القاهرة 24 يوليو 2016 الساعة 12:05 م 

  كتب:  د. عادل زكى   

فى إحدى ليالى الشتاء الباردة، كنت أستعد للعودة إلى منزلى لتناول وجبة العشاء، وكنت فى هذا اليوم فى شدة الإرهاق وفى شدة الجوع عندما أوصلتنى سكرتيرتى بمكالمة تليفونية من أحد المستشفيات، وكان المتحدث طبيبا صغيرا، وبادرنى قائلا: «أنا الدكتور (أحمد).. أعمل فى الرعاية المركزة للمستشفى.. هل تعالج مريضا يدعى (دكتور سمير)؟.. هو يعانى من جلطة حادة بالقلب.. حالته سيئة.. هو دائم السؤال عنك.. أعتذر لهذا الإزعاج، ولكن هل تستطيع الحضور الآن؟».

وأحسست بتقلص فى معدتى وأنا أسأله: «.. تعنى الدكتور سمير طبيب الأسنان؟ قطعا.. أنا فى الطريق إليكم.. أرجو أن تأخذ كل الحيطة فى علاجه.. فهو صديق عزيز قبل أن يكون مريضى».

وعندما شعر من صوتى بأهمية المريض عندى، تبدلت نبرات صوته إلى نبرة الحذر وكأنه يحضرنى لإعلان وفاته: «.. حالته سيئة.. لقد فقد الوعى تماما وعانى من توقف القلب بحجرة طوارئ المستشفى، وقمت بعمل تدليك خارجى للقلب، وأعطيناه عدة صدمات كهربية حتى استرد الوعى.. ولكن هناك اختلال شديد فى نبض القلب.. القلب توقف عدة مرات.. لقد مر الآن أكثر من ساعتين.. حالته غير مستقرة بالمرة».

وكنت شاردا فى تفكيرى وأنا أقود سيارتى فى شوارع القاهرة المزدحمة، وكنت أحدث نفسى بأفكار متضاربة مبتورة ومتلاحقة: «.. لم يكن يعانى من أى مشاكل بالقلب.. شىء غريب.. لماذا ذهب إلى هذا المستشفى الصغير؟.. أظن أنه فى أوائل الخمسينيات.. أظن أن عائلته تعانى من القلب.. لكن.. هو فعلا صديقى.. نعم هو رجل لطيف.. أشعر بأن زوجته تتحاشانى.. أخوه.. أظن أن اسمه.. لا أذكر.. آه.. مات وهو صغير السن.. أنا فعلا أشعر بالجوع.. متى كانت آخر زيارة له فى عيادتى؟».

وعاودتنى الكآبة من كلمات طبيب الرعاية لتدفعنى للتفكير فى احتمال وفاته: «.. آه.. لقد طلب «سمير» منى أن أتركه يموت فى سلام.. لا لأجهزة الإنعاش.. لا تنفس صناعى.. أن أموت فى منزلى.. هل أتركه.. لقد وعدته.. لا أعرف الآن.. قال إنه لا يريد أن يشعر بآلام الموت.. أن يموت فى سلام.. بدون ألم.. وبدون أجهزة.. ولكن.. يا ربى ماذا ينتظرنى؟ أنا جائع.. لماذا اختار السيد سمير هذا اليوم ليموت؟ هل أزيد من جرعة المورفين حتى لا يشعر بألم؟ من الممكن أن أقول إن حالته ميؤوسً منها وأطلب إليهم أن يتركوه.. لقد اقتربت من المستشفى.. آه.. أين سأوقف سيارتى؟».

ووقفت زوجته فى مدخل المستشفى وهى تشب على أطرافها وتتمايل كغصن شجرة فى مهب الريح لتتحقق من حضورى وبادرتنى بصوت فيه رعشة: «عندما شعر بآلام فى صدره أخذته فى سيارتى فى الحال لأقرب مستشفى، لقد طلب الاتصال بك.. هنا طبيب صغير أنقذه من الموت.. لقد رأيت ذلك فى حجرة الطوارئ».

وسكتت لبرهة ثم أكملت: «.. لم يكن يعانى شيئا فى الفترة الأخيرة.. واليوم عندما شعر بهذه الآلام طلب أن أحضرك لتكون معه..».

فأكدت قولها: «.. أنت تعلمين أنه صديقى قبل أن يكون مريضى.. وأنا فعلا أحبه».

وترقرقت عيناها بالدموع وقالت: «.. نعم.. نعم.. ولكنه شدد على، وهو يعانى من كل هذه الآلام بأن أقول لك حرفيا إنه يريدك إلى جواره لحظة وفاته.. وأن أذكرك باتفاقه معك.. يا دكتور.. ما هذا الاتفاق؟ لقد أعاد هذه الجملة أكثر من مرة.. وأكد على.. ولكن.. أرجوك أخبرنى.. هو رفض أن يخبرنى.. وهل هو يموت فعلا الآن؟».

وأخذت تحدق إلى كأنها تريد أن ترى ما بداخلى، وتعمدت أن أسرع من خطوتى وهى تهرول خلفى وتمتمت وأنا أدفع باب الرعاية المركزة قائلا: «.. اتفاق.. نعم هناك اتفاق.. اطمئنى.. ربنا معنا».

وحضر الدكتور (أحمد) إلى متهللا، وأخبرنى بأنى كنت أدرس له بكلية الطب، وأشدت به لبراعته فى إنقاذ مريض كان على شفا الموت.

وبادرته قائلا: «هل تسمح لى بأن أكشف عليه وأن أساعدك فى علاجه؟».

وكانت الأفكار تتداخل فى نفسى وأنا أتذكر كلمات الدكتور سمير وتأكيد زوجته على «الاتفاق».

وقبل أن أقوم بالكشف عليه أخذنا نناقش بطريقة منهجية حالته من قراءة لرسومات القلب، التحاليل المختلفة ولماذ تتكرر نوبات اختلال وتوقف القلب، ما التشخيص المبدئى؟ وما الخطوة القادمة؟

وفوجئت بأنى أسأله: «.. هل تظن أنه لن يكمل.. أعنى سيموت؟».

ونظر إلى بحيرة وقال: «.. أعتقد أن الأمل ضعيف.. قلبه توقف أكثر من مرة.. وفى كل مرة كنت أظن أنه لن يفيق.. حالته الآن نسبيا مستقرة ولكنى لا أعلم! أنت أكثر خبرة منى..».

وكانت تقف إلى جوارنا رئيسة الممرضات وقاطعتنا بصوت مرتفع: «.. قطعا لا أمل.. انسوا مبدأ أنه سيعيش.. لقد رأيت مئات الحالات مثله.. هى مسألة ساعات..»، وسكتت عندما لم تجد أى تعقيب منا.

ووجهت حديثى إليه قائلا: «ما إمكانيات هذا المستشفى، أعنى حجرة لقسطرة القلب، تركيب منظم لضربات القلب و...؟».

فضحك وقال: «.. هذا مستشفى أساسا لأمراض النساء والولادة.. لا.. لا توجد إمكانيات المستشفيات الكبرى.. كنا سننتظر حتى تستقر حالته وننقله إلى مكان متخصص».

وقمت بالكشف على الدكتور سمير، ونظرت إلى طبيب الرعاية وبدأت أتكلم بطريقة تلغرافية: « الدورة الدموية مستقرة.. هو نائم من آثار المهدئات.. حروق الصدر بسبب تعدد الصدمات الكهربية.. يوجد كسر أمامى بالضلع الرابع والخامس الأيسر وهذا أيضا من أثر التدليك الخارجى للقلب.. ولكنى أرى بعض الدماء على شفتيه.. ما هذا؟ لقد انكسرت السنتان الأماميتان.. هل احتجتم للعنف لإدخال أنبوبة فى القصبة الهوائية،.. أم أن هذا بسبب أحد أدوار التشنج التى قد نراها إذا توقف القلب».

وأكملت وأنا أكلم نفسى: «.. هو طبيب أسنان.. لقد أنقذتم حياته.. وكسرتم أسنانه.. أعتقد أنه قد مر بتجربة سيئة.. ماذا سأقول له إذا لم يمت؟».. وتوجهت للدكتور أحمد قائلا: «ماذا أعطيته من الدواء؟».

فقال لى وهو يختصر أسماء الأدوية: «.. أعطيته (ستربت..، زيلو..، ماج..، أميو، بى كارب.. و... و...».

وكنت أجلس وحدى فى مكتب صغير له واجهة زجاجية كبيرة تطل على الرعاية المركزة، وحضرت رئيسة الممرضات وهى تبتسم كأن لها معرفة طويلة بى وقالت: «.. يا جميل.. يا قمر.. أظنك جائعا.. سأعد لك كوبا من الشاى، وعندى بعض البسكويت.. يا حبيب قلبى، كم مضى عليك بدون طعام؟». فابتسمت بدون أى تعليق، فأكملت وكأنها تعتذر: أنا آسفة على نوعية هذا الطعام، كنت أتمنى أن أطعمك بنفسى مما أصنعة بيدى،.. أنا «طباخة» ممتازة. فإبتسمت وأنا أنظر خلسة إلى جسدها شبه الممتلئ قائلا:.. فعلا.. هذا يبدو واضحا!!

ولاحظت كثرة دخولها وخروجها للغرفة، وكانت تكلمنى أو تتحدث إلى نفسها بصوت عال، مما منع جفون عينى الناعسة من متعة الإنغلاق. وسألتها بطريقة مباغتة:.. وماذا يعمل زوجك؟ فترددت قليلا، وقالت وهى تحنى رأسها تجاه كتفها بدلال:.. أنا آنسة!.. آه.. والله آنسة!!

وعندما رأت نظرات الدهشة والشك على وجهى استطردت بصوت منخفض: مطلقة.. تزوجت مرتين.. ولكنى طبعا أكتب تحت خانة اللقب فى أى أوراق رسمية كلمة «الآنسة»!!.. وهل فى نظركم أن كلمة آنسة تعنى «بنت بنوت» فقط.

وبدت نظرة غاضبة على وجهها وهى تستطرد:.. أنا إنسانة سيئة الحظ مع الرجال ويمكن أن تطلق على من تزوجت بهم أنهم لا ينفعون إلا فى سلة المهملات.. كل منهم لا يساوى.. آه.. ما هذا؟.. ماذا يحدث؟.. وتوقفت وأدارت وجهها بهلع وهى تنظر من النافذة الزجاجية إلى داخل الرعاية، فاستدرت مثلها لأرى ما يحدث، وكان الجميع يجرى فى اتجاه سرير الدكتور سمير، ووقفت مثلها، ولكنها استدارت وهى تجرى من باب الحجرة قائلة:

«.. قلبه توقف.. صفارة جهاز (المونيتور)».

وكان الدكتور أحمد يقوم بالضغط على صدر الدكتور سمير، وعندما رآنى قال:

«بماذا تأمرنا لنفعل.. وما الخطوة التالية يا سعادة البيك؟».

فأجبته: «.. أنت الآن الرئيس، وأنا هنا لأساعدك.. لا ينفع أن يكون هناك أكثر من رئيس واحد فى المواقف الحرجة..»، واستدرت فى اتجاه جهاز المونيتور لأرى خطا مستقيما معلنا أن القلب قد توقف تماما.

وأخذ الطبيب أحمد يصدر أوامره: «.. احقنى أدرينالين.. ماغنيسيوم.. بى كارب.. اشحنوا الجهاز.. اشحن الجهاز.. اشحنه.. يا (حسن).. يا غبى.. أين أنت.. مائة جول.. لا يلمس أحد المريض الآن».

وكأن هناك ساحرا أصدر أوامره للقلب ليعمل، فتوقفت صفارة المونيتور، وبدأ يصدر صوتا لدقات القلب الرتيبة، واستدار تجاهى وعلى وجهه علامات الثقة والانتصار وقال: «.. لقد حدث هذا لأكثر من عشر مرات خلال الساعات الماضية.. اختلال بالنبض.. توقف للقلب.. تدليك خارجى للقلب.. تنفس صناعى.. كل ما تتصوره من أدوية، ثم صدمة كهربائية.. إنه محظوظ، فأنا أعتقد أنه يموت.. ثم يعود إلينا من الموت.. هاء.. هاء».

وتوقف قليلا ثم أكمل: «كأننا فى لعبة ما، ولا نعرف متى ستنتهى ومن الفائز ومن الخاسر فيها..»، واستدارت رئيسة الممرضات لتقول: «.. متى ستنتهى محنته.. ومحنتنا نحن أيضا.. الشاى قد برد.. تفضل معى».

وعندما عدت إلى الغرفة الزجاجية ومعى الطبيب لاحظت أنه يتابع بنظره رئيسة الحكيمات وهى تنصرف حتى اختفت خلف أحد الستائر المحيطة بالأسرة واستدار تجاهى كأنه يريد أن يفشى سرا ما، وقال بصوت منخفض وهو منحنٍ تجاهى: أنا آسف.. ولكنى أحذرك من «ميس نعمة».. رئيسة الحكيمات.. هى امرأة سيئة.. فعلا سيئة.

فنظرت إليه بدهشة حقيقية قائلا:.. سيئة.. هذا إجحاف فى حقها.. أنا بخبرة سنين عمرى كلها أجدها أكثر من ممتازة.. فهى تعرف عملها، فى غاية النشاط ولها شخصية قيادية، والرعاية فى غاية الانضباط.

وقاطعنى قائلا:.. نعم كل هذا صحيح، وهى فى الرعاية بأكثر مائة رجل، ولكن.. أعنى أنها سيدة «مزواجة».. أتعلم أنها مطلقة للمرة الثالثة أو الرابعة!! لا أحد يعلم عدد زيجاتها!.

فقلت: وهل فى تفكيرك لأنها مطلقة لأكثر من مرة يعنى أنها امرأة سيئة؟.. لا يوجد أحد يعلم بالظروف المحيطة بزيجاتها.. وأعتقد أن مسؤولية الزواج والطلاق لا تقع عليها فقط ولكن أيضا على من وافق على الارتباط بها.. وأنا أنصحك بألا يكون حكمك على أى من العاملين بخلط الكفاءة والأمانة فى العمل مع حياته الخاصة، وطبعا هذا يشمل اختلاف الأديان.

واستطردت ضاحكا: وهذا يدعونا للسؤال المحير دائما: ما هو تعريف أهل الثقة وأهل الخبرة؟ ففى رأيى أن الأول تحبه لأنه ببساطة غالبا غبى ينتظر وامرك، والثانى زكى تخشاه لأنه غالبا سيزيحك ليأخذ مكانك أو مكان من تحب..!. يجب أن نثق بأنفسنا، وفى قدراتنا ولا نغلب مشاعرنا وحكم العاطفة على العقل.. وقطع حديثنا عندما دخلت رئيسة الحكيمات قائلة:.. دكتور أحمد.. سرير «6».. «المدير» المشلول.. لاحظت الآن بدايات قرحة الفراش.. وطلبت «مرتبة مائية» له.. خزانة الأدوية.. ينقصها...،... و... آه... وسأستبدل الممرضة «الحلوة الدلوعة».. بأخرى لأنى.

ونظرت تجاهى كأنها اكتشفت أنى معهم هذه الليلة قائلة:.. آه.. الدكتور سمير حالته شبه مستقرة وتركيز الأكسجين من 85 إلى 94 بالمائة فى دمه.. آه.. أرجو يا دكتور أحمد أن تأتى معى للكشف مرة ثانية على سرير «3»، لأن صوت تنفسه لا يعجبنى.. أخشى من جلطة دماغية جديدة.

وفى أثناء انصرافهما من الغرفة أبطأت قليلا فى خطواتها حتى يسبقها الدكتور أحمد، والتفتت إلى وهى تبتسم قائلة:.. آه.. أظن أن الوقت المتبقى لمريضك معنا لن يزيد عن ساعة أو ساعتين، ثم سنفرج عنك بإذن الله.. هاء.. هاء.. وضمت شفتيها كأنها ترسل قبلة فى الهواء!!

ودارت الأفكار بكل جوارحى، عندما كنت أجلس وحدى فى حجرة المكتب الصغيرة، هل الدكتور سمير يتألم الآن؟ كسر فى ضلعين بصدره.. أسنانه.. ولكنه مخدر الآن.. لقد اتفقنا.. لا لأجهزة الإنعاش ولا.. ولكنه لم يمت.. ولكن لو تركناه أو تراخينا قليلا.. قطعا سيموت.. ما وعدى له.. أن يموت فى سلام.. ولكن هل هو الآن يعانى آلام الموت.. يا «ربى» متى سأتوقف؟.. وهل فعلا يجب أن أتوقف كما وعدته؟!

وانقطعت أفكارى عندما حضر الدكتور أحمد وبعض زملائه ومعهم بعض الأطعمة وسألته بقلق: «هل قابلت زوجته؟».

فقال: «نعم، هى لم تفارق باب الرعاية الخارجى، وتسأل عنك».

فأطرقت قليلا قائلا:.. لقد قابلتها مرتين.. وهل تتصور أنها تقريبا تتهمنى بالتقصير فى علاجه ومتابعته فى الفترة السابقة؟!.. لقد طلبت منى أن أسمح لها بإحضار عشرة أطباء قلب لعمل «كونسولتو» كما قالت لتتأكد من صحة تشخيصى وعلاجى لحالته!!

وأكملت وأنا أبتسم:.. وفى مثل هذه الحالات الحرجة يجب أن تبتلع كرامتك وتطبق مبدأ «الزبون دائما على حق».. لقد عرضت عليها بطريقة جدية أسماء عدد من الزملاء بأرقام تليفوناتهم.. والطريف أنها لم تهتم بتدوين أسمائهم، ويبدو أن موافقتى على رغبتها هو ما أعطاها بعض السكينة والاقتناع بكفاءتى.. ولكنها كانت تبكى وأخذت تردد أنها كانت تخشى أن يكون اتفاقنا الذى ذكره زوجها أكثر من مرة هو أن أتركه ليموت إذا تدهورت حالته الصحية!!.. وطبعا هذا ما أنكرته بشدة!!

وأكملت: «.. ولكن ماذا قلت لها؟ حتى نتفق على ترديد نفس الكلام!».

فقال: «.. قلت الواقع.. وهو إن حالته فى غاية السوء.. وإننا نفعل كل ما بوسعنا لمساعدته».

ونظر إلى زملائه الأطباء، وهم يأكلون، وقال بمرح وهو يحرك يديه كأنه يتكلم بهما: «.. طبعا قلت لها إن حالته سيئة.. إذا فشلنا فى علاجه، ومات فأنا قد أخبرتها.. وإذا عاش، فسأصبح فى نظرها أعظم طبيب فى العالم.. هئ.. هئ.. هئ».

وبعد أن انتهوا من الطعام وقف الدكتور أحمد وقال لى: «.. أرجو أن تعذرنى.. فيومى لايزال ممتدا،.. سأستلقى على سرير فى حجرة الأطباء.. أنا هنا بجواركم.. ولكن لماذا لا تعود أنت إلى منزلك، وسنخبرك بتطور حالته فى الصباح».

فقلت له: «.. لقد وعدته أن أكون بجواره.. بيننا اتفاق.. آسف أقصد أنه صديق عزيز.. وهو...»، فقاطعنى: «اتفاق.. ما هذا الاتفاق؟».

وبدا على الحرج وأنا أقول: «نعم.. اتفقت معه أن أكون إلى جواره فى محنته».

ويبدو أننى قد غفوت لبضع دقائق وأنا جالس على مقعدى، ونظرت إلى ساعتى.. واكتشفت أنى نمت فى هذا الوضع غير المريح قرابة الساعتين وكنا قرابة الفجر.. وعندما رأتنى رئيسة الحكيمات أتحرك فى حجرة المكتب أسرعت إلى والسعادة تبدو على وجهها وقالت: «.. عندى لك خبر جميل مثل وجهك.. حالة مريضك مستقرة طوال الساعتين الماضيتين.. لقد بدأ يفيق من آثار التخدير.. ألا تريد رؤيته؟».

وعندما اقتربت من الدكتور سمير بدا كأنه نائم، وبجواره الدكتور أحمد يعدد لإحدى الممرضات ما استهلك من أدوات وعلاج. وهزت رئيسة الممرضات كتفه قائلة: «.. استيقظ.. ألم تمل من كل هذا النوم؟ طبيبك معنا هنا بالمستشفى..».

وعندما رآنى أمامه، تهلل وجهه وقال: «.. دكتورى العزيز.. لقد مضى وقت طويل لم أرك فيه.. ستة أشهر.. لا.. أعتقد أربعة أشهر عندما رأيتك فى أحد الأفراح..». وتغيرت ملامحه وقال: «.. لماذا أنا فى هذا المستشفى.. ولماذا أعانى آلاما بصدرى مع التنفس.. هل هذه حروق؟» فقاطعته رئيسة الممرضات قائلة: «.. هل نسيت ما قلته لك.. لقد أصبت بحروق فى صدرك عندما انسكب كوب الشاى عليك بالأمس.. وأحضرتك زوجتك إلى هنا..».

وكأنه اقتنع بما قالت فابتسم وانطلق فى حديث طويل وقال: «.. يبدو عليك الإرهاق.. يوجد مقعد بجوار سريرى.. لقد تذكرت حديثنا يوم حفل الزفاف.. كان عن نظرية (داروين) عن تطور الإنسان.. وأتذكر أنى قلت لك إنه يوجد تطور ملحوظ على مر التاريخ لكل المشاعر الإنسانية من حب وعاطفة وقسوة، بدءا من رجل الكهف إلى من صعد القمر.. ومع اختلاف دياناتنا.. فهناك تطور للأديان.. من وقت (إخناتون فرعون مبدأ التوحيد) إلى المسيحية والإسلام..».

وشعرت به يتوقف ثم قال: «.. دكتورى العزيز.. أين كنت بالأمس؟.. عيناك تنغلقان».

فابتسمت له وأنا أبذل كل جهدى حتى لا أبدو نائما، ويبدو أنه تصور أننى مللت حديثه فأخذ يتكلم فى أكثر من موضوع آخر ثم قال: «.. أخى (عاطف).. الرحمة عليه.. آه.. كم أحببته.. أظن أنى أخبرتك بمرضه.. وهل أخبرتك بيوم وفاته.. لم يتألم عند وفاته.. مات فى منزله.. نعم.. هناك اتفاق بيننا..» وسكت عن الكلام.

وأحسست بانقباض فى معدتى وقمت من مقعدى ثم أدرت رأسى فى اتجاه آخر كأنى أتابع مريضا آخر، ومرت بضع دقائق من السكون ثم من خلف ظهرى سمعته يوجه الحديث إلى: «.. لا أريد التشاؤم.. لماذا أكلمك عن ذكرياتى الحزينة.. هل سمعت آخر نكته.. آه.. كان فيه واحد صعيدى...».

وشعرت خلال لحظة من الزمن أنه توقف عن الحديث قبل أن تنطلق صافرة جهاز المونيتور معلنة توقف قلبه.

وانطلق الجميع تجاهه، وبدأوا الضغط على صدره والتنفس الصناعى، وفى وسط هذا (الهرج) سمعت الدكتور أحمد يقول: «.. حسن يا حبيبى اشحن مائة «جول».. لماذا لا يستجيب؟ مرة أخرى.. اشحن ثلاثمائة..»، ونظر تجاهى فقلت له أن يكرر الصدمات الكهربية، ومرت دقيقتان، ثم خمس دقائق، وكان الجميع يتبادلون الضغط على صدره، ومرت اثنتا عشرة دقيقة، وبدا الإرهاق على الجميع.

وكنت أشعر أن الجميع ينظرون إلى خلسة لأعطى أمر التوقف عن إنعاش القلب معلنا وفاته، فقلت بصوت مرتفع: «.. خمس دقائق أخرى.. ليصبر الجميع».

وفجأة تحول الخط المستقيم على جهاز المونيتور إلى نبضات قلب مسموعة ومتباعدة.. وقالت إحدى الممرضات «.. النبض عشرون.. لا.. إنه يتحسن.. أربعون.. تسعون.. إنه الآن مائة وثلاث وعشرون..»، وصاح الدكتور أحمد: «.. أوقفوا الضغط على صدره.. إنى أشعر بنبضات قلبه قوية.. أوقف التنفس الصناعى فصدره يتحرك.. أريد جهاز «التشفيط»..».

ومرت عشر دقائق وأنا جالس إلى جواره أراقب تعابير وجهه وهو ينتقل إلى مرحلة اليقظة الكاملة، وأحسست بقشعريرة فى كل جسدى عندما كنت أحدث نفسى بأن هذا الرجل مات.. نعم لقد مات.. وعاد من الموت.

وعندما فتح عينيه ورآنى بجواره بدت ابتسامة خفيفة على وجهه، فأشرت له بيدى ألا يتكلم وألا ينفعل، ولكنى لاحظت أن ابتسامته تحولت إلى ضحك خفيف متواصل، وأشار إلى لأقترب منه أكثر، ثم أكثر وكأنه يريد أن يبوح بسر خطير، ثم عندما كانت أذنى بجوار شفتيه قال: «.. آه.. نعم.. أنا لم أكمل لك نكتة الصعيدى..».

وفجأة أحسست بأرجلى تخور وأنا أجلس كمن يقع على الكرسى بجواره وكنت أنظر إليه بذهول.

وكنت أسير خارج باب الرعاية وأنا أقول لنفسى: مات.. فعلا لقد مات هذا الرجل.. مات وعاد من الموت.. ويكمل نكتة عن صعيدى.. لقد بدأ فى إلقائها منذ أكثر من نصف ساعة.

وقابلتنى زوجته لتسألنى عن أخباره وما الخطوة التالية، فقلت لها باقتضاب إن حالته تتحسن وإننا سننقله إلى مستشفى متخصص لعمل قسطرة قلبية واحتمال أن نركب له قسطرة بالّونية بشريان الأورطى ومنظما صناعيا لضربات القلب، وضحكت وأنا أقول لها: «.. أنا الآن متجه إلى سريرى.. سريرى بمنزلى.. اطمئنى لقد أعددنا كل شىء.. سيخبرك الدكتور أحمد بتفاصيل حالته وانتقاله لمستشفى آخر.. وسأراه فى المساء.. أرجو أن تعطينى بضع ساعات».

ونمت لأكثر من أربع ساعات، وعندما انتهيت من تناول طعامى تذكرت الدكتور (سمير) وما مررنا به فى الليلة الماضية، واتصلت بالمستشفى الجديد للسؤال عنه فحولنى موظف التليفونات لطبيب الرعاية المركزة.

وعندما سألته عنه، فوجئت به يقول لى: «.. أنا آسف يا دكتور.. المريض رفض أن تتابع حالته.. ويريد طبيبا آخر لمباشرته».

وبدت الدهشة على كلماتى وأنا أقول له: «.. هذا مريضى من عدة سنوات.. من طلب إليك إحالته لطبيب آخر؟ هذا فعلا شىء غريب.. سأتصل بـ...».

فقاطعنى قائلا: «.. أنا.. لا.. لم أفعل ذلك.. فعندما أخبرناه بأنه يحتاج لعمل قسطرة قلبية، سألنا عما حدث، وأخبرته بأن قلبه توقف لعدة مرات، وكيف أنه كان على شفا الموت.. وأن سيادتك كنت بجواره.. والمجهود الكبير الذى قمتم به، فانتابته حالة من البكاء الشديد، وعندما عادت إليه السكينة طلب إلى ألا يراك مرة أخرى.. وأصر على أن يتابع حالته طبيب آخر.. أنا آسف.. لقد رفض حتى مبدأ أن تقوم بزيارته.. أنا آسف يا فندم!!».

وسكت لبرهة وقال: «.. إنه يتهمك بأنك نقضت وعدك، وأنك لم تنفذ الاتفاق.. ما هو هذا الاتفاق؟.. آه.. هذه زوجته تقف بجوارى.. وتريد التحدث معك».

وكان صوتها عاليا يشوبه الانفعال وهى تقول: «ما هذا الاتفاق؟ لماذا أحرقتم صدر زوجى؟ لقد كان يحبك.. هل الاتفاق هو أن تسىء إليه؟ ويبكى عما 

فعلته به».

فقلت لها بهدوء: «.. أنا آسف.. آسف أنى آلمت زوجك.. صدقينى إنى عاملته كأنه أخى.. ما يهمنا هو حالته الآن.. يجب علينا جميعا أن نتحكم فى عواطفنا.. صحة الدكتور سمير هى أهم شىء الآن.. وطبيبه المعالج الجديد أكثر من ممتاز.. سنتكلم فى وقت لاحق عن كل شىء.. أعدك بذلك.. سلام..»، وأقفلت التليفون قبل أن أسمع أى تعقيب منها.

أتذكر هذا الحديث بعد أكثر من ثلاث سنوات من وقوعه، وكنت وقتها أتصفح جريدة الصباح عندما رأيت صورة الدكتور سمير بابتسامته المعهودة فى صفحة الوفيات، وغلبنى حزن عميق عليه، وقلت فى نفسى.. أتذكر أنه لم يرد آلام الموت.. ولعل طبيبه الجديد فى هذه المرة قد نفذ الاتفاق.

* أستاذ القلب- جامعة القاهرة