيع الطعام أو الملابس أو غيرهما كما جرت العادة في ثقافتنا المصرية، وبدا لي الأمر غريبًا بعض الشيء، فلما سألت عن سرّ الهدوء العجيب، عرفتُ أن القانون البرازيلي يُلزم السائق باستخدام البوق في الضرورة القصوى، وأنه بعد الساعة السابعة مساء حتى السادسة صباحًا فإنه يُجرم من يستخدم بوق السيارة تحت أي ظرف، وذلك احترامًا لحقوق الآخرين في ليل هادئ ومريح. ساعتها رحت أتذكر البيت الذي سكنته في الإسكندرية وكيف كان الميدان تحت البيت جحيمًا من الأصوات.
ورحت أقول في نفسي أن سكان المدن التي تشبه القاهرة والإسكندرية بكل هذه الضوضاء في شوارعها لا بُدَّ أنهم طوروا في أجهزتهم العصبية كي يتحملوا كل هذا الضغط الهائل من تلك الأصوات، ورحت أحمد الله على نعمة الهدوء التي معها لم أنتبه لصوت الآلة في يد صانع المفاتيح، وودعناه في هدوء وانطلقنا عائدين نحو البيت، ومسرعين بشكل ما، إذ تأخرنا عن موعد التحرك المفترض لرحلتنا إلى المزرعة جهة الغرب، والتي تبعد ما يقرب من 800 كم، وهو ما أرجئه إلى الحلقة القادمة.