القاهرة 24 مايو 2017 الساعة 12:20 م
والمحامين وأصحاب الفنادق والبنائين وأصحاب الحوانيت. وهؤلاء جميعاً رسمهم ستين في لوحات تبدو في النهاية وكأنها نشيد مدح للطبقات الوسطى: رسمهم في بيوتهم وأفراحهم وأعيادهم، رسم نساءهم وأولادهم وحتى خدمهم وحيواناتهم السارحة في حدائق البيوت الخلفية. ولكنه بقدر ما امتنع عن رسمهم وهم في الكنائس ولهذا الأمر دلالته القصوى بالطبع، رسمهم خصوصاً في المكان الذي كان يشهد أزحم ضروب تجمعهم: في الحانات. ولما كان ستين نفسه صاحب حانة مشهورة في دلفت، التي قضى فيها سنوات من عمره، ثم صاحب حانة لا تقل عنها شهرة افتتحها في ليدن ليقضي فيها السنوات الأخيرة من حياته بعدما تنقل (صاحب حانة ورساماً) بين العديد من المدن الأخرى مثل هارلم وفارموند وغيرهما، كان من الطبيعي أن تجري «أحداث لوحاته» في تلك الحانات، لتكون شخوصها، حيناً أفراد عائلته، وأحياناً زبائنه من أبناء تلك الطبقات الوسطى التي كان هو ينتمي اليها. وفي هذا الإطار يندرج وجود لوحته «حفلة عائلية» المعلقة اليوم في متحف «أمستردام»، لتجتذب مئات ألوف المشاهدين سنوياً، وتقدم لهم مشهداً حياً وحيوياً من حياة هولندا، مع أن حجمها لا يتجاوز نصف المتر ارتفاعاً، والـ40 سم، عرضاً. ولنذكر هنا أن هذا كان هو الحجم الطبيعي في ذلك الحين للوحات رسمت أصلاً كي تعلق في بيوت الطبقة الوسطى، لا في القصور والكنائس. في هذه اللوحة التي رسمها ستين في ليدن أوائل سبعينات القرن السابع عشر على الأرجح، نرى واحداً من تلك المشاهد الجزلة الحيوية التي كان ستين
يحب رسمها، وغالباً ما يجعلها لوحات عائلية، بمعنى انه يكون من السهل التعرف في شخوص الموجودين فيها الى أفراد من عائلة الرسام نفسه أو من جيرانه وصحبه. إنه مشهد لا يبدو للناظر اليه استثنائياً في أي حال من الأحوال. فالقوم هنا في جلستهم هذه يبدون كمن يمارسون طقوساً اعتادوا ممارستها في شكل يومي. ذلك أن كل شخصية من شخصيات اللوحة تبدو «متمرنة» تماماً على «الدور» الذي تؤديه هنا أمام ألوان الرسام، يشهد على هذا واقع انه فيما تبدو بعض الشخصيات وكأنها تحتفل بالحياة وبوجودها هنا، تبدو شخصيات أخرى منهمكة في ممارسات مختلفة عن السياق العام لمشهد اللوحة: السيد المغطى الرأس الى يمين اللوحة الذي يقرأ ما يمكن افتراضه رسالة وصلته من طريق الحانة وقد سلمت اليه للتو حتى يطلع عليها. والرجل والمرأة الجالسان الى يسار اللوحة كمتفرجين من دون أن يبدو عليهما أي اهتمام خاص بما يدور من حولهما. بل يبدو عليهما تأثير نقاش ربما كان قد ساد بينهما قبل دقائق بصدد مشكلة خاصة. أما الخادمة التي تحمل طبقاً فتبدو هنا وكأنها تقوم بأمر تقوم به كل لحظة وقد رسمت على وجهها، بحكم العادة، ابتسامة انتصار لأنها توصل الطعام الى الجمع. أما مدخن الغليون فربما يكون الرسام نفسه، طالما أن جلسته تشي بإحساس من يمتلك المكان كله ويشعر بحرية التصرف على مزاجه فيه، كما بحرية إحاطة نفسه بكل هذا الرهط من قوم يعرفهم كثيراً ويعرفونه. أن هذا كله ما يجعل اللوحة لوحة عائلية، من ذلك النوع الذي كثر، ليس فقط بريشة ستين، بل بريش العديد من زملائه ومعاصريه وأطلق عليه تقنياً اسم «رسم النوع» -ما يعني الرسم ذا الموضوع المستقى من تفاصيل اليومي-. أما ستين فإن ما ميز لوحاته في هذا المجال، إنما هو احتفالها - لونيا وتكوينيا - بالحياة بمعناها اليومي الآني، من دون قلق كبير ولكن أيضاً من دون التطلع بالأمل الى المستقبل. وهذا ينم، طبعاً، عن نمط العيش الواقعي (الاحتفالي غالباً) الذي خلقته طبقة وسطى من المواطنين كانت تعرف جيداً أن مهماتها تكمن من بناء حياتها، ومن خلال ذلك بناء المجتمع والسير به الى الأمام. وفي هذا الإطار كان واضحاً أن المهمة الأساسية للرسم، في ذلك الحين، كانت مواكبة عملية البناء في اتجاهيها، وتصوير البناة في شتى أحوالهم، لا سيما في اجتماعهم وصخبهم واحتفالهم بصعودهم المتواصل.
> عاش يان هافيكسون ستين بين 1625-1626 و1679، وهو ولد ومات في مدينة ليدن، التي كانت تعيش ذروة ازدهارها خلال تلك الحقبة. لكن انتماءه الى هذه المدينة لم يمنعه من أن يتنقل بين مدن عدة أخرى. تماماً كما أن دراسته الجامعية -هرباً من الخدمة في شرطة البلدية كما يقال- لم تمنعه من أن يتبع أباه في إدارته للحانات، ومن أن يصبح لاحقاً صاحب حانات. وامتلاكه الحانات لم يمنعه من أن يغوص في فن الرسم، ويتزوج -في زواج أول- ابنة رسام ويؤسس نقابة الرسامين ذات لحظة. واللافت بعد هذا كله، في لوحات ستين، هو أن ثمة عدداً منها يدور من حول موضوع أساسي هو زيارة الطبيب لفتاة مريضة.