القاهرة 29 نوفمبر 2016 الساعة 01:57 م
نور الهدى عبد المنعم
القاعدة هي أن يدخل الجمهور إلى صالة العرض، وينتظر أن يفتح الستار بعد أن يسمع الدقات الثلاث.
القاعدة ألا يرى الجمهور ما يحدث في الكواليس، وألا يرى غرف الفنانين التي يستبدلون فيها ملابسهم، وأن يغلق الفنان الميكرفون فور خروجه من المسرح حتى لا يسمع الجمهور الحوارات التي تدور خارج العرض.
أما الاستثناء فهو أن يدخل الجمور إلى صالة العرض فيجد الفنانين أمامه منهم من يحفظ دوره، ومنهم من مستلقى على ظهره، ومنهم من يجلس على أمل أن يجد دورَا يؤديه، وتدور الحوارات بينهم، والحركة دائبة بين مخرج العرض والفنانين والفنيين، فيعتقد المتلقي أنه دخل إلى الصالة متأخرَا وأن العرض قد بدأ، ثم يكتشف أنه لم يبدأ بعد، وهذا ما فعله المخرج هاني عفيفي في عرضه "زي الناس" المأخوذ عن نص "الاستثناء والقاعدة" إنتاج استوديو مسرح مركز الإبداع الفني – صندوق التنمية الثقافية - مايو 2016، عن نص الكاتب الألماني برتولد بريخت وترجمة الكاتب الراحل الدكتور عبدالغفار مكاوي مع ارتجالات هشام إسماعيل وأحمد السلكاوي وكريم يحيى.
ويحكي عن التاجر كارل لونغمان الذي يقوم برحلة سيرَا على الأقدام في الصحراء مع دليل وحمال ثم تتمكن الشكوك منه ويتساءل: ماذا لو انقض عليه هذان الرفيقان فيقتلانه ويستوليان على تجارته وثروته؟ إنه يعرف أن ما يدفعه إليهما قليل، ولا يشجعهما على الوفاء له، وبدأ يلاحظ في الوقت نفسه أن الدليل يبدي الكثير من التعاطف مع الحمال، الذي لم يكف التاجر عن إساءة معاملته منذ بداية الرحلة، هل سيجعل الخوف رفيقاً ثالثاً له في الرحلة حتى يقضي عليه إن لم يقض عليه الرفيقان أم يحسم أمره؟ وبالفعل يحسم أمره بطرد الدليل من الخدمة، مفضّلاً أن يكمل الرحلة مع شخص واحد يحتاجه أكثر ولتعبه لا يمكنه أن يلحق ب أي أذى، ويكمل التاجر رحلته الشاقة مع الحمال فقط، ورغم اقتناعه بما فعل إلا أن الشك لم يفارقه ولكن ما العمل؟ ليس لديه أي بديل، خصوصاً أن الرحلة طالت وندر الماء والطعام، وصار هو، كما حماله بالطبع، نصف ميت، نصف عطش، نصف جائع. وهنا، إذ يستبد به العطش، يحدث في شكل مباغت أن الحمال يحاول أن يناوله قربة الماء ليشرب. وإذ يلاحظ التاجر تلك الحركة يخيَّل إليه -كما سيقول لاحقاً عند محاكمته بتهمة قتل الحمال- أن هذا يمسك حجراً يريد أن يصرعه به كي يسرق ماله وبضاعته، فلا يكون منه إلا أن يطلق النار على الحمال ويرديه.
بعد حين وفيما تكون قافلة تجار مارة في المكان، تكتشف جثة الحمال فتتصل بقوات الأمن التي تعتقل التاجر بتهمة القتل وتحيله إلى المحاكمة بعد أن تقيم عليه زوجة الحمال دعوى قضائية، وفي المحاكمة يبدو واضحاً منذ البداية أن الحكم سيصدر في نهاية الأمر لمصلحة التاجر، على رغم أن الدليل يعود إلى الظهور كشاهد، مؤكداً ذنب التاجر والجريمة. غير أن للتاجر، في رأي المحكمة، منطقه الخاص: فهو أعلن، والمحكمة وافقته على هذا، أنه إنما قتل الحمال دفاعاً عن النفس: لقد اعتقد عند مرأى الحمال يمسك شيئاً بدا كالحجر القاتل، اعتقد بأن الحمال يريد قتله. وكيف لا يعتقد هذا والظروف كلها كانت تشير إلى ذلك؟ كيف كان في وسعه أن يميز بين الحجر وقربة الماء؟ ومن ذا الذي يمكنه أن يحاكم منه النيات ليستخلص أنه قتل الحمال عمداً؟ ثم ما هي مصلحته في قتل الحمال الذي صار عونه الوحيد في تلك الرحلة، هو القوي المسلح الذي ما كان في وسع الحمال أن يشكل أي خطر بالنسبة اليه؟
هذه الأسئلة كلها طرحتها المحكمة في شكل كان من الواضح فيه تحيّزها إلى التاجر: أن هذا الأخير تصرف وقتل ضمن إطار الحق المشروع في الدفاع عن النفس. وفي إزاء هذا المنطق، لا يعود مهماً أن يكون قد شعر أنه مهدد أو أنه كان مهدداً بالفعل. صحيح أن الفارق كله يكمن هنا، ولكن من ذا الذي يمكنه أن يحسم الأمر إذاً؟ إذاً، المحكمة ستحكم ببراءة التاجر على رغم احتجاج الدليل وعويل أرملة الحمال. المنطق هو المنطق. والتاجر أمام المحكمة هو الأقوى. وإذ يبدو هذا كله موجهاً إلى المتفرج، ها هو بريخت يدعو هذا الأخير إلى الاختيار والى إصدار حكمه الشخصي في المسألة برمتها. والموقف واضح، أمام منطق من هذا النوع له أبعاده الخاصة، لا يعود أمام المتفرج سوى واحد من اختيارين: إما أن يقبل الحكم النهائي، وإما أن يرفض المنظومة القضائية كلها... طالما أن لهذه المنظومة منطقها المنطقي: إنها منظومة اجتماعية متكاملة. منظومة تقوم على قاعدة لا يمكن أن يحلّ الاستثناء مكانها. وهذه القاعدة بأسرها هي التي سيجد المتفرج نفسه مدعواً إلى الحكم عليها، لا على التاجر أو على القاضي.
ومن هنا يقول لنا بريخت في عبارة نهائية: "عليكم أن تجدوا السوء في القاعدة نفسها. وحيثما تجدون هذه القاعدة عليكم أن تعثروا على الترياق"، وما يريد بريخت أن يقوله هنا هو أن النظام له قوة القانون، وهو بالتالي يستند إلى جهاز إداري مهمته الأساسية تطبيق هذا القانون لمصلحة هذا النظام. القاعدة القوية هي التي تدير كل أطراف اللعبة هنا، وهي تنطبق كما هي على الجميع. أما الإنسان العادي، فإنه لا شك سيضيع، إذ يبتغي أن يكون طيباً مع جلاديه. المسألة الجوهرية ليس أن تكسب جلاديك بالطيبة أو بالإقناع. المسألة هي أن تلعب على غير الأرضية التي يملكها الجلادون، أي خارج قاعدتهم، في الاستثناء الذي تبتكره أنت. على قاعدتهم أنت خاسر لا محالة.
اعتمد المخرج هاني عفيفي على الأسلوب التعليمي لبريخيت وكسره للحاجز النفسي مع الجمهور موجها له الحوار منذ بداية العرض حين قدمه وبدأ البطل يقدم نفسه كما في النص الأصلي، كما اختتمه بجملة بريخيت التي اشتهر بها هذا العرض، لكنه أضاف عليها بعدّا جديدّا جعل من نص عالمي تقليدي ربما يصعب على المتلقي العادي، هو الكوميديا الناتجة من ارتجال ابطال العرض، وخروجهم ودخولهم إلى العرض، حيث أنه تمثيل داخل التمثيل، فالعرض يدور في إطار فرقة مسرحية _هي الفرقة نفسها_ تقدم مسرحية مأخوذة عن نص لبريخيت، ويرى المتلقي علاقات الفنانين ببعضهم داخل الكواليس، والمواقف التي يتعرضون لها واستبدال الملابس والاتفاق على الأدوار. من هنا لم يكسر الحاجز النفسي المعروف ب "الحاجز البريختي" فحسب بل كسر الملل وكل القواعد المسرحية المعروفة.
يحسب للفنانين هشام إسماعيل وأحمد السلكاوي وشادي عبدالسلام وكريم يحيى وماهر محمود وسارة عادل وسارة هريدي آدائهم غير التقليدي الذي يتنقل بين الفصحى والعامية والجد والهزل، كذلك تصميم الملابس للكتورة مروة عودة والذي قد يوحي في بداية العرض أنه سيرك وليس قاعة مسرح حيث التشابه الكبير بين ملابس التاجر وضابط الشرطة ومدير الفندق.
كما أن فكرة الاستعاضة عن الديكور التقليدي بالرسومات التي قدمتها الفنانة عبر شاشة عرض كخلفية للعرض، وكذلك بعض الأثاث المصنوع من الأسلاك، كل ذلك يؤكد أن كل تفاصيل العرض الذي تقدمه فرقة ستديو مركز الإبداع مبنية على الاستثناء في كل شئ. كما تتميز أيضَا بإيقاعات أوسكار نجدي عازف التشيللو محمد صلاح.
"الاستثناء والقاعدة" هي آخر مسرحية تعليمية كتبها بريخيت وكانت الأولى التي تحمل اسماً، بين كل الشخصيات التي ملأ بها بريخت تلك السلسلة من مسرحياته التعليمية التي كرّسها طوال سنوات ما قبل النازية في ألمانيا، لفضح السياسات الرجعية والتنبيه من خطر مجيء الفاشية، ناهيك بالحديث عن الصراعات الطبقية وعن أن الفكر الاشتراكي هو الحل. ومن هنا تأتي الأهمية الإضافية لـهذه المسرحية التي تكاد وحدها في هذا السياق كله، تعكس مجمل توجهات بريخت المسرحية على مدى عقود طويلة من النشاط، ولم يكن صدفة بالطبع، أن يكتب بريخت هذه المسرحية سنة 1930، يوم كان هو، وكانت ألمانيا كذلك، على مفترق طرق شديدة الحساسية بالنسبة إليه والخطورة بالنسبة إليها، ولم تكن صدفة أيضّا أن يختار المخرج هذا العرض ليقدمه الآن إذ نحن نعيش حالة تشبه إلى حد كبير حالة التخبط التي كان يعيشها المجتمع الألماني، حيث يكون الشر هو القاعدة والخير هو الاستثناء، ويحكم القضاء لصالح الشر.