القاهرة 18 يوليو 2017 الساعة 11:00 ص
الخلاف أمر واقع بين الناس في مختلف العهود، لأنه سنَّة الله في خلقه، فهم مختلفون في ألوانهم وألسنتهم وطباعهم وإدراكهم ومعارفهم وعقولهم، وكل ذلك آية من آيات الله، أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} (الروم:22)
وهذا الاختلاف الظاهريّ يدل على التباين في الآراء والاتجاهات والأعراض. وكتاب الله العزيز يقرر هذا في أكثر من آية؛ مثل قوله سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: (118-11)
يقول الفخر الرازي: (والمراد اختلاف الناس في الأديان والأخلاق والأفعال), ولكى نحل أى مشكلة لابد من الحوار , ولكن هل عرفنا الحوار؟
الحوار شرعا هو المُراجعة في الكلام واصطلاحا مناقشة بين طرفين أو أكثر يُقصد بها تصحيح كلامٍ، وإظهار حجَّةٍ، وإثبات حقٍ، ودفع شبهةٍ وردُّ الفاسد من القول والرأي, وغايته إقامةُ الحجة، ودفعُ الشبهة والفاسد من القول والرأي. فهو تعاون من المُتناظرين على معرفة الحقيقة والتَّوصُّل إليها، ليكشف كل طرف ما خفي على صاحبه منها، والسير بطرق الاستدلال الصحيح للوصول إلى الحق. يقول الحافظ الذهبي: (إنما وضعت المناظرة لكشف الحقِّ، وإفادةِ العالِم الأذكى العلمَ لمن دونه، وتنبيهِ الأغفلَ الأضعفَ.
هذه هي الغاية الأصلية، وهى واضحة جليَّة، وثَمَّت غايات وأهداف فرعية أو مُمهِّدة لهذا الغاية منها, إيجاد حلٍّ وسط يُرضي الأطراف والتعرُّف على وجهات نظر الطرف أو الأطراف الأخرى, وبِدْءَ الحديث والحوار بمواطن الاتفاق الذى يؤدى إلى كسب الثقة وإذكاء روح التفاهم ويصير به الحوار هادئاً وهادفاً.
كما أن الحديث عن نقاط الاتفاق وتقريرها يفتح آفاقاً من التلاقي والقبول والإقبال، مما يقلّل الجفوة ويردم الهُوَّة ويجعل فرص الوفاق والنجاح أفضل وأقرب، كما يجعل احتمالات التنازع أقل وأبعد. والحال ينعكس لو بدأ المُتحاورون بنقاط الخلاف وموارد النزاع، فلذلك يجعل ميدان الحوار ضيقاً وأمده قصيراً، ومن ثم يقود إلى تغير القلوب وتشويش الخواطر، ويحمل كل طرف على التحفُّز في الرد على صاحبه مُتتبِّعاً لثغراته وزَلاته، ومن ثم ينبري لإبرازها وتضخيمها، ومن ثم يتنافسون في الغلبة أكثر مما يتنافسون في تحقيق الهدف .ومن الأقوال المأثورة
دَعْ صاحبك في الطرف الآخر يوافق ويجيب بـ (نعم)، وحِلْ ما استطعت بينه وبين (لا)؛ لأن كلمة (لا) عقبة كؤود يصعب اقتحامها وتجاوزها، فمتى قال صاحبك: (لا)؛ أوجَبَتْ عليه كبرياؤه أن يظلّ مناصراً لنفسه.
إن التلفظ بـ (لا) ليس تفوُّها مجرداً بهذين الحرفين، ولكنه تَحفُّز لكيان الإنسان بأعصابه وعضلاته وغدده، إنه اندفاع بقوة نحو الرفض، أما حروف (نعم) فكلمة سهلة رقيقة رفيقة لا تكلف أي نشاط جسماني
ويُعين على هذا المسلك ويقود إليه، إشعارك مُحدثَّك بمشاركتك له في بعض قناعاته؛ والتصريح بالإعجاب بأفكاره الصحيحة وأدلته الجيدة ومعلوماته المفيدة، وإعلان الرضا والتسليم بها. وهذا كما سبق يفتح القلوب ويُقارب الآراء، وتسود معه روح الموضوعية والتجرد.
وقد قال علماؤنا: إن أكثر الجهل إنما يقع في النفي، الذي هو الجحود والتكذيب، لا في الإثبات، لأن إحاطة الإنسان بما يُثْبتُه أيسر من إحاطته بما ينفيه، لذا فإن أكثر الخلاف الذي يُورث الهوى نابع، من أن كل واحد من المختلفين مصيب فيما يُثْبته أو في بعضه، مخطيء في نفي ما عليه الآخر.
فهل نراجع أنفسنا, ونعود إلى رشدنا, ونبدأ فى حوار جاد يقوم على أسس علمية ومنهجية, ونخلص النية لله أولا ثم لبلدنا بعد ذلك, مجردين من الأهواء الشحصية, والمصالح الضيقة, واضعين الصالح العام نصب أعيننا, قبل أن يضيع كل شىء, ولا يبقى إلا لعنات الأجيال القادمة.