القاهرة 22 اغسطس 2017 الساعة 09:51 ص
د. أحمد عمر
الفلسفة أسلوب حياة ورؤية للوجود، وهي صوت العقل وموطن الأسئلة المتجددة التي تتكرر دوماً على لسان الإنسان الذي يرفض أن يكون ألعوبة في يد الآخرين، ممن يصرخون في وجهه كل صباح ومساء: لا تفكر، نحن نفكر لك.
الفلسفة هي روح العصر، وحوار العقول الكبيرة، وميراث الأسئلة والأفكار التي دارت بعقل الإنسان منذ وضع قدمه على ظهر الأرض وتطلع إلى السماء، وسئل نفسه: من أنا ؟ ولماذا الآن هنا؟ وكيف سأحيا؟ وإلى أين سوف أصير؟
ثم بعد أن استقر في بيئته وسياقه الجغرافي والاجتماعي، تساءل من جديد عن الحق والخير والجمال، وحاول تحديد معاييرهم وكيفية تحقيقيهم. كما أخذ يفكر في المجتمع والدولة ونظام الحكم، وفي علاقة الإنسان بالإله والسلطة الزمنية، وعلاقة الإله والسلطة بالبشر، وفي علاقة البشر فيما بينهم داخل المجتمع.
ماذا تفعل الفلسفة في زمن المحنة؟
لا تظهر الفلسفة عند الفيلسوف الألماني جورج فيله لم فريدريش هيجل (1770 — 1831)، إلا عندما تفقد الحياة الاجتماعية والسياسية والدينية قبول ورضا الشعب. كما تظهر عند دمار العالم الواقعي وخرابه، لكي تُصلح بالفكر الفساد الناشئ عن تردي السياسة والمجتمع وصراعات رجال الدين.
وفي هذا الصدد يقول هيجل:" إن الفلسفة تتجلى حين يتخلى شعبُ ما عن حياته الملموسة، عندما يقطع الرابط القوي الذي يربط وجوده الخارجي بحياته الداخلية، فلا يعود الروح يشعر بالرضا عن حاضره المباشر، وعن الشكل الذي ارتضاه دينه إلى ذلك الحين، ويغدوا لا مبالياً. وهي تتجلى حين تنحل أخلاقية شعب ما ويهرب الروح إلى ميدان الفكر، باحثاً فيه عن مملكة داخلية".
ولهذا فظهور الفلسفة وازدهارها ضرورة في زمن التردي والمحنة، وما يجب على الفلسفة أن تفعله في ذلك الحين هو أن تمارس دورها التاريخي في النقد وكشف الزيف، كما قال الفيلسوف الألماني تيودور فون أدرنو (1903 - 1969). بهدف تصحيح المسار وإعادة البناء على أسس صحيحة.
صناعة المفاهيم وتفكيك الإشكاليات:
كما أن الفلسفة في تصور الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز ( 1925 - 1195 ) هي " فن تكوين وصنع المفاهيم "، بما تحمله هذه المفاهيم من معاني ودلالات تترابط في ما بينها أو تتعارض. وهي أيضاً آلية عقلية نتمكن من خلالها من تفكيك الإشكاليات الملحة التي يفرضها الواقع على الإنسان.
وأظن أن تصور جيل دولوز لوظيفة الفلسفة، يوضح لنا شدة احتياجنا لتفعيل دور الدرس الفلسفي في حياتنا، وإخراج الفلسفة من أسوار الجامعة الخانقة إلى فضاء الشارع. ومن قاعات الدرس بين الطلاب والمتخصصين، إلى أجهزة الإعلام والقنوات الفضائية وبوابات ومواقع الصحافة؛ ففي ظل حالة التخبط وغياب الوعي أو سيادة وعي مُزيف، وفي وسط طوفان المعارك الكلامية الدائرة حولنا، والاتهامات المتبادلة بين الجميع،
يجب علينا التصدي لإعادة صياغة المفاهيم المتداولة التي يتصارع حولها السياسيون والنخب والمثقفون، وتحديد دلالاتها، لنعرف بدقة معانى ودلالات بعض المفاهيم الغامضة والملتبسة في خطاباتنا السياسية والثقافية والإعلامية، مثل مفاهيم الوطنية، الخيانة، الإيمان، الكفر، الشرك، التدين، الفسق، النزاهة، الفساد، الأمانة، اللصوصية، الفضيلة، العهر. الدولة، الوطن، نظام الحكم، المواطنة، الصالح العام، المواطن الشريف، المعارض السياسي، رجل الدين، المفكر، الصحفي، الإعلامي، التدليس، الصدق، الكفاءة، الاستحقاق، الجدارة.
ومن المؤكد أن إعادة صياغة هذه المفاهيم، وتحديد معانيها ودلالاتها بدقه، سوف يكشف لنا وجود لبس واختلاط مذهل في دلالاتها في ذهن الكثير من مستخدميها، كنتيجة لما وصلنا إليه من تخبط كبير في الفكر واللغة والنوايا. وهو الاختلاط الذي سمح لأن يكون بيننا اليوم نماذج بشرية تجتمع فيها متناقضات عدة، كأن يكون المرء وطني خائن، موحد مشرك، متدين فاسق، نزيه فاسد، أمين لص، فاضل عاهر، وعاهر فاضل، داعية ممثل، وممثل داعية.
أما الإشكاليات الفكرية والثقافية التي نحتاج لاستخدام الفلسفة كآلية لتفكيكها، فهي الإشكاليات التي اظهرتها بإلحاح متغيرات الواقع بعد ثورات الربيع العربي؛ مثل إشكالية العلاقة بين الدين والدولة، وبين المثقف والسلطة، وعلاقة أجهزة الأمن السياسي بالمجتمع، ورموزه، وبخاصة المهتمين من منطلق وطني بالشأن العام، ويتخذون موقف المعارضة من النظام الحاكم القائم، وكذلك دور تلك الأجهزة في إدارة الدولة. ومنها أيضاً إشكالية الحضور الطاغي في المجتمع لأجهزة الإعلام والفضائيات، ودورها في تنوير الشعب أو تجهيله، وعلاقتها بالسلطة القائمة وأصحاب المصالح من رجال المال الأعمال، وعلاقة كل ذلك بالأمن القومي.
الفلسفة والتسامح:
في النهاية، فإن حاجتنا في مجتمعنا اليوم إلى الفلسفة دراسة وثقافة، لا تنبع فقط مما سبق عرضه، من أنها ضرورة لتصحيح المسار وإعادة البناء في أزمنة السقوط والانحدار. ولا لأنها مهمة كآلية لا غنى عنها لصنع وتكوين المفاهيم وتحديد دلالاتها بدقة، وكآلية أيضاً لتفكيك الإشكاليات الفكرية والاجتماعية القديمة والمستجدة.
فبالإضافة إلى ذلك فإن الفلسفة التي تُدرس لطلابها تاريخ العقل ومنتجاته، وتاريخ وتطور الأفكار والديانات والثقافات والحضارة الإنسانية، هي حجر الزاوية في تنمية الوعي النقدي للإنسان، وفي نشر ثقافة التسامح والتعددية وقبول الآخر، وحتمية القبول بالعيش المشترك في ظل الدولة المدنية الحديثة. وبالتالي فهي السبيل الناجح لمقاومة ضيق عقل الأصوليين والمتزمتين الذين لا يخلو منهم أي مجتمع أو دين.
ولهذا كم كنت أتمنى على واضعي المادة رقم (24) من الباب الثاني في الدستور المصري، المعني بالمقومات الأساسية للمجتمع، التي جاء نصها كالتالي: " ... وتعمل الجامعات على تدريس حقوق الإنسان والقيم، والأخلاق المهنية في التخصصات العلمية المختلفة". لو جعلوا أيضا من تدريس الفلسفة مادة تثقيفية لجميع التخصصات العلمية، حتى نرتقي بالحس الإنساني والوعي الفكري والتكوين الثقافي لطلاب الجامعات المصرية، فلا يخرج الطالب للحياة العامة والمجتمع، أحادي التكوين، يرى الواقع والمحيطين به من منظور واحد وضيق.