القاهرة 24 أغسطس 2017 الساعة 12:02 م
*جلال برجس ـ الأردن
ما الذي يجعلنا نقبل على قراءة الرواية؟ وما الذي يجعلنا نخرج من فضائنا دون أن نعي، ونحلق في فضاءاتها؟ وما الذي يجعلنا في تلك الرواية نقف عند مشاهد معينة، ومقولات معينة، أو حتى عند كلمة واحدة تبقى تتردد بالبال؟
إنها الكتابة المخلصة، المخلصة للذات أولاً، وللعام ثانياً. فما من رواية حقيقية إلا وكانت تلك التي تنظر عبر نافذة الذات إلى العالم. العالم هذا الواضح تارة، والمتشابك تارّات أخرى. هذا الذي فيه حكاية من يَقلق لعدم اكتمال ثمن معطف شتوي في زمن البرد، ويقلق أيضاً فيه من لم يكتمل لديه ثمن طائرة في زمن الفحش المادي. إنها الكتابة المخلصة، والتي تحيلنا إلى أن الرواية في المحصلة أيضاً مقترح إنساني، ربما يحبه قارئ، وينفر منه آخر. مقترح غير ثابت لا في الشكل، ولا في اللغة، ولا في الأسلوب.
تساؤلات طالما راودتني وأنا أفرغ من قراءة روايات ما، مثل رواية (هوامش بحجم المتن) لهناء عبد الهادي، هذه الرواية التي لفت انتباهي فيها، أن المؤلفة كانت ديمقراطية في بناءها لروايتها إلى أبعد الحدود، بحيث أنها منحت شخصيات الرواية حرية البوح والحركة والتفكير، حيث تكمن ثيمة هذه العمل. فالشخصيات تروي ما حدث، وما يحدث لها، فتوقعنا المؤلفة في بداية روايتها بإشكالية- تتضح فيما بعد- حيث يعتقد القارئ أن حكايات تلك الشخصيات، حكايات منفصلة لا يؤلف بينها شيء، لكن التوغل في النص يجعلنا نكتشف أن هذه الشخصيات تؤلف عائلة كبيرة، تصبح برأيي الخاص معادلاً موضوعياً ليس للعائلة المصرية فقط، إنما أيضاً للعائلة العربية، وكأن هناء عبد الهادي تأخذنا إلى مقولة هيجل "الدولة امتداد للأسرة ".
الموضوع
وتتبنى صاحبة هذا العمل الروائي، الذي ينتمي للإنسان، التفاصيل اليومية التي يعدها الكثير بسيطة، وتتطرق إليها بكثافة لافتة، كالموت والحب، والسفر، والقلق، والأحلام وحتى ضجيج الأولاد، إضافة إلى شأن البلاد السياسي، وما طرأ عليها من تبدلات. وربما يتساءل صنف من القراء عن الضرورة الروائية التي سوغت لهكذا تفاصيل، دون أن يعي أننا إذا قمنا بتكبير الصورة الفوتوغرافية، سنجد أنها تتألف من تفاصيل كثيرة هي التي أدت إلى اكتمال تلك اللقطة. وهوامش بحجم المتن هي صورة رسمتها المؤلفة بلغة نقلت الواقع المصري إلى فضاء هذه الرواية، ووضعت القارئ في عمق ما يحدث، وربما يجاز لي أن أقول أنها في معاينة حركة الصراع الاجتماعي مع المكان والزمان والإنسان وتطلعاته عادت هناء عبد الهادي إلى نقطة البداية، العائلة بكل أحلامها وطموحاتها، أحزانها وأفراحها، ودورها الكبير في الذهاب إلى مستقبل يعول عليه.
العنوان
وحينما نتأمل العنوان، والذي هو أهم عتبات النص، ندرك ما يمكن أن تحتفي به هذه الرواية، وما تذهب إليه، بذائقة الروائية الناقدة، التي تنطلق من معاينة مجتمعها نحو أفق أكثر رحابة. فهي تعظم من حال الهوامش التي تراها لا تقل شأناً عن المتن، بل وحتى نلاحظ حينما نتعمق بدرب الرواية، أن الهامش هو الموضوع الرئيسي الذي تتناقله الشخصيات عبر تعدد مستويات السرد. وهنا تنتصر هناء عبد الهادي عبر عنوانها هذا وما يليه من فضاء الرواية، للحياة الشعبية، وللمرأة الركيزة الأهم في هذه الحياة. حيث كان لديها القدرة ليس فقط على كشف البناء الخارجي لهذا المجتمع، بل وحتى الغوص في دواخل أناسه، ووضعهم في مرمى ذائقة القارئ البصرية والتأملية. فالأعمال التي تبقى مقربة على الدوام من قارئها هي التي يجد فيها مساحة له تتشكل في شخصية ما أو في عدة شخصيات. ويجد أمكنته وأزمنته، وما يفكر به.
التقنية السردية.
اعتمدت هذه الرواية في بناءها على بوح الشخصيات كتقنية سردية. فشخصيات الرواية هي التي تروي، وتصوغ الأحداث بتلقائية، وهي التي تصنع حتى عناصر التشويق الخفية، وتحدد مسار الأحداث. فالإيجابي في هذه التقنية أن ما تقوله كل شخصية هو جزء رئيسي من الحكاية التي وزعت بطريقة ذكية حتى يتسنى للقارئ أن لا يقع في الملل، و حتى يجد بعداً جديداً من المعاينة، إذ بدت لي الرواية عبر هذا الشكل من السرد، كأن شخصيات العمل يجلسون في غرفة معتمة، وكل مرة تسقط بقعة ضوء على أحدهم، فيتسنى للقارئ/المشاهد أن يتابع ما يجري.
اللغة
رغم أنني ضد مسألة التجنيس فيما يخص الإنتاج الأدبي، ذكوري أم نسوي، إلا أنني أرى وفي هذه الرواية أن الوعي هنا، وعياً نسوياً عاين الحياة بكل تجلياتها بلغة تتقنها المرأة التي تكمن في تكوينها القدرة العالية من الحساسية على مقاربة الواقع. فاللغة في هذه الرواية تقسم إلى قسمين واحدة بصرية تنقل الأحداث والحوارات والمشاهد، وأخرى مرجعيتها الذاكرة. وفي الحالتين لم تذهب هناء عبد الهادي إلى ذلك الترف اللغوي، ولا الإسهاب بل كتبت بلغة توافق مكان وزمان الرواية، حتى أنه برأيي لا يمكن استهجان كثرة الحوارات في اللهجة المحكية بل رأيتها مناسبة، ولها دور في أخذ القارئ إلى ما ترمي إليه الرواية. ومما يحسب لهذه الرواية من حيث لغتها، أنها ذهبت إلى شعرية الحدث لا شعرية اللغة التي لا ننكرها بالطبع. حيث يتسنى للقارئ أن يرى الحدث من زاوية جديدة، حينما يعاد إنتاج الواقعي روائياً.
خلاصة
بما أن النجاح في كتابة الرواية يعتمد على خبرة الكاتب الحياتية، وعلى تلك التراكمات من القراءة والاطلاع والوعي والتأمل، وحتى استثمار التجارب الشخصية، فيمكنني القول هنا أن هناء عبد الهادي قد وُفقت في أن تقدم للقارئ رؤيتها الخاصة للحياة اليومية، متكئة على ذلك التراكم. فكان لها أن تجعل القلم عين كاميرا تتنقل هنا وهناك، وتتيح للقارئ فرصة أن يرى الحياة من زاوية جديدة، الحياة بكل تجلياتها، وهي تتضمن على أسئلتها الكبيرة حول الحب والموت والمصائر. كتبت هذه الرواية بتمهل من يود أن يقدم مقترحاً إنسانيا، ومقترحاتنا الإنسانية تدخل قلوب البعض، وتبقى خارج قلوب البعض الآخر، وذلك لإيماننا بأن الرواية جنس أدبي لا يركن إلى شكل أو أسلوب أو لغة معينة، إنما هو جنس دائم التجدد والبحث، والتوق إلى الجديد.
* روائي أردني