القاهرة 06 يونيو 2017 الساعة 01:43 م
إن الفلسفة باعتبارها فكراً عقلانياً حراً يُمارس دون آراء أو افتراضات مسبقة ودون تحاملات، كانت دائماً ما تفترض مناخاً سياسياً واجتماعياً خاصاً جداً؛ هذا المناخ إما أن يكون في غاية التحرر ويخلو من التسلط والقمع، وإما أن يكون سلطوياً بالكامل. والسبب في احتياج الفلسفة كي تزدهر لهذين الشرطين المتناقضين، هو أن الفيلسوف في حاجة دائمة إلى الحماية، لأن فكره لا يتفق في العادة مع ما هو عام وشائع في مجتمعه. هذه الحماية إما أن يوفرها مناخ الحرية أو يضمنها حاكم قوي يحمي الفيلسوف.
فلأن فكر الفيلسوف هو خارج الصندوق وخارج المألوف والمعتاد، وفي تناقض دائم مع العامة ومعتقداتها وتحاملاتها وآرائها المسبقة، فإن الفيلسوف لا يشعر بالأمان إلا في ظل شرطين متناقضين: الحرية والسلطوية. ويشهد تاريخ الفلسفة بصحة ذلك. فالفلسفة نشأت في بلاد اليونان في جو من الحرية التامة، وفرها تعددية النظم السياسية اليونانية مع سيادة النظام الديموقراطي في الكثير منها. لكن وبعد المرحلة اليونانية شهد تاريخ الفلسفة ارتباطاً من نوع ما بين الفيلسوف والسلطة، فقد كان الفيلسوف في حاجة دائمة إلى سلطة تحميه، وفي الغالب كانت هذه السلطة قوية، شكلت حاجزاً منيعاً بين الفيلسوف وأعدائه. ومن أبرز الأمثلة على ذلك: حماية الأمير الموحدي يوسف بن عبد المؤمن (1163 – 1184) لابن رشد. صحيح أن ابن رشد قد عانى في علاقته بابنه الأمير يعقوب بن يوسف المنصور (1184 – 1199)، وكان هو الذي نفى ابن رشد وشارك في اضطهاده، إلا أن الحقيقة التاريخية تظل قائمة وهي أن ابن رشد كان يلقى الحظوة والحماية من يوسف. كذلك توصلت الدراسات التاريخية لعصر التنوير إلى أن الحرية الفكرية التي كان يتمتع بها الفلاسفة آنذاك كانت مضمونة من السلطات الملكية المطلقة؛ وأبرز مثال على ذلك هو ملك بروسيا الشهير فريدريك الثاني (1712 – 1786)، الذي كان صديقاً لفولتير ولامتري، ووفر مأوى لجان جاك روسو لبعض الوقت حين كان يعاني من الاضطهاد، وظهر في عهده العديد من مشاهير فلاسفة ألمانيا مثل كريستيان فولف وكانط وهيردر.
لكن ليس معنى كل ذلك أن الفيلسوف كان دائم الخضوع لسلطة تحميه، ذلك لأن علاقة الفيلسوف بالسلطة كانت كثيراً ما اتصفت بالصدام والمواجهة التي كانت تنتهي إلى اضطهاد السلطة للفيلسوف. وتاريخ الفلسفة مليء بالأمثلة على مثل هذا الاضطهاد. والحقيقة أن ما يمكن أن نستخلصه من علاقة الفيلسوف بالسلطة أنها كانت على مر التاريخ علاقة في غاية التعقيد، وتحكمها خصوصية كل مجتمع ظهرت فيه الفلسفة. لقد كانت علاقة الفلسفة بالسلطة متطرفة على الدوام، فالسلطة إما أن تحمي الفلسفة أو تضطهدها، إما أن توفر الأمان والدعم المادي للفيلسوف أو تمارس عليه كل صور الاضطهاد، بدأً من الإسكات وانتهاءً بالقتل.
أما علاقة الفلسفة بمناخ الحرية فليست هي العلاقة الأساسية، وليس مناخ الحرية هو الشرط القبلي التاريخي لازدهار الفلسفة، ذلك لأن الفلسفة ازدهرت في أشد عصور الطغيان والاستبداد وكانت في مواجهة ذلك الاستبداد نفسه؛ صحيح أن الفلسفة في حاجة إلى الحرية، إلا أن هذه الحرية مطلوبة لا للتفلسف نفسه لأنه فعل يدور في رأس الفيلسوف، بل هي مطلوبة لانتشار الفلسفة ذاتها في المجتمع. فليست علاقة الفلسفة بمناخ الحرية علاقة مباشرة، بل هي تتم دائماً بتوسط السلطة. ولما كان أي مجتمع لا يخلو من سلطة، فإن السلطة إما أن توفر الحرية للفيلسوف أو تحرمه منها، وفي الحالة الأخيرة لا يتوقف الفيلسوف عن التفكير، بل تتوقف الفلسفة عن أن تنتشر في مجتمعه وتكون مؤثرة فيه.
ولعلم الفلاسفة بكل هذه الحقائق، إذ أنهم عاشوها وخبروها جيداً، فقد كانت مواقفهم من السلطة تتنوع بين الاستمالة والصدام. وأبرز مثال على استمالة فيلسوف للسلطة كي تضمن حرية التفكير وحرية ممارسة الفلسفة، هو سبينوزا، الذي وضع لكتابه "رسالة في اللاهوت والسياسة" عنواناً فرعياً شديد الدلالة: "وفيها تتم البرهنة على أن حرية التفلسف لا تمثل خطراً على التقوى أو على سلامة الدولة، بل إن في القضاء عليها قضاء على سلامة الدولة وعلى التقوى ذاتها في آن واحد". كانت الإشكالية التي بدأ بها سبينوزا كتابه هي حرية التفلسف والبحث فيما إذا كانت هذه الحرية تتعارض مع الدين أم لا. وقد هدف من كتابه كله في المقام الأول الدفاع عن هذه الحرية وإثبات أنها لا تشكل خطراً لا على الدين ولا على الدولة، وأن العصف بهذه الحرية هو الذي يشكل خطراً على الدين والدولة معاً. ومن أجل هذا الهدف ميز سبينوزا بين الدين والفلسفة على أساس أن لكل منهما هدفه وأساليبه الخاصة المناسبة للوصول إلى هذا الهدف. فهدف الدين التقوى عن طريق الوصول إلى يقين أخلاقي بوجود الله وبكل ما يتبعه هذا الوجود. أما الفلسفة فهي تهدف الوصول إلى الحقيقة، وطرائقها كلها عقلية علمية تتبع قواعد البرهان بالبدء بتعريفات علمية لحقائق الأشياء ثم استنباط ما يلزم عنها، على أساس أن المعرفة العلمية بالأشياء هي المعرفة بالأسباب الضرورية لوجودها. أما صدام الفيلسوف مع السلطة فإن أقصى صوره هو أن يسحب منها الشرعية ويدعو الشعب للثورة عليها، وتاريخ الفلسفة مليء بالأمثلة على ذلك: روسو، سييز (أحد واضعي إعلان حقوق الإنسان والمواطن أثناء الثورة الفرنسية وأحد المشاركين في كتابة دستور الثورة)، ماركس.
لكنني أعتقد أن نموذجي الاستمالة والصدام قد فات أوانهما الآن، واستهلكهما تاريخ الفلسفة الطويل، إذ لو تم اللجوء إليهما الآن لكررنا نفس ما حدث للفلاسفة السابقين، أي خضوع الفيلسوف للسلطة أو الصدام معها. وبالتالي يجب اللجوء إلى حل آخر لإشكالية مناخ الحرية والأمان الضروري للفلسفة. ولا يمكن أن يكون الحل إلا أحد خيارين اثنين، تمت تجربتهما بالفعل في تاريخ الفلسفة السابق، وهما: إما أن تحكم الفلسفة، أي أن يصل الفيلسوف ذاته إلى الحكم، فيما يعرف بفكرة الحاكم الفيلسوف والتي ترجع إلى أفلاطون، أو تنجح الفلسفة في إحداث تنوير شامل وعميق للجمهور ينقذه من الخرافة، ويكون الجمهور المستنير نفسه هو ضمانة الحرية والأمان للفيلسوف. كانت فكرة الحاكم الفيلسوف يوطوبية على الدوام، وإمكانات تحققها في العصر الحديث تتضاءل وتكاد تختفي. لا يبقى إذن سوى تنوير الجمهور، من أجل الجمهور نفسه ومن أجل حرية وأمن الفيلسوف، وهو المشروع الأساسي الذي حمله عصر التنوير. فإجابة على سؤال هذا المقال، أقول إن الفلسفة تحيا عندما تتملك من عقول الجمهور، عندما تصبح ثقافة الجمهورنفسه وتصل إلى أبسط فئات الشعب. بهذه الطريقة تُحَل الإشكالية التقليدية في علاقة الفيلسوف بالسلطة، ويلتحم الفيلسوف بالشعب، ويصير الشعب حاميه وراعيه، بدلاً من اللجوء إلى السلطة أو الصدام معها.