القاهرة 20 يونيو 2017 الساعة 10:30 ص
بين رمضانين:
منذ شاهدت مسرحية "العيال كبرت" ارتبطت تلك الجملة الغنائية لأبطال العمل بالشهر الفضيل "أهلاً رمضان"... لعله الاسم وحده الذي يحمل هذا الارتباط أو يُأوّل عليه، لكن فيما بعد أدركت أن بعدًا نفسيًّا آخر يربط بين الاسمين "رمضان" الأب، ورمضان الشهر الفضيل، أن كلاهما يحمل نوعًا ما من تفضيل له زاوية فنية، فالأب رمضان ومن كانوا معه بحيهم وميتهم، كانوا مثالاً –في نظري- لهذا الفنّ الفضيل، بكل ما يحمله من قيم تتربى عليها الأجيال، أو بما قدموه من قضايا مجتمعية لها خطورتها وأثرها على المجتمع بشكل عام. كذلك الشهر الفضيل –فنيًّا- ارتبط معي بما أسميه "الفنّ الرمضاني الجميل" والذي تربينا على كثير مما قدمه من برامج ومشاهدات فنية ما بين المسلسل والبرنامج.
يُثار في ذهني الآن بعد سنوات من مقاطعة هذا الشهر الفضيل فنيًّا سؤال عن السبب؟ وهو سؤال استدعى بدوره بعض علامات الاستفهام، كتلك العجيبة التي أرها في مشهد السقوط الكبير لهؤلاء الكبار الذين لم يتعلموا أبسط سنن الحياة، وهي أن الدنيا تسير للأمام طبقًا لما يواكب حركتها في السير ويتلاءم مع إيقاع العصر، فلماذا لم يتفهم البعض من هؤلاء تلك البساطة؟ هل تكمن صعوبة فهمها في بساطتها؟
حين سقط الكنج:
خرج علينا العام الفائت "محمد منير" –الكنج- بكل ما يحمله الاسم من علامات وما يمثله من قيمة فنية، في مجازفة خطيرة بتقديمه لما يُشبه السيرة الذاتية لتتحول الكتابة الورقية للعمل (السيناريو والحوار) إلى مجموعة جمل شديدة النرجسية، معتمدة على حبكة سردية أقل ما توصف به "السذاجة"، فجاء المسلسل هزيلاً للغاية، رغم اجتهاد أبطاله ومعهم "الكينج" والذي لم تفلح حتى أغاني المسلسل في الصعود به ولو درجة واحدة، حيث كان بالنسبة لي كالمثل الشعبي: (أغنية وطلع لها مسلسل)؟ وناله ما ناله من جملة السخرية.
لماذا لم يتعلم منير من غيره العام الفائت؟
أظن الإجابة بسيطة جدًا؛ فالرجل رغم تاريخه الفني العظيم، وجد قامة أخرى فنية تفعل ما فعل بل وتستمر فيه، رمضان تلو الآخر في السنوات الأخيرة، دون أن يباليَّ كائن ما، وكأن اسم ذلك القامة الفنية وحده وتاريخه السينمائي والمسرحي الطويل يمكن أن يتحملا أي إخفاق، فأنت أمام الزعيم الذي نجحت الفضائيات في استقطابه إلى الشاشات الصغيرة، ظنًا أنها فعلت ما لم يفعله أحدهم، والغريب أن تلك الفضائيات ربما لم تنتبه إلى إفلاس الرجل فنيًّا منذ سنوات طويلة، يوم قرر أن يجعل المسرحية الواحدة تستمر لعشر سنوات، معتقدين أن رواد المسرح هم الجمهور الحقيقي. الحقيقة أننا أيضًا في أفلامه الأخير اكتشفنا أن الرجل فنيًّا (خلّص من بدري)، فلماذا الإصرار عليه؟ والأعجب لماذا لم يقتنع هو ذاته أنه قدم كل ما يملكه فنيًّا لجمهوره، وأنه لا يضيره أن يقول ذلك صراحة؟ لا أريد تحليل أسباب ذلك قدر ما أريد أن أقوله، "الزعيم" لم يعد زعيمًا بالمرة، صارت زعامته زمنًا غابرًا، يُصر على تشويهه في عين الأجيال التي تربت على الفضائيات، ولا تعرف الكثير عن مشواره المسرحي والسينمائي.
هل حفّز الزعيم سقوط الكنج؟:
أكرر أنني لن أحلل ما يقدمه على الشاشة في رمضان –أو غيره منذ سنوات- لكن لا بُدّ أن يقنعه أحدهم بأنه لا مانع لو ترك المجال لطاقات جديدة ونجوم جُدد حتى لو كانوا صغارًا في السن، أم أن البلد كما قال في واحدة من روائع المسرح المصري "صحيح بلد شهادات"؟! أظن كل من ساند الرجل وأقنعه بتقديم هذه الأعمال له مآرب أخر يعلمها الله ثم الشركة المنتجة لما يُقدم.
يتولد السؤال التالي: هل حفز عادل إمام محمد منير على فعل ما فعله العام الفائت بتقديم مسلسل المغني؟
الإجابة: ليس وحده، فحين تنظر إلى هذا الكم الهائل من المادة التليفزيونية المقدمة، وتدني المحتوى العام في رمضان كل عام تلو الآخر، ستعرف أن منير كان مجرد حبة في سبحة انفرط عقدها منذ تمّ تصدير ما يقدمه الممثل المتواضع فنيًّا "رامز جلال" في برنامجه المفرك وما يحمله من بذاءات تتزايد كل رمضان عن ما سبقه، لتدرك أننا نواجه أزمة لها أبعاد مختلفة، منها أزمة الكتابة نفسها، وندرة الاحترافية في هذا النوع من الكتابة لمثل هذه البرامج الفجة، والتي تظهر سماجتها متناقضة تمامًا مع خصيصة هامة وملمح من محددات الشخصية المصرية وهي "خفة الدم والنكتة" ليضربها في مقتل هذا الممثل ضئيل الموهبة، بما يقدمه من سخافات تصل في بعضها إلى حدّ "قلة الأدب" والتي ندركها من عدد مرات كتم الصوت للبرنامج. هل يمكن أن نفهم كيف يحتل هذا البرنامج نسبة عالية من نسب المشاهدة والإعلانات؟ من يقف وراء الترويج لهذا "التهريج"؟
إذن هي نظرية المؤامرة:
لستُ بصدد نظرية المؤامرة، لكن حين يُصر البعض على تصدير مثل ذلك باعتباره "خفة الدم المصرية" فهو ما يجعلك تنساق وراء نظرية المؤامرة على الهوية المصرية نفسها، وتحت نفس النظرية وتداعياتها تفهم لماذا الإصرار على تجنيب الكثيرين لأجل تقديم وتصدير "العجائز"، والكلمة هنا –العجائز- ليست قدحًا او نفيًا لصفة الإبداع قدر ما هي وصفًا للسن والعمر الذي يتنافى مع طبيعة عمل الممثل وقدراته وطاقاته الحركية التي يمكن ملاحظتها، فمثلاً عادل إمام يكاد لا يتحرك أمام الكاميرا أبدًا، فلماذا هذا الإصرار على حرق تاريخ الرجل بما يقدمه من هذه المسلسلات الضعيفة فنيًّا وكتابيًّا؟!
إذن والعمل؟
ماذا لو مرّ رمضان عام ما، وهو يحمل لنا وجوهًا جديدة في كل ما يقدمه من كتابات السيناريو والبرامج، وكذلك الفنانيين؟ هل سنغضب؟ هل سنقاوم؟ أم أنه صار لزامًا علينا أن نرى أحدهم او إحداهن –حتى رغم الموهبة- له أكثر من عمل واحد في الشهر؟ أنا لا أعرف ربما كانت هذه حسابات تخص شركات الإنتاج والتوزيع والتسويق والمحطات الفضائية، أو تخص الفنان نفسه، إذ جعل الجميع هذا الشهر مهرجانًا وسباقًا لا بُدَّ من التواجد والمشاركة فيه دون اعتبار لما يقدم أو بالمادة المقدمة والمنتجة؟ هل يمكن العودة إلى نظرية المؤامرة وطرح سؤال من خلالها يتخيل أن ثمة من يحاول تصفية الموهبة المصرية فعلا واستهلاكها وحرق طاقتها سريعًا؟!
ربما لا يُدرك بعض الفنانيين ذلك، وربما دفعتهم ظروفهم الاقتصادية لفعل ذلك، ولكن أليس كل ما يقدمه الفنان بشكل عام هو سطر يُكتب في سيرته الذاتية؟ هل يقبل أن تكتب هذه السطور بمثل ما يحدث الآن مما نشاهده؟
همسة عتاب أخيرة:
بقى أن أقول أن الأمر ليس مأساويًا، فهناك البعض ممن يقدمون أعمالاً رائعة، وتثير الكثير من الأسئلة الفنية والجمالية، لكن ألا نخاف على مثل هذه الأعمال أن ينالها وينال أصحابها ما أصاب عادل إمام من هوس الظهور الرمضاني، أو أن يقع ضحية لعبث تليفزيوني كالذي وقع فيه محمد منير العام الماضي، ولم يحمه تاريخه من تلك السقطة، ولم يغفر له جمهوره الحقيقي ذلك التهاون؟ أم أن الجميع صار إلى درجة من الذوق الفني والكتابي المتدني التي يمثلها رامز جلال وبرنامجه المسلسل المفبرك لسنوات، وكأنها معيارًا للذوق العام المصري؟!
أكرر أن هناك من الطاقات الفنية والمواهب الكثير الجاد، لكن يبدو أن الفضائيات وسيطرة رأس المال التجاري لا الفني ستستثمر هذه الطاقات لصالحها المالي فقط، دون أي اعتبار لما يمثله هؤلاء من قيمة وقوة مجتمعية لبلد كان لها الصدارة في يوم ما عبر شاشتها الفضية او شاشتها الصغيرة، لكنها وبقدوم موجات "الست كوم" استبدلت بالأصالة السطحية، وبالقيمة الفنية والجمالية عدد الإعلانات ونسب المشاهدة، لتؤكد انها ليست الصحافة وحدها التي بها نوع أصفر مستهجن، بل الشاشات الفضائية صارت صاحبة الحق الأوحد في تصدير "القيم الصفراء" كلها في المجتمع.
ربما حان الوقت لنقول لكل صناع الدراما والبرامج التليفزيونية ولكل المبدعين عبر شاشة رمضان، رمضانكم كريم، وارحمونا يرحمكم الله.