القاهرة 21 سبتمبر 2016 الساعة 01:06 م
.( البساطة ) هى تلك الحالة التى تخلو من التعقيد والتركيب ، وهى السهولة التى تخلو من الصعاب والعراقيل ، وهى ما يوازى ويقابل الخط المستقيم الواصل بين نقطتين لا يميل ولا يلتف ولا يحيد ، وهى المباشرة والوضوح فى المعنى والقصدية بلا إستعارة ?صطلاح مصنوع . وهى إختصار لكل جملة ذات تفصيل . وهى غاية الحكمة إن أصابها أصحاب العقول ، ولغة المدركين لحقائق ا?مور . أما ( الفلسفة ) فهى ذلك المصطلح اليونانى المركب ( حب المعرفة / الحكمة ) والذى تعددت فيه التفاسير وتنوعت فيه الشروح ، حسب المجتمعات والعصور . وحسب درجة ا?لمام بالعلوم و المعتقد والوعى وا?دراك للحقائق والوقوف عليها . وأجتمعت العديد من ا?راء على أنها بمثابة الرغبة الدائمة للتساؤل وطلب المعرفة ، ومحاولة الوصول إلى درجة من اليقين فى ماهية ما بعينها ، ينتج عنها الحكمة فى علمها ومفردات تكوينها . ويراها البعض درجة عميقة من درجات الفهم ، ومحاولة طرحه بسياق معين خاضع لنوعية التفكير وطريقته . يسهم فى فهم الماهية وتفنيد محتواها .
وبين تلك السهولة لمعنى ( البساطة ) وبين ذلك التعقيد والتراكبية لمفهوم ومعنى ( الفلسفة ) أجد أعمال هذا المثال الكبير / محمد العلاوى منتصبة بين كلا المفهومين ، وتعتلى منبر تتحدث من خلاله مخاطبة شريحة عريضة من العقول التى لا تخطئ فهمها . وتستسيغ طرحها مهما تدنت درجة ثقافتها . فالرجل قد أمسك بتلابيب السهل الممتنع . وصار طرحه لكتلة عميقة الفلسفة طرحا فى غاية البساطة والسهولة ، فأصاب طريقا مثلى للوصول إلى العقل ، بل وتخطى ذلك إلى دفعه نحو التداخل والمشاركة ، وإستثارة الفضول لديه لحل تلك ا?حجية التى تصاحب معظم أعماله . والتمعن فى أضاد القوانين التى تصاحب طرحه . والتى أبدا لا تتصارع مع منحوتته ، بل تزيدها تشويقا وإعجابا من قبل المتلقى لها . فالرجل حالة مميزة ذات جاذبية . فهو يستقى منحوتاته من جمل مفاهيمية وأطروحات قدرية . وإشكاليات مجتمعية وسياسية . وهو يرتكز فى طرحه وفلسفته على إستعارات لما يخالف قوانين الفيزياء الصارمة ، ويخالف جملة الجاذبية ا?رضية التى تعد من المسلمات ، ويعاند فكرة ا?تزان الضرورية لحدوث الثبات ، و يوظفهم جميعا توظيفا رائعا ليجبرنا على ا?نتباه والتفكر والتدبر لماهية سياقه ، وأجمل ما فيه هى تلك المعالجات التى إنكبت على فروض ذات علاقة بالواقع والمجتمع المحيط وما يذخر به من أمور سياسية ومجتمعية ، وجميعها ذات علاقة بطرق التفكير وأساليب التنفيذ والتصرف النابعة من فئات المجتمع ، والتى يعبر عنها تارة بصورة تمثيل موازى ، وتارة برمزية دلالة ، وتارة يستعرض مفاصل ا?شكالية من وجهة نظره . والتى تتضمن أيضا طرحه للحلول من خلال إستنباط سهل من جانب المتلقى .
وقد حملت أعمال الفنان الكبير / محمد العلاوى مسحة صوفية مترفعة عن تلك ا?مور المتأنقة فى الشكل ، والمرتكزة على نبل الخامة . والتى يكترث بها بعض النحاتين على حساب مفهوم الطرح وجملته الفلسفية ورسالته ا?نسانية ، ويعد هذا الجانب الزاهد فى الملمس تارة وفى الخامة تارة أخرى واحدا من مقومات تجربته ومميزات منحوتاته ، وأكثر ما يدل على فهمه ووعيه ، فجملة الطرح لديه فى بعض ا?عمال تعبر عن واقع تقطر منه طلاح ا?فعال وا?فكار ، ومناسبة تلك الملامس الزاهدة والحلول البسيطة المعبرة والتفاصيل المطموسة هى خير دليل تشهد به المنحوتة على واقع الحال هذا ، فلم تغريه مهارته وهو تلميذ للعبقرى الراحل الفنان الكبير / جمال السجينى . ولا دراسته فى واحدة من أكاديميات روسيا الشهيرة ( أكاديمية " ريبين " بسان بطرسبرج ) والتى حصل منها على شهادة الدكتوراة ، والتى أكسبته طبقات تراكمية من الخبرة فى التعامل مع الخامات النبيلة كالرخام والبرونز ... إلا أن مهارته هذه والتى لا يشكك فيها القاصي والدانى لم تغريه فى الدخول إلى تشعبات التفاصيل ، والتى تغرى العديد من طارحى هذا النوع من المفاهيم . فكامل همه ينصب على الغاية من طرحه والقصدية من صياغته . كما أتت العديد من منحوتاته حالة من حالات ا?ستعراض لممارسة فلسفته ، وقد أتت الكتلة لدى الفنان / محمد العلاوى محافظة على النسبة والتناسب . ويعد هذا التنسيب المتقن بمثابة المعادل لعدم وجود التفاصيل ، كما يعد بمثابة الموازن الذى ينتج جملة التعبير فى طرحه . كما يدل هذا التنسيب المدروس
على تلك المرجعية وا?نتماء للمدرسة المصرية القديمة والعتيقة ، والتى لا تتهاون تجاه النسب
والمقاييس. وإن كانت الملامس قد ألقت بظلال أوروبية بمذاق تجريدى على منحوتاته . فمنحوتة الرائع / محمد العلاوى منحوتة جامعة بين رصانة المدرسة المصرية القديمة ، وبين الحلول ا?وربية المسحة من جهة . وبين التعبيرية المرمزة الهادفة والرامية إلى إيضاح المعنى ، وبين فلسفته الشخصية ووجهة نظره فى هذا الطرح من جهة أخرى . وهى أيضا من المنحوتات ذات القابلية للصياغة فى شكل صرحى . بل نشعر معها بضرورة وجودها فى هذا الشكل الصرحى علها تحدث التغير فى واقع عكف على ممارسات عقيمة ، أدت به إلى الركود والبلادة والتأخر عن ركب المسايرة لجملة الواقع ومدنيته الزاحفة نحو الغد
والحديث عن تجربة الفنان / محمد العلاوى لا يزدان إلا بتناول أعماله والتى أجدها تحمل بلاغة تعصى على المفوهين وأصحاب الديباجة والصياغات . فهى بمثابة عصارة الفلسفة الخاصة بموضوع الطرح . كما أن الحديث فى منحوتاته يعد حديثا مرادفا لعنونة دسمة ، يليها شرح وافى وإستباط مرن ، يناسب ما لدى المتلقى من إشكاليات ملحة . سواء كانت إشكاليات تربطه بجموع محيطه ومجتمعه ، أو إشكاليات تحمل خصوصية فى داخله . وقد تفاوتت أطروحاته بين تلك ا?طروحات ا?نسانية المحضة . والتى أطلقها من واقع فلسفته الحياتية المحمولة على تراكمات تحصيله الفنى والثقافى . وبين أطروحاته المتفاعلة مع واقعه ا?جتماعى وما يعج به من أحداث سياسية ومجتمعية . وقد وقع إختيارى على ثلاث نماذج من منحوتاته لتناولهم بالقراءة ومحاولة الوقوف على ما تعبر عنه من واقع فهمى والذى لا أدعى قصدية الفنان / محمد العلاوى لهم . حيث أننى أرى فى أطروحاته تلك المرونة والتى تمنح المتلقى تعددية التفاسير وتنوع ا?سقاط . حيث أن أطروحاته من نوع تلك ا?طروحات التى تناسب القراءة والتأويل فى كل الثقافات وعلى مر وإختلاف العصور ، فأطروحات / محمد العلاوى هى أطروحات إنسانية فى المقام ا?ول . وتستعمل بصر المتلقى كجسر لتخاطب فيه عقوله وضميره .
والنموذج الأول : والذى تمثله تلك المنحوتة الرائعة ( والتى تمثل طائرا يختطف إمرأة ) . والذى يمثل من وجهة نظره تلك المرأة التى ترادف مصر . وذلك الطائر الذى باغت تلك السيدة التى يبدو من وضعية وقفتها أنها كانت تعتلى ربوة يراها الجميع . وجائت مباغتته لها لتفقدها توازنها وإتزانها . وقد برع الفنان / محمد العلاوى فى إختيار وضعية مشهد ا?ختطاف . فهو لم يذهب إلى وضعية سقوطها سقوطا كاملا جراء تلك المباغتة من ذلك الطائر ، ولم يذهب أيضا إلى فوز ذلك الطائر بما إختطفه . بل أوقف المشهد عند تلك الوضعية التى تحمل جملة مختلطة تتأرجح بين التوثيق للواقع ، والتنبيه نحو فعل ا?ختطاف وبين الحث على التصرف تجاه ذلك الفعل . وتأتى قصدية الفنان / محمد العلاوى فى طرحه مرنة وتحمل تأويلات يحددها المتلقى معه . فربما يرى أن رمزية الطائر هى تعبير عن تلك الجملة التى تدعى التدين وتحاول إختطاف مصر من هويتها وشخصيتها التى صاغتها القرون وا?زمان ، وربما يكون إختطاف الضمير والسلوك و معتدل المفهوم ، وربما يكون إختطاف المكانة والدور فى محيط جغرافيتها على الصعيد ا?قليمى والسياسى .....إلخ من تلك التفاسير التى قد تقع فى فهم المتلقى من جراء درجة إستيعابه ونوعية تأويله . والعمل من الجانب التشكيلى يضعنا أمام جملة نحتية تتسم بالرشاقة والتعقيد وا?تزان فى آن واحد . و تتناول فلسفة / العلاوى فى التعامل مع الكتلة من خلال وضعية إرتكازها والتى تخدم حركتها فى نفس الوقت ، وكذلك التعامل مع كثافة الخامة وسماكة القاعدة المنبثق منها ذلك النتوء التى تقف عليه المرأة بصورة مدروسة وواعية ينتج عنها جملة الثبات والتوازن . حيث أن إتساع الكتلة الطائرة من العمل والمتمثل فى عملية ا?ختطاف والتى تضم جسم الطائر وجسد المرأة قد تخدع العين وتشعرها بأنها أمام حيلة من جانب الفنان أدت إلى إتزان العمل . وقد أشعرنا / العلاوى بحركة العمل نتيجة مهارته فى صياغة الحركة الجمبازية الرشيقة للمرأة والتى تعبر عن ردة فعلها الفطرية لهجوم ا?ختطاف . تلك الحركة التى تنم عن قيمة المرأة وسابق خبرتها فى التعامل مع تلك الهجمات والتى أثبت التاريخ أنها دائما ما تفلت منه ولو بعد حين . والعمل فى جملته نموذجا رائعا فى غاية الرقى لطرح فلسفى ينسب لواقع حاصل . ويحمل حلولا مثقفة وواعية للتناول .
والنموذج الثانى : والذى وقع إختيارى عليه . هو ذلك العمل الذى يمثل جسدا يغطيه وشاحا يعيق رؤيته ، وهو يتقدم نحو ا?مام غير مهتديا لوقع أقدامه و مسار خطواته . وهو عمل من نوعية ا?عمال المرنة ا?سقاط . والتى يستطيع المتلقى أن يتعامل معها بصورة شخصية بحتة ، تعكس ما يواجهه شخصيا من معوقات وعقبات تحول بينه وبين وضوح طريقه نحو هدفه . والعمل يعكس من خلاله الأستاذ / العلاوى ثبات الشخص السائر فى ذلك ا?رتباك الناتج عن ذلك الوشاح ، ويعبر عن مدى تصميمه على المضى ورغبته فى المواصلة . وأن كانت جملة حجب الرؤية التى نتجت عن الوشاح تعوق تصميمه . والعمل جاء فى كتلة ذات مسحة عالمية فى ا?سلوب ويصعب تأصيلها لمدرسة بعينها . بقدر ما يسهل فهم مغزاها وفلسفة طرحها . وجائت بصمات ا?ستاذ / العلاوى وآثار أصابعه الواضحة على الكتلة بمثابة تلك التموجات التى أحدثتها رياح الصعاب والمعوقات والتى لا يستطيع الشخص السائر رؤيتها ولكنه يشعر بها ، وكأنه يتعرض لفعل فى ظلام ولا يستطيع أن يجابهه بردة فعل مناسبة لدرءه . ومارس ا?ستاذ / العلاوى هوايته فى إحداث ا?رتكاز للكتله من خلال نقطتين يمثلان قدمى الرجل السائر . واللتان تحملان تلك الكتلة التى تشع بالحركة والمقاومة والتصميم على المضى . والعمل فى مجمله جملة مختزلة لطرح واسع مرن ينم عن موهبة فى صياغة وبلورة فكر الفنان وفلسفته .
أما النموذج الثالث : وهو ذلك النموذج الذى يضم تلك ا?حجية الثلاثية . والتى يمثلها ثلاثة شخوص وثلاثة كتل حجرية . الأول من جهة اليمين يدفع حجرا ليسقطه على ذالك الثانى فى ا?سفل ، ويقابله شخص ثالث يجتهد فى أن يمنع الحجر من السقوط على ذلك الواقف فى ا?سفل ، فى حين أن هذا الجاهل الواقف فى ا?سفل يكد فى دفع الحجر الذى يقف عليه الثالث ( المقاوم ) والمانع لسقوط الحجر عليه بعيد عن فعل المقاومة ، وهى أحد أطروحاته التى تعكس مأثورة ( ما قل ودل ) . وهى واحدة من المنحوتات التى تحمل معها ما نستطيع أن نطلق عليه مجازا نموذج ( السم والترياق ) ، فهو يضعنا فى هذا العمل المتعدد المفاهيم أمام جملة الحقيقة المرة التى نعيشها ونتعايش معها ، بل وننخرط فيها . فجميعنا لا نعرف طريق التضافر ولا العمل فى فريق . ولا نمهل أنفسنا المتمردة فرصتها فى مجرد التفكير أو التنظير على سوء فعلها لعلها تعيد النظر فيما تفعل . فجميعنا من الخاسرين أعمالا ونحن نعتقد بأننا نحسن صنعا . فحتى هؤلاء الذين يجتهدون فى أن يدفعوا عنا شرا نجد أنفسنا نجتهد فى القضاء عليهم والنيل منهم . فجميعنا يعمل عكس ا?خر . ولتصحيح هذه المعضلة الناجمة عن مجموع ما لدينا من كبر وغرور وإعتقاد الصلاح وحسن التصرف . كل ما علينا فعله هو مجرد التوقف والنظر إلى ما يحيط بنا . فنجد أن تصحيح المسار هو أهون من المضى فيه . والعمل غاية فى التعبير عن جملة ا?هتراء الحاصلة . كما أنه يطرح الحل بمجرد فعل ( عكس الفعل ) . أما من الناحية التشكيلية . فالعمل نموذج فى بساطة التشكيل المثير للدهشة والمنتزع للإعجاب . فقد حمل مباشرة واضحة . وكذلك حمل حالة من التنسيب الرائعة والتى أشعرتنا بتلك ( التراجيديا ) الحياتية والمجتمعية . وهو من وجهة نظرى واحدا من أهم ا?طروحات الفلسفية والتى صيغت من خلال فن النحت المصرى المعاصر . رغم ما فيها من بساطة التشكيل وسهولة الحلول والصياغات ، وهو يثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الأطروحة الجيدة ليست بالضرورة حاملة لتفاصيل معقدة ومبالغات فجة وإستعراضات لا طائل منها .
إن تجربة الفنان الكبير / محمد العلاوى هى أحد تلك التجارب الفنية التى تطرح نوعا مختلفا من الصياغة والتناول لفلسفة المبدع . والحلول والمعالجات لفكره وفلسفته سواء فيما يخصه من طرح ، أو فيما يربطه بواقعه ومحيطه ومجتمعه . ويرتكز فيها على ما وقع فى أتون شخصيته من ثقافة ومرجعية وتأصيل للمفاهيم وقيمتها وغرضية وجودها . وهو طرح يخاطب فى البشر إنسانيتهم وضمائرهم وعقولهم فى المقام ا?ول ، وهو أيضا من نوع ا?طروحات التى تقدم ا?حجية الهادفة والرامية إلى إحداث الفارق من خلال التذكير أو التنبيه أو عرض أصل ا?شكالية من خلال سياق خاص بها . وهى حالة إستثناء وتفرد فى ا?سلوب . وتتخذ من البساطة جسرا للعبور نحو ضفة الفلسفة وتراكبيتها وما تطرحه من حكمة وحب معرفة وإيجاد حلول شخصية ومجتمعية من خلال محاصرة مشكلات وطرق التفكير والتى ينجم عنها العقبات والمعوقات للفرد والمجتمع المحيط . إن تجربة الاستاذ الكبير / محمد العلاوى ما هى سوى أطروحة دسمة أرضيتها الفلسفة الهادفة وسقفها البساطة السهلة ونتاجها جملة حكمة بالغة ..
**
سبتمبر 2016