القاهرة 12 سبتمبر 2017 الساعة 12:09 م
لم تكن الفلسفة طوال تاريخها عبارة عن تخصص نظري مجرد، بل بدأت باعتبارها طريقة في الحياة، وفي توجيه السلوك، وفي ممارسة فضيلة أخلاقية من نوع معين، وهي فضيلة أخلاقية عقلية في الأساس. كانت الفلسفة منذ نشأتها في بلاد اليونان تجمع بين النظر والعمل، بين التفكير النظري المجرد والتأمل العقلي من جهة، والسلوك العملي والأخلاقي من جهة أخرى. فهكذا كانت نشأة الفلسفة على يد فيثاغورس (570 – 495 ق.م.) الذي يعد أول الفلاسفة أصحاب الرؤى الكونية الشاملة والتي تضم الإنسان كذلك. واستمر ذلك التقليد الفلسفي من بعده، وبرز على يد الكثير من الفلاسفة اليونان، أمثال هيراقليطس (535 – 475 ق.م) وبارمنيدس (ولد 501 ق.م.)، واتضح ذلك البعد العملي الأخلاقي من الفلسفة على يد سقراط، واستمر قوياً في المدارس الرواقية والأبيقورية والأفلاطونية المحدثة. ولم تكف الفلسفة عن أن تكون طريقة في الحياة إلا بعد ظهور المسيحية، ثم الإسلام، إذ انكمشت الفلسفة بعدهما إلى مجرد تأمل نظري في الكون، مبتعدة عن أي جانب عملي أخلاقي، حتى مطلع العصر الحديث، عندما عادت الفلسفة مرة أخرى إلى أن تكون لها دلالات عملية وأخلاقية قوية واجتماعية.
وعبر تاريخ الفلسفة الطويل، انقسم التوجه العملي الأخلاقي للفلاسفة إلى قسمين أساسيين، القسم الأول هو التفلسف باعتباره تطهيراً للذات الفردية للفيلسوف، والقسم الثاني هو التفلسف باعتباره تحريراً لوعي المجتمع الذي يعيش فيه الفيلسوف، بمساعدة هذا الفيلسوف نفسه.
ساد القسم الأول وهو تطهير ذات الفيلسوف في مرحلة الفلسفة اليونانية، وكانت له آثاره التالية في بعض الفلسفات العربية الإسلامية والمسيحية، وظهر القسم الثاني، وهو تحرير الوعي الاجتماعي، بداية بالعصر الحديث، واتضح لدى الكثير من الفلاسفة المحدثين، أمثال سبينوزا وفلاسفة عصر التنوير وماركس وفلاسفة اليسار التالين له.
إن التفلسف باعتباره تطهيراً لذات الفيلسوف هو النظر إلى غاية الفلسفة وإلى فعل التفلسف نفسه على أنه يتجه نحو خلاص النفس من كل الشرور المحيطة بها، والتي تعيقها عن الحياة الفاضلة، مثل المتع المادية والمغريات الحسية والتطلعات الاجتماعية للجاه والسلطة. كان الهدف الأساسي للفلاسفة القدماء هو الاستغناء عن كل هذه المغريات وممارسة حياة فاضلة. وقد بلغ الأمر ببعض الفلاسفة إلى أن زهدوا في العالم كله وتقشفوا تماماً، اعتقاداً منهم بأن هذا هو طريق الفضيلة، أو أنه هو الفضيلة ذاتها. وهكذا نشأ نوع من التصوف الفلسفي سابق على ظهور الأديان الكبرى، وهو نوع يلتقي مع الأديان الشرقية التي كان لها تأثيرها على الفلاسفة اليونان.
أما التفلسف باعتباره تحريراً للوعي الاجتماعي فلم يظهر إلا في العصر الحديث. والسبب في ذلك هو تطور حدث لوعي الفلاسفة أنفسهم. فبعد أن كان الفلاسفة ينظرون إلى الشرور التي تحيط بهم على أنها نتيجة خطأ شخصي من جانب الناس، يوقعهم في الخطيئة وفي الانغماس في المتع الحسية والمغريات المادية، اكتشف الفكر الحديث أن مصدر شقاء الإنسان ليس الإنسان الفرد نفسه، بل هو ما يحيط به من نظام اجتماعي ظالم وسلطة سياسية قهرية وقمعية، وأن الهدف ليس تطهيراً لذات تقع في الخطيئة أو ترتكب شروراً، بل الهدف هو تحرير الإنسان من سلطة، سياسية واجتماعية ودينية، تقهره وتكبل قواه وتستعبده. وبعد أن كان هدف الفيلسوف القديم إنقاذ نفسه وحسب، أو إنقاذ نظرائه من الفلاسفة مما يعتقد أنه شرور، صار هدف الفيلسوف في العصر الحديث هو تحرير المجتمع من سلطة قمعية. وتحول الاهتمام بذلك من الذات إلى المجتمع، ومن الأخلاق العقلية النخبوية للفلاسفة، إلى تحرير الوعي الاجتماعي من كل أنساق الهيمنة التي تكبله.
يعد سبينوزا (1632 – 1677) من أوائل الفلاسفة الذين عملوا على تحرير الوعي الاجتماعي، وذلك من قوتين تهيمنان على الناس لقرون عديدة: السلطة السياسية والسلطة الدينية. لقد أدرك سبينوزا أن الطغيان السياسي في حاجة إلى سلطة من رجال الدين كي تدعمه وتضفي المشروعية الدينية عليه؛ كذلك فإن هيمنة رجال الدين في حاجة إلى حماية وضمان من السلطة السياسية. ولذلك عمل سبينوزا على فك الارتباط التاريخي بين السلطتين، ذلك لأن تحالفهما ينتج أشد الأنظمة قمعية: السلطة السياسية تسيطر على الأجساد، والسلطة الدينية تسيطر على الضمائر والعقول، وبذلك يكون القمع شاملاً. وقد أدرك سبينوزا أن نجاح أي سلطة في السيطرة على الجمهور يتأسس على استغلال انفعالين أساسيين في النفس البشرية: القلق والرجاء. ويتحول هذان الانفعالان لدى جمهور العامة إلى انفعالين لاعقلانيين: الخوف والطمع: الخوف من المجهول ومن مستقبل غامض، والطمع في مكاسب مادية وملذات حسية. تستغل السلطات السياسية والدينية في كل زمان ومكان هذين الانفعالين في بث الخوف في الناس من فوضى محتملة إذا لم يذعنوا للأمر الواقع، أو من عذاب أليم ينتظرهم نتيجة عصيانهم ورفضهم تنفيذ الأوامر. كما تغري السلطات جمهور الناس بالمكاسب التي ستعود عليهم من انضوائهم تحت طوعها، وبالأمان والرخاء الذي سوف ينعمون به إذا نفذوا الأوامر، وبالمتع الأخروية إذا ما أطاعوا السلطات القائمة. وبذلك تضمن السلطات جمهوراً مطيعاً خاضعاً، عن طريق استغلال اتفعالات أولية في نفسية الجمهور.
وقد كانت أول خطوة يقوم بها سبينوزا في سبيل تحرير الوعي الاجتماعي هو الكشف عن ذلك المنطق السلطوي في السيطرة على الجماهير، وفضح أساليب السلطة في الهيمنة والسيطرة على العقول والضمائر قبل السيطرة على الأجساد والأرزاق. وقد كان سبينوزا على قناعة ثابتة بأن مسيرة التحرر يجب أن تبدأ بفهم منطق الهيمنة؛ فلكما فهم الإنسان الآليات والأساليب المستخدمة للهيمنة عليه وإخضاعه، تمكن من التحرر منها. فلا تحرر بدون فهم منطق الهيمنة. ولم يخرج كل الفكر النقدي التالي على سبينوزا عن الإطار العام الذي وضعه للتحرر الاجتماعي، ذلك لأن فلاسفة عصر التنوير قد تبنوا رؤية سبينوزا للتحرر واتبعوا منهجه واستراتيجيته في النقد الاجتماعي والسياسي، وعلى أكتاف فلاسفة عصر التنوير وأفكارهم قامت كل الاتجاهات النقدية والتحررية واليسارية في العصور التالية.