القاهرة 10 اكتوبر 2017 الساعة 11:21 ص
بقلم: د. أحمد عمر
أظن أن أكبر الجرائم التي ارتكبت في حق الثقافة والهوية والدولة المصرية، والتي نجني ثمارها اليوم، تخلفًا فكريًا واجتماعيًا، وتهديدًا لأمن واستقرار الوطن، هو السماح باختراق جماعة الإخوان المسلمين وكافة التيارات والجماعات الدينية السلفية للمجتمع المصري في الأربعة عقود الأخيرة، وهو
الاختراق المنظم الذي تم إما بتواطىء من نظام وأجهزة الرئيس السادات والرئيس مبارك أو عن غفلة تامة منهما.
الاهتمام بالبعد الخارجي للدين:
الغريب أن تلك الجماعات قد اطلقت على هذا الاختراق في أدبياتها اسم الصحوة الإسلامية، وكأن المسلمين في مصر كانوا نيامًا ومن أهل الكهف، حتى جاء الإسلاميون وأحدثوا هذا التغيير الفكري والمجتمعي، الذي أدى إلى إفراط قطاع عريض من المصريين في الاهتمام بالبعد الشكلي الخارجي للدين، مع عدم الالتفات إلى جوهره الإنسانية والمجتمعي، وغايته الحضارية.
والمفارقة المحزنة، أن كل ما دعت إليه تيارات وحركات الصحوة الإسلامية يناقض مفهوم الصحوة أو اليقظة، ويؤدي إلى غفلة حضارية وتكريس للتخلف، بمحاولة إيقاف عجلة الزمان ودعوة المسلمين للهروب من عصرهم، والعودة للوراء ليعيشوا عصر السلف، ويعيدوا انتاج فكر وسلوك السلف، تحت قاعدة: " إن الأمر هكذا لأنه هكذا قيل " . أو " لا تفكر فالسلف الصالح قد فكروا لك ".
الصحوة الإسلامية في ميزان العقل:
وقد تعرض الراحل الدكتور فؤاد زكريا في كتابه القيم " الصحوة الإسلامية في ميزان العقل "، الصادر عام 1989، لتلك المفارقة اللغوية والفكرية الكامنة في استخدام مصطلح الصحوة الإسلامية، لوصف ظاهرة انتشار الجماعات الدينية في مصر والبلاد العربية، وازدياد عدد المنضمين إليها، دون أن يصاحب ذلك ارتفاع في مستوى تفكير هذه الجماعات ونوعية اهتمامها، وطريقة فهمها للإسلام وتطبيقها له في سياق عالم معاصر سريع التغيير.
وتعجب الراحل الدكتور فؤاد زكريا من أن ترفع تلك الحركات الإسلامية المعاصرة لواء ومصطلح الصحوة، مع أن دعوتها وأفكارها في حقيقتها رجعية شديدة التخلف، وتقوم على أحياء أفكار وأساليب وسلوكيات تعود إلى ما يزيد عن ألف سنة ماضية.
كما تعجب أيضًا من اهتمام تلك الحركات بالجوانب الشكلية والشعائرية للدين، والتوقف عند بعض الأوامر والنواهي التي لا تمس الحياة العامة في المجتمع. وقال: إن الشعائر الدينية التي تقصد لذاتها، بوصفها أركان الدين، لابد أن تترجم إلى أفعال تنعكس إيجابيًا على حياة الناس، وإلا فقدت فعاليتها ولم تعد مقبولة حتى من وجهة نظر الدين نفسه والحس الجمعي للمجتمع؛ فكم من أحاديث نبوية تؤكد على أهمية المعاملة بوصفها المظهر الأساسي للدين، وتندد بأولئك الذين يقومون ويقعدون دون أن ينفعوا الناس بشيء. وكم من أمثلة شعبية مصرية، حافلة بالسخرية من أولئك الذين يُؤدون فروض الدين، ويظهرون التدين، ولكنهم لا يُحسنون معاملة الناس، ويتسم سلوكهم بازدواجية مقيتة، حيث يقولون دائمًا ويأمرون الناس بما لا يفعلون.
إفراز مرضي لمجتمع مأزوم:
وقد انتهى الدكتور فؤاد زكريا من هذا التحليل إلى أن الصحوة التي يروجون لها، قد جاءت نتيجة الإحباط وخيبة الأمل في ظل فقدان العدالة الاجتماعية، وضياع الرشد الاقتصادي، وضلال التوجه السياسي، وانهيار القيم الأخلاقية والفكرية. كما أنها جاءت كمظهر من مظاهر السخط، كثورة سلبية على الأوضاع القائمة، وعجز المسلمين المعاصرين عن مواجهة الواقع، والاهتداء إلى طريق جديد للإصلاح والنهضة والتقدم.
ولهذا وجدوا أن مخرجهم الوحيد من ذلك الإحساس بالعجز، هو الهروب من التحدي الفكري والعلمي والحضاري، الذي يفرضه العصر الذي يعيشون فيه، والارتماء في أحضان القديم المُجرب، وهو التدين الشكلي وتراث الأسلاف.
وهذا يعني إن الانتشار الكمي الهائل للاتجاهات الدينية والدعوات الإسلامية السلفية في العقود الأربعة الأخيرة في المجتمع المصري، هو إفراز مرضي لمجتمع مأزوم، وهو نُكُوص عقلي وفكري، وغفلة حضارية، وليس صحوة إسلامية؛ لأن تلك الحركات قد حولت الدين من طاقة بناء إلى ملجأ عزاء، وفتحت الباب لبعض الشباب للكفر بعصرهم وأوطانهم ومجتمعاتهم، والتحول فيما بعد إلى عناصر مدمرة لاستقرار وأمن الوطن، نتيجة ضعف قيم الولاء والانتماء لديهم، ومعادتهم للدولة المصرية مفهومًا وتطبيقًا وواقعًا سياسيًا.
ضرورة استكمال الدولة لمشروع حداثتها المُعطل:
في النهاية، يمكن القول إن مشكلة الدولة المصرية التي تأسست بشرعية ثورة يوليو، في أعقاب حركة التحرر الوطني في خمسينيات القرن الماض، أنها توقفت منذ أربعة عقود عن استكمال مشروع حداثتها الذي كان له جذورًا راسخة منذ مطلع القرن العشرين في الحقبة الليبرالية. وتوقفت كذلك عن جعل التعليم و الفكر والفن والثقافة حجر الزاوية في بناء شخصية ووعي الإنسان المصري، فيسرت الطريق لاختراق المجتمع المصري من جياع العقول من المتأسلمين والأصوليين، الذين أصبحوا مع الوقت قوة ضغط اجتماعي وسياسي عليها؛ ولهذا فقد أن الأوان لكي تجعل الدولة المصرية اليوم، من استكمال مشروع حداثتها المعطل أولوية قصوى، في إطار مشروع تنمية شامل للارتقاء بالمواطن والمجتمع والدولة، والقضاء على التحديات والمخاطر والتهديدات التي تستهدفهم.