القاهرة 23 ابريل 2017 الساعة 01:16 م
بين هيباتيا، فيلسوفة مدرسة الإسكندرية الشهيدة في القرون الغابرة، وهانّا آرندت فيلسوفة القرن العشرين اليهودية التي أعدمها بنو قومها معنويًا، لم يكن كبيراً عدد الفيلسوفات النساء اللواتي عبرن التاريخ. بل في قرننا الواحد والعشرين هذا، حتى وإن كان ثمة الكثير من المفكرات والكاتبات اللواتي يقتربن من ملكوت الفلسفة، نادرات هن الفيلسوفات الحقيقيات اللواتي يمكن لتاريخ الفكر أن يحتفظ لهن بمكان في الأزمان المقبلة. ومن هنا تصبح كل فيلسوفة حقيقية، نوعاً من ظاهرة إستثنائية. وينطبق هذا في شكل خاص على مفكرة فرنسية تكاد تكون منسية بعض الشيء اليوم وإن كانت ملء الأسماع والأبصار والأفكار أيضًا خلال الربع الثاني من القرن العشرين، وهي سيمون ويل، التي نفيت من وطنها على أيدي النازيين خلال الحرب العالمية الثانية لكونها يهودية، مع انها كانت قد اعتنقت نوعاً من الكاثوليكية الصوفية قبل ذلك بزمن، كما أن كتبها الأساسية التي من المؤكد أن النازيين لم يقرأوها، كانت تؤكد ذلك بقوة. ولنبدأ هنا حكاية تلك المفكرة الفريدة من مكان آخر، من مكان غير متوقع: مصانع سيارات رينو.
> من المؤكد أن أياً من عمال تلك المصانع الفرنسية، لم يتصور في ذلك اليوم الصيفي من عام 1934، ان الفتاة الهزيلة ذات الثياب الرثة، والتي بدأت العمل كـ «شغيلة» في المصنع، هي في حقيقة امرها واحدة من اكبر مفكري ذلك الوقت في فرنسا، وواحدة من المناضلات الأكثر شراسة. كانت بالنسبة الى العمال مجرد عاملة جديدة هشة المظهر. اما هي فكان العمال بالنسبة اليها مختبراً للتغيير الثوري الجديد الذي تحلم به، وحصناً لنزعتها النقابية - الفوضوية التي كانت ترى فيها الحل الوحيد لذلك الاستلاب القائم في المجتمع والذي ليس سوى العاملين البائسين من يدفع ثمنه.
> تلك الصبية كانت هي نفسها سيمون ويل، وكانت يومها في الخامسة والعشرين من عمرها. وكانت بدخولها المصنع على ذلك النحو تحاول ان تطبق نظرياتها الثورية. مهما يكن فإنها لم تستمر في ذلك العمل سوى شهور عادت بعدها الى مزاولة عملها الفكري، وإلى تأمل احوال المجتمع، وكانت تلك التجربة العمالية قد اثرت فيها كثيراً: اثرت فيها من الناحية الصحية حيث خرجت من المعمل وهي اكثر هشاشة من ذي قبل، وأثرت فيها من الناحية الفكرية، لأنها جعلتها، بدلاً من ان تلتقي مع فكر كبار منظري احوال الطبقة العاملة واستلاباتها، تكتفي وبكل بساطة مع ما كان شارلي شابلن يطرحه في فيلمه الفذ «الأزمنة الحديثة». فالاضطهاد الذي يعاني منه العامل الحديث لم يعد، في نظرها، اضطهاداً ناتجاً فقط من التنظيم السيّء للعمل الاجتماعي كأمر يتسبّب فيه رأس المال (لأن مثل هذا الأمر قابل للإصلاح بعد كل شيء)، بل انه ناتج من طبيعة العمل الميكانيكي نفسه، ومن حتمية وجود مثل هذا العمل.
> والحقيقة أن تلك التجربة ناهيك بتجارب أخرى أكثر أو أقل أهمية هي التي ستوصل ويل الى وضع العديد من أبرز كتبها ولا سيما كتاب «التجذّر» الذي كتبته في لندن بين عامي 1942-1943 ليشكل ما يشبه كلمة النهاية والوصية الفكرية للكاتبة. وحسبنا هنا أن نذكر العنوان الفرعي للكتاب لندرك برنامجها: «مقدمة لإعلان عن الواجبات تجاه الكائن البشري». ففي هذا الكتاب ترفض ويل نظريات الثورة الفرنسية الحقوقية محلّة مكان مفهوم حقوق الإنسان مفهوم واجبات الإنسان القائمة على مبدأ الحب، حب الفرد تجاه الجماعة وحب الجماعة تجاه الفرد. بيد أن المخطط الذي تصيغه انطلاقاً من هذه الفكرة يبدو واضحاً ان ليس في الإمكان تطبيقه إلا ضمن إطار ثورة روحية شاملة. وهي تأخذ على الثوار السياسيين انهم، يطالبون في آن معاً، بأقل مما ينبغي وبأكثر مما ينبغي. أما ثورتها هي الروحية فلا تقوم في إحداث تغيير جذري بقدر ما تقوم في إبدال نوعي يقوم في أن تعاد الى الإنسان، حتى في الأفعال الأكثر تواضعاً في الحياة اليومية، تلك الدلالة المقدسة التي كان هذا الإنسان فقدها. ومن هنا تتخذ كلمة «التجذّر» التي استخدمتها كعنوان للكتاب معناها الضخم. فالتجذّر المطلوب هنا ليس جغرافياً يتعلق باقتلاع العامل من مسقط رأسه. بل باقتلاع أكثر عمقاً: اقتلاعه من العناصر الطبيعية والما فوق طبيعية التي هي ما يكوّن جذور حياته. التجذّر هنا يعني عودة العامل الحديث للانخراط في كل ما يكوّن شخصه وذاته: المكان، الولادة، المهنة، البيئة، وسط جماعة من البشر تحمل في ذاتها «نفس كنوز الماضي وشيئاً من الحدس المستقبلي».
> لقد كان الوصول الى هذه الفكرة، قبل عقد من وضع الكتاب، وهي تتلاقى على أي حال ، مع نوع من الفكر السلفي المسيحي، الاكتشاف الميداني الذي جعل سيمون ويل تعيش منذ تلك اللحظة اقسى درجات التناقض في داخلها، مفضلة منذ ذلك الحين، بدلاً من الاستمرار في تأمل تحليلي، ان تنخرط في النشاط الميداني. فكان ان سافرت الى اسبانيا ابان اندلاع الحرب الأهلية هناك، حيث انخرطت في صفوف الفوضويين الثوار، لكنها لم تستطع البقاء سوى شهرين عادت بعدهما لتكتشف... المسيح.
> كان اكتشاف المسيح واحداً من أهم الأمور التي طرأت على حياة سيمون ويل، وذلك بكل بساطة لأنها يهودية الأصل علمانية النشأة ماركسية الاتجاه. ومن هنا فإن المسيح الذي اكتشفته لم يكن في رأيها، «مسيح الكنيسة، بل مسيح الثورة والبائسين»، وهي انطلاقاً من تلك القناعة وصلت الى نوع من الإيمان الديني الخاص قادها الى طريق الله، انما من دون ان تمر - للوصول الى ذلك - عبر الكنيسة او طقوس العمادة. والملفت ان سيمون ويل قضت بعد ذلك، في لندن، ودفنت يوم 25 آب (اغسطس) 1943، وهي في الرابعة والثلاثين من عمرها، وهي في اوج تطور فكري من المستحيل اليوم معرفة الوجهة التي كان سيقودها اليها. والملفت ايضاً ان معظم الكتابات التي عبرت فيها سيمون ويل عن تجاربها العملية والفكرية، ولا سيما «التجذّر»، لم تطبع وتنشر الا بعد موتها المفاجئ.
> ولدت سيمون ويل عام 1909 في باريس، ابنة لعائلة يهودية بورجوازية، لكنها، ومنذ صباها آثرت الا تهتم بعائلتها، وألا تستند الى ثراء تلك العائلة، وكان ذلك حين قررت ان تجعل دراسة الفلسفة طريقاً لحياتها، واكتشفت عبر ذلك، مصادر الفكر الإنساني في الفلسفة اليونانية والنصوص المصرية القديمة والفكر الهندي، وهي كلها سابقة على التجربة اليهودية وإلى حد كبير، متناقضة معها وهكذا بدأت سيمون ويل بسلوك طريق الاستقلال الفكري، الذي عززه لاحقاً اكتشافها للماركسية، ولكن بالتناقض مع النمط الدولتي السوفياتي. وهي حين عينت في 1931 استاذة للفلسفة بعد ان كانت تتلمذت على آلان وبدأت تكتب في مجلته، قررت بينها وبين نفسها ان اي عمل نضالي فكري حقيقي لن يمكنه ان يكون مجدياً، اذا لم تتخل عن امتيازاتها كمثقفة لتعيش وضع البائسين العمال الذين تدافع عنهم، وكانت تلك بداية طريقها، التي قادتها اولاً للعيش عيش العاطلين من العمل في مدينة أوسير، وبعد ذلك الى خوض تجربة مصنع رينو.
> كل هذا قاد سيمون ويل الى اكتشاف ان المعركة الأساسية ليست مع تلك الفاشية الخارجية المعلنة، بل مع شتى الفاشيات الأخرى حتى ولو حملت احداها اسماً براقاً هو «دكتاتورية البروليتاريا». وكان ذلك الاكتشاف هو الذي غير حياة سيمون ويل. غير ان ذلك لم يمنع الفاشية الحقيقية من ان تتسبب في هجرتها الى الولايات المتحدة من طريق الشمال الإفريقي عند نهاية سنوات الثلاثين، ولا من ان تطردها من عملها من دون اية تعويضات. مهما يكن فإن سيمون ويل لم تطق البقاء في الولايات المتحدة كثيراً، على رغم الاستقبال الجيد الذي خصها به التروتسكيون هناك بعد ان وجدوا افكارها وآراءها تلتقي مع افكار تروتسكي. فعادت الى لندن حيث راحت تسعى إلى العودة والمقاومة في فرنسا. غير ان مسعاها لم يكتمل اذ قضت نحبها هناك، مخلفة مئات النصوص التي راحت تجمع بعد ذلك في كتب اثارت اهتماماً واسعاً منذ ذلك الحين ومن أهمها «تأملات حول اسباب الحرية والاضطهاد الاجتماعي»، «الوضع المالي»، «الدفاتر» و?«انطباعات ما قبل مسيحية» و?«المنبع الإغريقي».