القاهرة 10 اكتوبر 2017 الساعة 10:43 ص
بقلم: مختار سعد شحاته
كُنا في الحلقة السابقة توقفنا عند الخروج من مطار ساو باولو الدولي، وأخذنا الطريق في اتجاه المدينة التي أخذت ترحب ب
نا مع دخول الليل إذ كانت
الشمس آذنت بالمغيب عن المدينة، وبدأت أنوارها الظهور والاقتراب منَّا حين كُنا نتجه بالسرعة المقررة في ذلك الوقت من ا
ليوم على ذاك الطريق، وهُنا لا مانع أن تستدعيَّ عزيزي القاريء ما استدعيته أنا على طرقنا المصرية، وهو ما لفت انتباهي طوال اليوم التالي كله
والذي قضيناه في سفر طويل من مدينة ساو باولو حتى خرجنا من حدود ولاية ساو باولو نحو الغرب إلى حيث مزرعة قريبة من مدينة (paranaiba) منطقة (ماتو غروسو دو سول) أو ما تشتهر باسم (الغابة الكثيفة الجنوبية)، إذ يتحتم على كل سائقي المركبات في البرازيل بطولها وعرضها الالتزام الصارم بمؤشرات محددات السرعة
التي تظهر على طول الطريق، خاصة أن الطرق مراقبة بالكاميرات الثابتة والمتحركة طوال الوقت، بما لا يمنح الفرصة للخطأ وكسر القانون إلا في أضيق الحالات وأندرها في المناطق البعيدة المنعزلة، لكن طول البقاء في المدن الداخلية البرازيلية لا شكَّ أنه سيكون قد رسخ في قادة المركبات ذلك الشعور بالمسئوليةوالالتزام بقانون المرور الذي يتم اختبار السائقين فيه قبل حصولهم على ترخيص قيادة السيارة، وهو ما يمثل العقبة الكبرى في البرازيل، إذ تتشدد القوانين في إلغاء ترخيص القيادة إذا وصل السائق إلى عدد من المخالفات قيل لي أنها ثلاث مخالفات فقط، ويتم حرمانه من القيادة، على أن يتم إعادة تأهيله بعد فترة زمنية لاستخراج الترخيص من جديد، ولأنها أمور معقدة وبيروقراطية جدًا، فالكل يخشى الوقوع فيها قدر استطاعته. لاحقًا عرفت أم ولاية ساو باولو هي واحدة من أكبر الولايات في البرازيل التي استثمرت حكومتها المحلية في بناء الطرق، وهو ما اكتشفته في الرحلة في اليوم التالي نحو المزرعة، وسأحكي عنه في أوانه.
سألت في الطريق صديقي –وهو من أصول أفريقية- عن ذلك الذي اعتبرته من وجهة ثقافة مواطن مصري يرى حال المرور في بلده ويظنه طبيعيًا في كل بلاد العالم، فتجيبني زوجته البرازيلية، أن تلك العقوبة هي التي تضمن أن تقلل من نسب الحوادث، ثم حكت عن ارتفاع نسبة حوادث الطرق الناتجة عن السرعة الزائدة، وأخبرتني أن إحصائية مُعلنة في العام 2015 تؤكد أن البرازيل يُقتل فيها يوميًا ما يقترب من (129 فردًا يوميًا) وذلك حسب المعلن في مؤتمر عالمي للسلامة المرورية، مؤكدة لي أن البرازيل في الفترة السابقة ما بين العامين (2012/2013) استطاعت بفضل تشديد قوانين القيادة ان تخفض نسبة ضحايا الحوادث على الطرقات إلى 6% وهي نسبة عالية، مقارنة مع الأعداد السابقة في الأعوام السابقة.
سؤال في ذهني:
على الفور قفز إلى ذهني سؤال ساذج عن تفعيل قوانين المرور في مصر، وللأمانة والإنصاف وكل ما يتعلق بالمرور منذ تعلم القيادة واستخراج رخصة القيادة، ثم قوانين السير، فللحقيقة أحمل رخصة قيادة مصرية وأخرى دولية، وأعترف بأنه لولا "الواسطة" –ضابط بالمرور- لما كنتُ أنهيت رخصة قيادتي قبل شهور، وكذلك الرخصة الدولية التي لا يتكلف في المبنى خاطر شخص واحد يقول أن تلك الرخصة للقيادة أمانة يجب أن نفهم أننا ربما حين منحناها وضعنا قنبلة موقوتة على الطرقات في كل العالم، ففي الرخصة الأولى تقدمت للاختبار، ولا أسمع سوى جملة واحدة "أنت اللي تبع.... بيه؟"، كنت أكتفى بهز رأسي فقط، للحقيقة فإن اسم.... بيه حفظني من كثير من الإجراءات التي لا معنى لها على الإطلاق مقارنة بالمعنى الأهم وهو قيادة السيارة وهو ما فعلته بحمد الله، وفي رخصة القيادة الدولية لم يتم اختباري في أي شيء، كان الاختبار الوحيد كيف أجد "فكة" للموظف الذي جاء مكتبه فوجدني في انتظاره "ع الصبح"، والحمد لله تم حل المشكلة. (لا تفهمني خطأ في تلك النقطة عزيزي القاريء).
قلب ساو باولو:
وصلنا إلى فيلا في وسط ساوباولو في منطقة راقية جدًا حيث يسكن صديقي وزوجته، ويجعلان من بيتهما هذا مقرًا للأصدقاء المقربين، وعرفت أنني لستُ الأول الذي يُستضاف هذه الأيام في المنزل، فهناك طالبة برازيلية تدرس في ساو باولو، وكذلك هناك "المهدي المنتظر"، هكذا نطقها صديقي الذي يتحدث العربية بطلاقة، فهو متخرج في جامعة الأزهر، وحاصل على ماجستير تاريخ في جامعة القاهرة. إذن أنا على موعد مع المهدي المنتظر يا دكتور؟ كنت أبتسم وأسأل طوال الطريق عن ذلك "المهدي المنتظر"، وأخبراني أنه يتعين عليّ الانتظار حتى أكتشفه بنفسي.
تتمركز في وسط ساو باولو العمائر الخرسانية العالية وتمثل قلب ساو باولو الخرساني كمثل كل المدن الكبيرة عالميًا، يزيد الأمر هُنا أن المدينة هي العاصمة الاقتصادية للبرازيل، إذ تسهل حركة الطيران وحركة الملاحة في ميناء ساو باولو الحياة الاقتصادية وتُنعشها، بل وتجذب كثيرًا من الاستثمارات في مجال صناعة الكيماويات وصناعة الأدوية، إلى جانب الزراعة وتربية الأبقار في الولاية بشكل عام بعيدًا عن عاصمة الإقليم مدينة ساو باولو نفسها.
يتشكل قلب ساو باولو من تلك البنايات الضخمة التي تمثل كبرى الشركات المستثمرة في إقليم ساو باولو، ويكاد هذا المركز يتشابه إلا في فروق فارقة تجعل من ساو باولو فريدة في كل شيء، فالمدينة كانت قديمًا ومنذ بدايتها عاصمة للدولة اقتصاديًا وسياسيّا، ثم ظلت عاصمة البلاد الاقتصادية رغم انتقال الإدارة السياسية منها، لكنها حافظت على رونقها كمدينة كبرى عرفت كيف تستغل الطبيعة الجبلية فمهدت الهضاب في كل مساحة المدينة التي تتمدد كل يوم بشكل عرضي لا رأسي، لتجعل هذه المنخفضات والمرتفعات ورحلة المرور داخل شوارعها –لمن مثلي- متعة حقيقية، ففي لحظة تجد نفسك أعلى قمة تلّ أو جبل صغير تمّ تطويعه ليصبح ضمن مساحة المدينة، ثم تعود من جديد إلى وادٍ شديد الانحراف، دون أن تغيب الأشجار أو المساحات الخضراء عن عينيك، ويتزامن ذلك مع غزارة عدد إشارات المرور التي تزيد حركة المدينة سهولة وانسيابية؛ فتصبح متعة التجول فيها لا توصف ليلاً أو نهارًا كما اتضح لي في الصباح التالي.
حق العبور المقدس:
بالعودة إلى القيادة داخل البرازيل، يجب أن أسجل تلك الجملة التي قالها صديقي حين توقف فجأة ليسمح بالمرور لمترجل بالعبور، ثم اعتذر وقال بأن ما فعله ليس قانونًا لكنه عُرف هُنا أن يتم احترام السائرين على الأرض، وأن الشارع حقٌ لهم قبل السائقين والسيارات، "هو حق العبور المقدس يا صديقي"، اندهشت من جمال الجملة، وفي ذهني صور عبور الشوارع في القاهرة أو كورنيش الإسكندرية، والكمّ الهائل الذي يمكن أن تسمعه من الشتائم والسُباب من المترجلين للعبور أو قادة المركبات بسبب الخلاف على المرور.
يمر البرازيل الآن بأزمة اقتصادية يتعافى منها ببطء، ولكن لماذا لم تتأثر أخلاق قادة المركبات بالشماعة المصرية العظيمة "الظروف"، ولماذا يبتسم صديقي –وغيره لاحظتهم على الطريق يفعلون المثل- لمن يترجلون أو يقودون عجلاتهم الهوائية، وهُنا يجيء سؤال آخر إلى ذهني، لماذا لم تؤثر الظروف على أخلاقيات الناس هُنا؟ بينما نحن نفعل كل ما نفعل من أخطاء بلا أي مبرر غير "الظروف"، و"ظروف البلد ضاغطة الناس"، لماذا لا ينضغط الناس أخلاقيَّا سوى في بلادنا؟!
كان الجميع يخبرني بأن البرازيل بلد مملوءة بالبيرة والخمور، وأن الشعب البرازيلي محب للكحوليات ولا يتوقف عن تناولها طوال اليوم، فلماذا لم تُفسد أخلاقهم "الخمرة"؟! (هههههه)، ولماذا لم أرَّ شخصًا واحدًا –حتى أسبوع من وصولي- يسير في الشارع حاملاً "كانز بيرة" على عكس المدن الأوربية كبرلين وباريس وأوسلو وهلسنكي مثلاً؟ وكيف يصبح السير في مدينة مثل ساو باولو في قلب مركزها آمنًا إلى الدرجة التي تكذب كل نصائح الأصدقاء من مصر بالاحتراز من الليل؟! للإنصاف سألت صديقي عن ذلك الأمان؟، فأخبرني أن بعض المناطق في أطراف المدينة وضواحيها البعيدة التي تعتبرها الحكومة غير شرعية "عشوائيات"، ربما يتعرض المرء لبعض المضايقات، ثم قال: "لكن تلك صفة المدن الكبرى كلها في العالم يا صديقي، ألا يوجد مثل ذلك في القاهرة والإسكندرية؟"، كنت أبتسم له وأهز رأسي التي ملأها مشهد التاكسي الذي ركبته من بيتنا في البحر الأعظم نحو معرض القاهرة الدولي الكتاب منذ ثلاثة أعوام، وكيف في "عز الضهر"، حاول بعضهم "تثبيت" التاكسي، لولا تدخل العناية الإلهية، ثم ذكاء السائق الذي أيقن أن كسر الزجاج الجانبي خيرٌ من سرقة التاكسي بما وبمن فيه.
توقفت السيارة أمام الفيلا الخاصة بهما، ثمّ قال صديقي: "استعد يا مختار لمقابلة المهدي المنتظر الآن"، ثمّ راح يكركر ضاحكًا، فرحتُ أجهز نفسي وجسدي المرهق من طول السفر للقاء ذلك "المهدي"، وهذا ما سأتابعه معك عزيزي القاريء في الحلقة القادمة.