القاهرة 08 اغسطس 2017 الساعة 11:20 ص
"ميتة في أعماقي، أسير نحو هوة أو كابوس، هذا ما حدث لي عندما تركني زوجي، فتركت المسكن الذي كنت أعيش فيه معه، بعد أن قمت ببيع الأثاث على عتبته قبل أن أرحل، كان بي رغبة قاتلة لأن أترك كل ما لي وأنطلق في الشوارع، آكل من صناديق القمامة، وأركب القطارات إلى بلاد مجهولة، باحثة عن حب آخر في مكان آخر، كان الجنون يطيح بي، وظللت لفترة طويلة، أمضي في الشوارع، باحثة عن شيء لا أعرفه، مهشمة بشكل غريب، غائصة في خوائي، وكل خلية من خلاياي تصرخ: احتضني أيها العالم، تلقفني أيها الرب، نم معي أيها الرجل الشبيه بأبي، إنني أنبش الشوارع، والأبنية والعربات المسافرة، باحثة عنك"
تلك فقرة من إحدى القصص الواقعية التي أقوم بصياغتها لبرنامجي الإذاعي والتي رأيت أنها أفضل نموذج لما أريد أن أتحدث عنه..(الفقد)
من أقوى الآلام التي يمر بها الإنسان آلام الفقد والتي تكشف المجاعة الروحية التي عاشها طوال حياته دون أن يدري، فآلام الفقد حين تكون بهذه الحدة، لا تعود إلى قسوة الحدث فقط الذي تعرض له الآن، إنها آلام قديمة ترجع إلى فقر في الغذاء العاطفي الذي قُدِّم إليه منذ مولده، إما بشكل مباشر، كأن يتسم محيطه الأسري بالقسوة والحرمان العاطفي، أو بشكل غير مباشر، فليس كل حب يقدمه الوالدان للطفل يصل إليه كحب. هناك مثلًا الحب المشروط، وهو أنني لن أحبك إلا عندما تفعل ما أريد، سوف أحبك عندما تكون ما أريد، حتى وإن كان هذا متخفيًا في شكل تربيتنا وتهذيبنا لأولادنا. هناك أيضًا الحب الخائف وهو خوف الآباء المفرط على أبنائهم بدرجة تمنعهم من الحياة، تمنعهم من تحمل مسئولية وجودهم، حيث تصل للطفل رسالة مفادها: الحياة مريعة في الخارج ولن يحميك منها إلا الالتصاق والتعلق بأبويك، ذلك التعلق الذي سينسحب بعد ذلك على أي علاقة عاطفية يدخل فيها المرء فتكون الجراح وتكون الآلام الحادة إذا حدث انفصام لتلك العلاقة.
وقد يؤدي الألم الشديد للفقدان إلى هروب النفس، وهي حالة ينخفض فيها تركيز العقل، وينفتح الطريق لحالة من الخمول والكآبة، والإحباط وعدم الرغبة في مواجهة الواجبات اليومية، ويشعر المرء أنه مقود، لأنه ليس هناك جزء من جسده يرغب في الحركة، ويمكن لخمول الرغبة وشللها أن يسبب انهيار الشخصية كلها، التي يفقد العقل الواعي السيطرة عليها، وقد عرف البدائيون هذه الحالة، وأسموها (خسارة النفس) فأقاموا لها الطقوس لاسترجاع النفس الهاربة.
إننا حين نربي أبناءنا على التعلق والالتصاق، يصبح وجودهم مخوخًا، يصبح الحب لديهم مذلة واحتياجًا قهريًا، لا فرحًا ونشوة بالحياة، فالرسالة التي تصل إليهم من البداية: "أنت لا تستطيع أن تمضي في الحياة وحدك، الآخر هو الذي يمنحك دعائم وجودك" تلك الصورة الذهنية السيئة عن النفس، توقف نمو الإنسان، وتعميه عن ذاته الحقيقية، يصبح لديه صندوق أسود كبير، مملوء بالذنب والنقمة والكراهية الذاتية، التي تدفعه باستمرار إلى البحث عن هذا النوع من الحب المسموم، الذي يتركه دائمًا، وحيدًا، بائسًا، معاقبًا بالهجر، ليس هجر الآخر فقط، بل هجر نفسه أيضًا.
وتلك هي المشكلة.. (هجر النفس) حيث إن الإنسان العاجز عن الانفصال والذي أسميه هنا، الإنسان الذي لم يُفطم بعد، لايعيش نفسه قط، بل يعيش الآخر المتصل به، كما الوليد تمامًا الذي لا يستطيع تمييز ذاته عن ذات أمه، هذه الحالة هي التي تجعله ينتهي وتتقوض دعائم حياته إذا تعرض للهجر، إنه ينزف وجوده دفعة واحدة، ولا يستطيع أن يواصل الحياة إلا إذا وجد شخصًا آخر، يختبئ بداخله مرة أخرى. ذلك هو القهر وليس الحب كما يتصور الكثيرون، فالحب حرية وشجاعة ورغبة شديدة في الحياة، أما الالتصاق وعدم القدرة على الفراق والهجر هو الرعب من الحياة واللجوء إلى الاختباء الآمن في آخرين، هذا الاختباء يزيد من حالة العجز النفسي والذي يؤدي إلى شيئين هما وجهان لعملة واحدة: المازوخية والسادية، فبرغم غلب الشخص الملتصق، نجد لديه من القسوة ما يدهشنا، فجميع علاقاته استعمالية، أي أنه يستعمل الآخرين بشكل تملكي، يحولهم إلى أشياء قابلة للاستعمال لتغذية وجوده الضئيل والهش والذي لا يهدأ إلا بابتلاعهم والسيطرة عليهم، تحت دعاوى براقة، مثل الحب والانتماء والإخلاص، وهذا بالتحديد ما يسميه يونج بالحب المسموم، والذي يمارسه كثير من الآباء والأمهات على أبنائهم، وكثير من الأزواج والزوجات على بعضهم البعض، بل والأدهى من ذلك، أن من تذوق هذا السم، ثم افتقده لسبب ما، يظل يبحث عنه طوال حياته.
"يُحكى أن أميرًا شابًا أحب فتاةً فقيرة وتزوجها، كان الأمير يملك مصنعًا على النهر، ويرمي بمخلفاته في مياهه، في يوم من الأيام تمشت الفتاة على شاطئ النهر، وكانت حُبلى، فولدت طفلين أعميين، بأصابع ملتصقة، هجرها الأمير، وابتعد عنها ليتزوج بأميرة مثله، فأحست الفتاة بالشفقة المفزعة على طفليها، فحملتهما على يديها وذهبت إلى النهر مرة أخرى وألقت بهما فيه، حتى لا يعيشا تلك الحياة البائسة التي تعيشها هي، لم تتحمل الفتاة ما فعلت، فسقطت ميتة من شدة الحزن، وعندما صعدت إلى السماء رفض حارس الجنة دخولها حتى تجد طفليها. الآن تفتش الفتاة داخل النهر الملوث عن طفليها، لكنها لا تستطيع أن ترى، لأن مياه النهر داكنة. الآن هي شبح تفتش في قاع النهر بأصابعها الطويلة، وتهيم على شواطئه، وتنادي على صغارها طوال الوقت، وهي تكنس الضفاف بشعرها"
يالتلك الأسطورة المفزعة التي تسكن كثيرًا من النساء الباحثات عن الحب الذي في مخيلتهن، ذلك الحب الذي يفتقد إلى البديهة ودربة الحياة، ذلك الحب الواهي الذي ما إن يتحقق على الأرض حتى يحول صاحبه- صاحبته إلى شبح هائم، منفصل عن الواقع، ميت في أعماقه، كما ذكرت صاحبة القصة التي أرسلتها إليَّ، لتقديمها داخل برنامجي الإذاعي.
بالطبع.. إنها حالة الوقوع في الذات، إنها الثرثرة الذهنية، هي التصورات الافتراضية، عزلة الذات العاشقة، خواؤها من أي شيء سوى تلك الصورة الذهنية التي كونتها عن الحب، والتي يرى الطب النفسي أنها نوع من الوسواس القهري، ينحبس المرء بداخله، ويمنعنه من أي تواصل مع العالم الحقيقي، فيتحول إلى هذا الوجود الخفيف المهووس، يصبح العيش داخل المخيلة بينما الواقع يزداد تفككًا وانهيارًا تحت قدميه.
لقد صورت لنا حكاية الأمير والفتاة الفقيرة، حالة الالتصاق والعمى التي تنتج عن هذا النوع من الحب المسموم، البؤس والدونية والانسحاق كنتائج مأساوية عن خسارة النفس. نعم الحب القهري الملتصق هو خسارة عظيمة للنفس، لأطفال الروح، للحياة برمتها.