القاهرة 15 اغسطس 2017 الساعة 11:35 ص
بقلم :أشرف منصور
إن الإسلام السياسي، أو توظيف الدين في السياسة، هو أحد تجليات الصدام بين المجتمعات التقليدية والحداثة، وذلك لسبب بديهي، وهو أن المجتمعات التقليدية الإسلامية لا تستطيع مباشرة السياسة إلا وهي محملة بالدين، ذلك لأن السياسة لم تنفصل بعد في هذه المجتمعات عن خلفياتها وسياقاتها الدينية الموروثة، ولأن هذه المجتمعات لم تعرف تمايز الوظائف بين الديني والسياسي، والمقدس والدنيوي، ذلك التمايز الذي كان من أهم إنجازات الحداثة، التي لم تمر بها المجتمعات الإسلامية.
فالخطاب السياسي السائد في كثير من المجتمعات الإسلامية هو خطاب إسلامي لأن المجتمعات الإسلامية لم تعرف طريقة أخرى لممارسة السياسة، فهي لم تمر بمراحل الصراع التاريخي ذي الطابع الحقوقي الذي أرسى دعائم خطاب سياسي جديد، وظف مبادئ حقوق الإنسان والمواطن، واستخدم أفكار الحرية والمساواة، وانتقل من العهد الإلهي إلى العقد الاجتماعي، ومن حق الله إلى حق المجتمع. والدليل على ذلك أن خطاب الإسلام السياسي لا يزال لا يشعر بأي تناقض بين حق الله وحق المجتمع، فبالنسبة له فإن حق الله إما أن تكون له الأولوية أو أن حق الله هو نفسه حق المجتمع. ولا تزال الشريعة في خطاب الإسلام السياسي تحتل نفس المكان الذي احتله القانون الطبيعي في الممارسة السياسية للحداثة؛ على الرغم من أن الكثير من الأكاديميين من ذوي التعليم الغربي أو الخلفية الثقافية الغربية، يحاولون العثور على مبادئ القانون الطبيعي في الشريعة( )؛ وذلك محاولة منهم للتوفيق بينهما، ولإدخال طابع حداثي على المطالبات الحالية بتطبيق الشريعة. لكن الحقيقة أن هذه المحاولة أكاديمية بحتة، وتظل مقتصرة على أسوار الجامعات والدوريات الأكاديمية وعقول النخبة ذات الثقافة الغربية.
وعلاوة على أن الصدام بين التقليدية والحداثة يتجلى في خطاب الإسلام السياسي، وهذا ما يتضح من طابعه الصدامي، فإننا نجد في هذا الخطاب أسباب شعبية الإسلام السياسي، وأسباب سرعة انتشاره حتى كاد أن يصبح مُشكّلاً لعقلية الكثيرين من المسلمين، والتي بدأت في أخذه على أنه من الأمور البديهية. إن لخطاب الإسلام السياسي قدرة على الاستمالة والحشد، وقوته جاذبة، وجاذبيته هي التي تشد إليه الأنصار في كل مكان، حتى المسلمون القاطنون في الغرب الأوروبي والأمريكي.
إن لخطاب الإسلام السياسي جاذبيته، وهو مقنع وله وجاهته في نظر المؤمنين به أو المنخدعين، ولديه المعقولية الخاصة به في نظرهم، لكن مبررات وجوده ترجع كلها إلى الوضع المتردي الحالي؛ إنه خطاب ناقد ونضالي ومقاوم في نظر أتباعه، مثير ومحفز ومحرض، يلعب على العاطفة الدينية والتدين التقليدي الطبيعي للجماهير، وعلى المخيلة الدينية والوعي الجمعي الديني؛ وهكذا فالأرضية جاهزة وممهدة تماماً له، متسلح برأسمال رمزي ضخم يتمثل في التراث الديني التاريخي للإسلام نفسه؛ إنه يتماهى مع الإسلام ويتوحد معه تماماً ويقدم نفسه على أنه لسان الإسلام؛ إنه خطاب استمالي في الأساس.
وفي هذا السياق يجب علينا التمييز بين الخطاب الديني وخطاب الإسلام السياسي، وهو تمييز يجب أن نوضحه، لأن الكثير من الدراسات المعاصرة في هذا الموضوع تخلط بينهما، وهي في هذا الخلط إنما تقع في الفخ الذي ينصبه خطاب الإسلام السياسي لمستقبليه، ذلك لأنه يعمل على الإيهام بأنه خطاب ديني، بل هو خطاب الدين نفسه. فإذا عالجنا خطاب الإسلام السياسي على أنه خطاب ديني نكون قد سلمنا له بأنه يتحدث باسم الدين، أو على الأقل يمثل وجهة النظر الدينية. لا يجب إذن أن نترك أنفسنا نقع في خطأ الخلط هذا، وأن نحرص على تجنب الابتلاع من قبل الخطاب الذي ندرسه.
الخطاب الديني هو كل خطاب يأخذ مرجعيته ولغته من التراث الديني، وهو بذلك في غاية العمومية والاتساع. أما خطاب الإسلام السياسي فهو في الأساس خطاب سياسي يوظف الدين لأهداف سياسية. وكي نزيد الفرق بين الخطابين إيضاحاً نقول إن خطاب الأزهر خطاب ديني دون أن يكون خطاباً في الإسلام السياسي، وخطاب الإمام محمد عبده كان خطاباً دينياً لكنه كان إصلاحياً نهضوياً لا يهدف تحقيق أغراض سياسية خاصة، وخطاب دعاة الفضائيات أمثال عمرو خالد وخالد الجندي خطاب ديني لكنه لا ينتمي إلى الإسلام السياسي.
إن ما يميز خطاب الإسلام السياسي أنه خطاب في السياسة بلغة الدين، يتكلم في الدين وهو يقصد السياسة، وهو خطاب حشدي تعبوي استمالي يهدف جلب الأنصار وتجنيد المزيد من الناس في صفوفه؛ وهو خطاب بروباجاندا، يعمل على إقامة الفصل الحاسم بين الصديق والعدو، والمؤمن والكافر، ودار الإسلام ودار الحرب؛ لا يعرف الوسطية التي تميز الإسلام ولا يعرف التسامح تجاه الآخر؛ وغالباً ما يدخل في صدام حتى مع المؤسسات الدينية الرسمية بحجة تعاونها مع السلطة الكافرة أو لكونها أداة في يد هذه السلطة.
إن الخطاب الديني يمكن إصلاحه مهما كانت سلبياته، ويمكن التحاور معه بعقلانية والتخفيف من حدة تعارضه مع العقل والمنطق، كما يمكن أن نجعله يواكب العصر وقبول ما لم يكن يقبله من قبل، مثل الحريات والتعددية والتنوع الثقافي. أما خطاب الإسلام السياسي فلا يمكن إصلاحه بهذه الطريقة وليس من الممكن مواجهته بتلك الطرق التي نواجه بها الخطاب الديني السلفي. وإنني أعتقد أن خير طريقة لمواجهته هي نفس الطريقة التي يستخدمها هو؛ فالبروباجاندا لا يمكن مواجهتها إلا ببروباجاندا مثلها، أي بروباجاندا مضادة.