القاهرة 27 يوليو 2016 الساعة 01:42 م
كتب :طارق إمام
لا تنتظر أن تجد خارجك
ما لم تبحث عنه قط داخلك.
شمس الأماكن الأخرى ليست أكثر جمالاً،
مهما كانت بعيدة:
ما يهم هو الضوء
الذي يمنح حياةً لعينيك.
لا ترهق أيامك في اجتياز بلاد بحثاً عن عوالم أخرى.
لا تتأخر في بدء الرحلة إلى داخلك.
ليس من المستبعد أن الوقت قريباً سيكون متأخراً
لستَ قريباً من نفسك كما تظن،
وليس لديك الكثير من الوقت
كي تكتشفك وتغزوك».
ست عشرة مجموعة شعرية، كتبها الشاعر الإسباني الشهير «أنخل جيندا» (1948)، في مسيرته الشعرية الممتدة لنحو ثلاثين عاماً. وبرهافة، يلتقط الشاعر والمترجم المصري أحمد يماني مختارات دالة من بين هذه المجموعات، ليقدمها للقارئ العربي تحت عنوان «جئت إلى الحرب متأخراً» (دار ميريت، القاهرة). الشاعر الحاصل على جائزة الآداب الأراجونية، ولد في سرقسطة، وظل مقيماً بها قرابة الأربعين عاماً، حتى قرر في العام 1987 أن ينتقل إلى مدريد، ليبدأ مرحلة مختلفة تماماً في شعره، حيث أضافت المرحلة المدريدية لشعره كما يقول «يماني» في مقدمته «بعداً أكثر وجودية وانشغالاً بالقلق إزاء الشعور بالوحدة ومرور الزمن». بدأ جيندا حياته الشعرية بديوان «حياة نهمة» (1980)، في ما صدر آخر دواوينه قبل شهور قليلة بعنوان «كاتدرائية الليل»، وهي القصيدة التي تضمها المختارات العربية.
في القصائد التي ضمتها المختارات، تبرز بوضوح صورة الشاعر كوسيط دائم بين عالمين: الواقع/ الحلم، المشهد الظاهري/ الواقع الداخلي، وأخيراً الحياة والموت. كما لو كان الشاعر يضع ساقاً في الدنيا وأخرى في الآخرة، ليخلق واقعاً شعرياً يقع دائماً في المسافة المضببة بين وجودين. وفي تلك المسافة، لا يكف الشاعر عن التساؤل (الصيغ الاستفهامية هنا تجرب في أكثر تجلياتها شعرية)، «أنا المرسال بين العالم والموت/ أتهادى فوق جسر الأصداء./ معتم هو الظل، لكن بالغة الوضوح كلمة ظل./ (في واحد من هذه السطور يظهر ويختفي الشعاع)/ العاصفة تلتجئ إلى داخلي./ اليوم أنام في السطح/ أرقب السرير/ إذا تحرك موتي فسوف أقذفه بالزجاجة في كبده/ المنصات ترتعش في رأسي/ كيف الخروج من هنا؟».
ثمة «بساطة مُفارقة»، مثلما يكتب الشاعر والناقد الإسباني الشاب «بابلو خابيير بيريث لوبيث»، (1983)، في واحدة من قراءاته لعالم جيندا الشعري، والتي ترجمها يماني كتوطئة للنصوص. يصف لوبيث الشعر لدى جيندا بأنه «يقبع خارج الورقة، في طريقه للوجود ووطء الأرض والطين. بشعره وكذلك بشخصه يمكننا التفكير في شعراء اليونان القديمة الذين كانوا يفكرون في الجمال ليس بوصفه فقط طريقة في الكتابة بل في العيش وخاصةً في المحاورة. عندما يحكي جيندا إحدى الطرف فإنني أعتقد في الشاعر الذي يعرف كيف يكون وكيف يوجد في الآخرين ويربط المختلف بالصوت».
الهم الوجودي، يبدو رازحاً على كافة قصائد الشاعر، على اختلاف المراحل التي كُتِبت فيها، فبين قصائد مبكرة وأخرى متأخرى، لا يكف هاجس مساءلة الوجود عن الحضور. يبدو الشاعر كأنما يرغب في إجابة مستحيلة عن سؤال نابع من مخيلة الطفولة المنسية: ما هو العالم؟ سؤال بسيط غير إن محاولة الإجابة عليه لن تحيل إلا لمتاهة من الطرق المتقاطعة التي لن تؤدي في نهاية المطاف سوى لمتاهةٍ جديدة. «داخل هذه الزجاجة يتسع البحر/ داخل هذه الزجاجة تترنح السماء/ داخل هذه الزجاجة ذباب يرقص/ كطائرات هليوكوبتر مقصوفة/ داخل هذه الزجاجة يمطر الغياب./ جدرانها الدائرية تشوه وجهي،/ تحودب جبهتي، تفتح حدقتي:/ ثمة عواصف من ضربات فؤوس في ثفلها./ داخل هذه الزجاجة ثمة الفراغ/ الذي به أمتلئ حينما أشرب وأشرب./ مهجورة كي يعاد تدويرها/ أنا هذه الزجاجة».
الاتحاد بالأشياء و«العبلامات» ملمح آخر من ملامح تصور الشاعر عن العالم، فهو قابل للحلول في أية صورة يمكن أن ينعكس العالم على وجهها كاشفاً عن قبس من وجهه الشاسع. وبهذه الطريقة، فإن العالم برمته قابل للظهور في صورة مختلفة تماماً عما ظنناه العالم الاعتيادي في صيرورته اليومية، ومجدداً يعود الشاعر لمخيلة الطفولة كي يستعير منها «شكلاً» للعالم يقيم قطيعة مع الاعتيادي، وهنا، بالذات، تحتضر سرقسطة مجدداً كحاضنة لذلك الخيال الأوّلي أو الوثني: «وأنا طفل كنت أرى في سرقسطة خراتيت برأس رجال، رجالاً برأس مسدسات، رجالاً برأس كبش، برأس ثور، برأس هجين، رجالاً برأس عنيد، برأس كبير، بشراً بالرأس في القدمين. نعجات برأس امرأة، نساء برأس مهد، نساء برأس غزالة، نساء برأس موقد، نساء بالرأس بين اليدين. قطعاناً من النساء والرجال برأس بلا عينين، بلا فم، بلا أذنين، بلا أنف. رجالاً ونساء بلا رأس ورأساً تدور عبر الشوارع».
هل نحن أمام شاعر ملعون؟ سؤال يقترح له لوبيث إجابة عندما يقول: «من يتحدث مع آنخل جيندا يتعلم بديهة لا يمكن تحاشيها. كلما كان الشاعر ملعوناً أكثر كلما كان أكثر رفقاً، أكثر طيبة وأكثر كرماً. من يبحث عن صديق هو من يؤوي عزلة أكثر، ربما يواصل جيندا بشعره البحث عن الآخر، الوجه الصديق الذي يزيح عنه رمادية الوحدة وفي ذلك البحث الذي هو أيضاً مفارق ثمة كذلك العتمة. ومنذ «حياة نهمة»، منذ شعره المبكر يبدو أن جيندا وصل إلى نضج شعري ودون أن يترك تضمين الألم، يبدو أنه يجتازه في الآخرين بأناقة الحكمة الشعرية المكتنزة
شرفات /عمان