القاهرة 14 اغسطس 2017 الساعة 05:03 م
تنتقد كل ما هو قائم باعتباره جديراً بالزوال:
د. محمد جرادات: الكتابة الساخرة حاضرة تاريخياً وسياسية بامتياز
حوار: عبدالعليم حريص
أكد الإعلامي وأنثروبولوجي الأردني الدكتور محمد جرادات، أن للكتابة الساخرة حضور تاريخي، منذ عرف الإنسان النقش والكتابة والتوثيق.
وأوضح جردات أن بعد المرحلة الشفهية في مسيرة البشرية ووصولها إلى التوثيق والتدوين، تجلت السخرية في موضوعات عدة، وبقيت آثارها تدل عليها إلى أن وصلت لنا، ومع كل تغيير عام في الحياة والحالة التقنية انعكس ذلك على السخرية، واستفادت منه ووظفته لتحقيق حزمة من الأهداف، من بينها تحقيق أوسع قدر من الانتشار والتفاعل، وهو ما تحقق بشكل أكبر في ظل ما وصلت إليه التكنولوجيا اليوم. ويستدل من نقوش وكتابات ورسوم قديمة على أن الكتابة الساخرة كأسلوب للتعبير والنقد كانت حاضرة منذ بدايات مسيرة البشرية، منذ حياة الصيد واللقط، عندما كان الإنسان الأول الذي أطلق عليه خطأ الإنسان البدائي، صياداً، والمرأة لاقطة وجامعة للحبوب والبذور والثمار من حول المسكن "البدائي"، لكن هناك ما يشبه الاتفاق أن أقدم نص ساخر هو نص فرعوني قبل نحو 6 آلاف سنة.
تالياً نص الحوار
ما هو مفهوم الكتابة الساخرة؟
على الرغم من عدم وجود تعريف واحد محدد جامع مانع لمفهوم الكتابة الساخرة، لكنها بالضرورة تمتلك مواصفات واضحة، وتتطلب شروطاً أو اشتراطات محددة، من دونها لا يمكن أن تكون الكتابة ساخرة، ولا يمكن أن يكون الكاتب ساخراً، فهي ليست تجميع وإعادة توزيع للمفردات الشعبية، وليست وسيلة للإضحاك، على الرغم من رغم أهمية الضحك والإضحاك، وليست تهريجاً أو افتعال الضحك وصناعة الموقف، وليست سيناريو أو نصاً يمكن تأليفه أو توليفه أو صناعته، وليست ذات علاقة بالتفاهة ومحاولات الإضحاك السمجة. بوضوح تام، هي موقف لا يصدر إلا عن صاحب موقف، وهي موقف نقدي لا يحتمل المجاملة، ويحافظ على موسيقاه الداخلية بحيث يصعب أن ينتقل من موقف إلى آخر نقيض له. إنها كتابة مكثفة تحتل موقعاً متقدماً في قمة هرم الكتابة، وهي سياسية بامتياز ترتبط موضوعياً بفكرة مفادها أن "السياسية ليست كل شيء، لكنها في كل شيء".
كيف ترى ما هو سائد الآن في الإعلام فيما يتعلق بالكتابة الساخرة؟
للأسف، ما هو سائد في الإعلام على الأرجح كتابات تبتعد بنسبة ليست بسيطة عن حقيقة الكتابة الساخرة، وتقترب بنسبة كبيرة من "الحكي" واستخدام المفردات الشعبية واللهجة المحكية، والتهريج في بعض الأحيان بصفته "خفة دم" أو خفة ظل" تعكس كاتب خفيف الظل والدم، والحقيقة ليست كذلك، بمعنى أنه ثقيل الظل، فالكتابة المسماة ساخرة اليوم مليئة بالمديح والتبرير والدفاع عن الحكومات والسياسات، ولا تخلو من تناقضات بين مقالة وأخرى، فمرة تجده يدافع ويبرر، ومرة تجده يهجم، ولكنه لا يطال رأساً، بمعنى هو هجوم ونقد عام، وبالتالي لا يمس أحداً، لكنه قد يشكل حالة تنفيس احتقان ما، وبالتالي يستفاد منه ويوظف بما يخدم السلطة أكثر مما قد يعريها، أو يفضح سياساتها الخاطئة.
هناك حد فاصل يقف حاجزاً بين الكتابة الساخرة وبين "التهريج"، وإذا كانت السخرية لمجرد إضحاك القارئ، فهناك النكتة الشفوية، التي تقوم بهذا الفعل الإنساني على أكمل وجه، وبأسرع ما يكون الإيصال ويكون التكثيف.
لم تغب السخرية بمختلف ألوانها وأشكالها وأنماطها وتجلياتها وتداعياتها عن مشهد الكتابة والتعبير، سواء بالكلمة أو الصوت أو الحركة أو الرسم أو التشكيل، ومختلف ألوان التعبير، وإيصال الرسالة أو الحالة أو الموقف، تلميحاً أو مواربة أو التفافاً، وذلك عبر مسيرة وتاريخ البشرية، حيث كان الإنسان دوماً بحاجة إلى أن يعبر بطريقة ما عن حقيقة موقفه تجاه مختلف القضايا والإشكالات والظواهر، وابتدع لأجل ذلك وسائل وآليات ووسائل تعبير قادرة أن تصل إلى صاحبها والمقصود منها وفيها.
ما هي أنماط السخرية؟
للسخرية ألوان عديدة، ولكل منها مصدره النفسي، ولكل منها دوره في حياة الفرد والمجتمع، السخرية الإيجابية، التي تتعامل مع المسخور منه بكثير من الاتزان. والسخرية السلبية، التي تستخدم المبالغة إلى حدّ التطرف والنهش والتعريض. أما القاسم المشترك بين أنواع السخرية، فهو التناقض بين مضمون الظاهرة أو ماهيتها، وبين شكلها الممارس في الحياة الواقعية. وتعتمد السخرية على عنصر المفاجأة، وعدم التوقع والخيال، وكذلك الغرابة التي تعني انعدام التوافق بين الواقع، وبين ما يطمح إليه الساخر، لأنها قائمة على فكرة المقابلة بين نقيضين.
ليس هناك مجال للجدل بأن الكتابة الساخرة سياسية بامتياز، ناقدة ومشاكسة إلى أبعد الحدود، وذات هدف تغييري، وجوهرها ثوري بالضرورة، وأي محاولة لِلَيْ عنق هذه البديهية باتجاه اجتماعي، وشعبي، والكتابة بلهجات محلية ومحكية، هي محاولة فاشلة مهما حققت من رواج ومتابعة.
والكتابة الساخرة ليست للإضحاك ولا هي بالتهريج، والكلام الفارغ أو المفرغ من مضمونه، بحيث يتحول إلى عملية أو أداة تنفيس لاحتقان شعبي وجماهيري ما، هو في البدء والنصف والخاتمة سياسي بامتياز.
يذكر أن الدكتور محمد جرادات إعلامي أردني حاصل على دكتوراه في الصحافة والإعلام. "الأطروحة حول اتجاهات الكتابة الساخرة في الصحافة" وماجستير في الأنثروبولوجيا. "الاطروحة حول ثقافة الفقر" وبكالوريوس في الفلسفة والعلوم الاجتماعية.
خبرة في مجال الدراسات والأبحاث، والعمل الإعلامي في عدة بلدان عربية، "اليمن والأردن وسوريا ولبنان والسعودية والإمارات"، تزيد على 30 عاماً.
ومؤسس جمعية الأنثروبولوجيين الأردنيين ورئيس سابق لها، وعضو الجمعية الفلسفية الأردنية.