القاهرة 03 يوليو 2016 الساعة 11:36 ص
هناك لحظات تاريخية فارقة في حياة الأمم .. لحظات مفصلية ، تتبدل بها الأحوال ، وتصحح مسار تاريخها .. وكانت مصر على موعد مع تلك اللحظات .. وقد حدث ــ لأول مرة في التاريخ الإنساني كله ــ أن يعلن شعب عن ثورته قبل موعدها بشهور .. حدث هذا من شباب مصر قبل يوم الثلاثاء الكبير في الخامس والعشرين من يناير 2011 ، ثم تكرر قبل ثورة 30 يونيو .. وهي الثورة الثانية ، وليست موجة من الثورة الأولى .. ولأول مرة أيضا يفجر شعب ثورتين في زمن لايتعدى العامين ونصف العام ، وأن يخرج الشعب المصري كله ، بجمعه ، بأجياله ، وبطبقاته ، وبطوائفه ، بل بالصبا فيه والطفولة ، ملايين بعد ملايين ، وتقديرات الرصد وفقا لحسابات جغرافية المكان ، وعدد الأفراد في المتر المربع الواحد ، فإن هناك 22.3 مليون مصري خرجوا إلى الشوارع والميادين العامة ، يسحبوا الثقة من رئيس حكم مصر باسم جماعته وأهله وعشيرته .. وهذه هي القيمة العظمى لهذه اللحظة .
لقد حدث ما حدث بعد الثورة الأولى 25 يناير 2011 وإنتكاستها ، وتأزم الأوضاع داخل مصر ، سياسيا ، وإقتصاديا ، وإجتماعيا ، وحتى ثقافيا ، وبدأ السطو العلنى على هويتها ، وإرتفعت الأصوات الغليظة ، والفتاوى الجارحة لحرمة مصر ، وتحركت قوافل "الأخونة "
داخل مؤسسات الدولة وأجهزتها التنفيذية ، وتم توزيع الغنائم والأسلاب على الحلفاء من قوى التيار السياسي الإسلامي من " المتأسلمين " أو "الإسلامجية " لافرق في التسمية ، وتصدعت أركان وجدران المجتمع المصري ، وحدث إنقسام وشروخ ضربت بنيان وكيان الدولة التي فقدت هيبتها ودورها ، وجعلنا من أنفسنا نموذجا للرثاء أمام العالم ، حتى صدرت إحدى الصحف في جوهانسبرغ بجنوب أفريقيا بتاريخ 26 / 6 / 2013 بعنوان " مصر وسوريا .. تموتان " والصحيفة تعنى أن مصر وسوريا وبأحكام التاريخ والجغرافية معا ، هما ركيزة وقاعدة الأمة العربية ، وأن " الموت " يحيق بمصير الأمة !! وإذا كان العامل المشترك بينناوبين سوريا ، أننا إقليم واحد في دولتين ، فإن ما يحيط بنا من مشترك في الزمن الراهن ، هو
حركة جماعة الإخوان ، ومن معها من العشيرة من جماعات وتنظيمات إسلامية ، ومطامعها واحدة ، في الإقليم الشمالي "سوريا " ، والجنوبي " مصر " ، وبالتنسيق مع قوى خارجية معلومة ، وكل طرف حسب ما يريده ويطمح إليه !!
المهم .. أن العالم كان يرى ويسمع صوت الحقيقة من مصر ، فهو كان يرى حركتها البطيئة ، ويسمع صوتها " المجروح " ولايستطيع أن يترجم ما تقوله ، وضمن هذا المأزق لم يعد في مقدور أحد أن يتنبأ بما هو قادم ، وفي ظل أجواء من نوازل الفوضى على مصر ، فوضى
غير محكومة وغير منضبطة ، وإن كانت فوضى القمة أكثر من فوضى قاع المجتمع ، وأن الإنفلات الحقيقي في هذا البلد هو إنفلات السلطة ، وفراغ سلطة مخيف ، بإستثناء حركات "أكروبات " عشوائية ، تدعو للأسى والحزن والأسف!! وقد تصور كثيرون ، أن روح التغيير قد خمدت ، وأن طاقة البلد همدت وترهلت ، وأن تقسيم الغنائم والأسلاب قد أوشك على الإنتهاء ، وأن الكلمة العليا لازالت للدولة الأعظم " أمريكا " وبأكثر مما كان متصورا ، وبأكثر مما هو صحي .
وفي الصورة تبدو السفينة على وشك أن تجنح في الطمي ، وتحتك برواسب القاع ، وعلينا ــ وقتئذ ــ أن نتحمل تكاليف الخروج من الطين الرخو !! ومخاطر الجنوح التي نخشاها ، ونتحسب لها ألف حساب وحساب ، قد تطل علينا في هذه المرحلة مع ظروف لم تتمكن فيها مصر من المحافظة على مجرد وحدتها الشكلية !!
وربما كانت مصادفة ، عن قصد مقصود ، أن يتم عرض مسرحية ( بعد الطوفان ) قبل ثورة 30 يونيو بشهور قلائل .. والعرض المسرحي ، كان كاشفا للواقع، يعري جوانبه، ويحذر وينبىء بما هو آت .. وضم فنانين من كافة أطياف المجتمع ، فالمخرج ليبرالي ، والبطل إخواني ، وباقي الممثلين تتنوع إنتماءاتهم بين تيار شعبي ، وليبراليين ، ويسارين ، وأحداث المسرحية التي تم عرضها على مسرح " ساقية الصاوي " تبدأ بالبطل ( نوح ) وهو مستغرق في النوم مع أحلامه ، ثم جاءه من يخبره بأنه تولى حكم مصر بعد الثورة ، وفي إنتظاره طوفان سيقضي على الجميع ، وانشغل " نوح " بالاستعدادات لمواجه الطوفان فقط ، ولم يتفرغ لإصلاح البلاد ، وبناء مؤسسات الدولة ، وظل الحال على هذا النحو ، حتى بدأت الفوضى تضرب الوطن ، والإنشقاق يكسر وحدة المجتمع ..
و"نوح" لا يرى أمامه في الحلم إلا ضغوط اقتراب موعد الطوفان ، ولا شيئ غيره ، وكيف يقهر الطوفان ، ولا يستمع لكلام العامة وتحذيراتهم ، وبدأ يمارس سياسة الاستبداد ، وإدارة شئون البلاد بمفرده ، فهو لا يطمئن لأحد غيره في مواجهة الطوفان ، وحتى تقع الواقعة ،
وقام الطوفان ، وانتفضت الجماهير ، وتقرر نهاية " نوح " في الحلم !! والمسرحية التي قام بتأليفها وإخراجها وتمثيلها مجموعة من الشباب ، مستوحاة من عمل أدبي هو " عملية نوح " للكاتب على سالم ، ولكنها تتناول بالرمز وبصورة أقرب إلى الهزلية ، الواقع الراهن في بر مصر ، والصراع الدائر في الشارع السياسي ، وترسل رسالة مفادها ، أن الوضع المتأزم الذي نعيشه يحتاج إلى توحيد الشعب .. وحسب ما جاء في كلمة العرض : " الشعب هو صاحب الإرادة .. الشعب وحده يقهر أي طوفان " وأن الأزمة الراهنة قريبة من الحافة ، لكن إرادة الشعوب تحضر في اللحظة قبل الأخيرة ، وأن إرادة الشعوب هي " سفينة نوح " التي لم يدشنها أصلا في المسرحية وغابت عن أحداثها !!
وفكرة المسرحية تقول بأن الشعب المصري بحسه التاريخي ، يدرك تماما أن " باخرة مصر " لن تغرق ، ولكنها تواجه خطر الجنوح في رواسب الطمي ، وقد بدأت تحتك فعلا برواسب القاع ومستنقع الطمي الملئ بالأحجار ، وهنا المخاطر الحقيقية ، وأن تكاليف الخروج من الطين الرخو وإضرار الجنوح ، يكون حسابها بالوقت وبالأعصاب ، وماديا ومعنويا ، ولا يصح ولا ينفع أن تسير الأمور كما تسير الآن!!
وهذا ما حدث .. وما تحقق .. في الثلاثين من يونيو 2013 وأثبتت مصر لنفسھا وللعالم ، أنھا ما زالت تحتفظ بكبريائھا ، وأنھا قادرة على الثورة الثانية للإنقاذ وتصحيح مسار ثورة 25 يناير ..وأن يمد شباب مصر يده ليستعيد وطنه .