القاهرة 28 ابريل 2016 الساعة 03:25 م
كتب:طالب جميل
تبدو قصة «الشهداء يعودون هذا الأسبوع» للكاتب والروائي الجزائري الطاهر وطار وكأنها تحمل خلطة تمتزج فيها الواقعية بالخيال، ويتواجه فيها الزيف بالحقيقةوينتفض فيها الماضي على الحاضر محاصراً الجميع بأسئلة مفعمة بالقلق، أسئلة غير معتادة، أسئلة يكتنفها الغموض وتصبح الإجابة عنها أشبه بالتحدي، خاصة عندما تكون الإجابات لأسئلة تبدأ بـ «ماذا لو؟». حيث يتسع أفق الاحتمالات وتصبح الإجابة أكثر تعقيداً.
القصة التي تضمنتها مجموعة قصصية بالعنوان نفسه صدرت في العام 1984، مبنية على كيفية التعامل مع خبر غير قابل للتصديق، تحاكي فكرة الإصرار على العودة للحياة بأثر رجعي، فيها مداهمة ومحاكمة وتعرية للواقع وكشف لزيفه، قصة تقوم فكرتها على إعادة ساعة الزمن إلى الوراء، وبقدر ما تبدو الفكرة جميلة ومستحيلة لمن آمنوا بالشهداء وشاركوهم المقاومة، تبدو قاسية لمن اختاروا أن يعيشوا من أجل الحياة.
القصة مكتوبة بلغة عربية مبسطة ومعنية بشكل مباشر بالشأن الجزائري، وبمرحلة ما بعد الاستقلال تحديداً، أي بعد انتصار الثورة الجزائرية على الاحتلال الفرنسي للجزائر بعد أن قدمت قرابين الفداء متمثلة في أكثر من مليون شهيد، حيث تدور أحداثها في إحدى القرى بالجزائر، فتصور مشاعر رجل قروي مسنّ يدعى «العابد بن مسعود الشاوي»، يقضي أيامه القاسية وهو يتذكر ابنه الذي استشهد وهو يقاتل الاحتلال الفرنسي الذي جثم على تراب الجزائر على امتداد عقود طويلة إلى أن يتسلم هذا الإنسان القروي رسالة من مكتب البريد التابع للقرية، ويقول له موظف البريد وهو يسلمه الرسالة إنها من ابنه الشهيد وقد أرسلها له من مكان بعيد.. بعيد جداً، يترافق ذلك مع رؤية للشيخ العابد في منامه الذي يثق بصحة أحلامه، أن ابنه الشهيد «مصطفى» والشهداء الذين معه سيعودون خلال أيام.
تهيمن الفكرة على الشيخ، وتتحول إلى هاجس مرعب مثلما هو مفرح. يبدأ الشيخ في كشف رؤيته لمن حوله. الجميع يسمعون منه أن الشهداء سيعودون هذا الأسبوع، إلا أنه لا يجد من يتحمس للرؤية، بل يستشعر ذعراً في عيونهم من هذه العودة المباغتة.
شاع خبر تسلم الشيخ العابد رسالة من ابنه الشهيد في كل أرجاء القرية، بعضهم أصيب بالدهشة، وآخرون تصوروا أن الرجل قد أصيب بالجنون، وأنه يهذي هذياناً لا شفاء منه، لكن الرسالة نفسها أحدثت بلبلة كبيرة بين الجميع، فهناك أفراد من كوادر الحزب الحاكم ممن حصلوا على امتيازات خاصة بعد الاستقلال أخذوا يؤكدون للآخرين أن الشهداء لا يمكن أن يعودوا للحياة من جديد، وحتى لو عادوا -وهذا مستحيل- فإن عودتهم لا يمكن أن تعطيهم الحق في أن يقتسموا معهم ما حصلوا عليه من امتيازات خاصة، لم يحصل على مثلها البسطاء والفقراء.
أما أحد الموظفين العاملين في إحدى الدوائر الرسمية فعلق على ذلك قائلاً: «إذا عاد الشهداء للحياة من جديد فإن عليهم أن يقدموا شهادات تفيد بأنهم أحياء، لأننا قد استخرجنا لهم من قبل شهادات وفاة»، بينما قال واحد من المنتفعين الجدد: «لن يلبثوا أسبوعاً حتى يتزيفوا، إنهم سيؤولون إلى ما آل إليه غيرهم».
يدور الشيخ العابد في أرجاء القرية ليسأل كل من يجده عن ردة فعله إذا علم أن الشهداء سيعودون، فيسأل رفيق ابنه في المعركة التي استشهد فيها، ويسأل شيخ بلدية القرية الذي يدير المدرسة، ومنسق القسمة، ورئيس وحدة الدرك في القرية، ورئيس القباضة (المسؤول عن صرف المنح)، ومسؤول الفرع النقابي، وإمام المسجد وغيرهم.
وبعض الذين أخذوا كلام الشيخ العابد على محمل الجد ردوا عليه بجدية أيضاً، ومنهم «مسجل المواليد والوفيات» الذي يؤكد له أنه لو عاد الشهداء فلا بد من شطب أسمائهم من سجل الأموات وإعادة قيدهم في سجل الأحياء، وهذا سيستغرق وقتاً طويلاً. ولم يخفِ آخرون مخاوفهم للشيخ العابد، إذ يقولون له إن عودة الشهداء ستُحدث إرباكاً كبيراً في حياتهم، وأول من سيدفع ثمن ذلك هم الذين يتقاضون منحاً مالية نظير استشهاد أقربائهم، فكيف سيعيش هؤلاء لو عاد الشهداء؟ وماذا ستفعل زوجات الشهداء اللاتي تزوّجن وأنجبن من بعد غياب أزواجهن الشهداء؟
ولكن صدمة الشيخ العابد تبدو أكبر عندما يقول لإمام المسجد أن ابنه سيعود خلال أيام، إذ يرد عليه الأخير بقوله: «أوَتظنّ ابنك المسيح أو المهدي، استغفر الله! اخرج من المسجد أيها الكافر»، ليخرج الشيخ العابد من المسجد ذليلاً منكسر الروح، مطاطئ الرأس. أما رئيس وحدة الدرك فيرد عليه متسائلاً: «هل ترضى أن يعود ابنك مصطفى رحمه الله وينتزع منك شرف أب الشهيد، ويضيّع عنك كل الحقوق التي تترتب عنه، مثل المنحة، ورخصة سيارة الأجرة، والسكن في أحسن مساكن القرية، والاحترام الذي توليه لك السلطات والشعب؟!»..
يصمت الشيخ العابد مستعجباً إزاء هذه العاصفة التي واجهها من الاستنكار والاحتجاج لعودة الشهداء لكن الخوف يتغلغل في نفوس من يهابون هذه العودة المفاجئة، وفي مقدمتهم الذين تسلقوا على ظهور الشهداء، وورثوا أمجادهم وبطولاتهم، وحولوها إلى تركة مباحة لمن يجيد اصطياد الفرص، واللعب على الحقائق التي لا يعرف أسرارها إلا من استشهدوا.
جراء البلبلة التي أحدثها الشيخ العابد، يدعى لاجتماع طارئ لبحث الأمر بحضور مسؤولي المنظمات الوطنية، والنقابة، وقدماء المجاهدين، واتحاد النساء، والكشافة، وقائد وحدة الدرك، ومسؤول الشبيبة وغيرهم، ويصل المجتمعون إلى نتيجة مفادها أن ما يدعو له الشيخ العابد سيؤدي إلى عصيان مسلح يشترك فيه مليون ونصف المليون من خيرة أبناء هذه الأمة، قصده قلب الأوضاع رأساً على عقب، ولا بد من القاء القبض على الشيخ العابد واستنطاقه وإشعار السلطات العليا في الحال.
فكرة القصة بحد ذاتها شائكة وموجعة. فماذا لو عاد الشهداء اليوم وأبصروا دماءهم قد تحولت إلى استثمار وأن الجميع يرفض عودتهم، إما خوفاً من ضياع الامتيازات والمساعدات المرصودة لذوي الشهيد، أو تحسّباً من انكشاف أمر أولئك الذين خذلوا الشهداء، ثم تقاسموا أشياءهم، بل وزوجاتهم؟!
وما الذي سيفعله الشهداء إذا أدركوا هذه الحقيقة؟ هل سيندمون على تضحيتهم؟ وهل ستتقبل الأجيال القادمة أن تضحّي إذا تكشّفت لها هذه الحقيقة التي لا تستثني أحداً؟ وكيف يتحول الشهيد من حالة لها قدسيتها وكرامتها إلى كابوس يهدد استقرار بعضهم ومصالحه؟ وكيف يصبح من تغنى للشهيد ومجده إلى رافض لفكرة عودته، فكرة العودة التي باتت محملة بالخراب والدمار؟
على أيّ حال فإن قصة «الشهداء يعودون هذا الأسبوع» مليئة بالدهشة والمفارقات وبالتناقضات الحياتية، لكنها تنتهي بمصرع العابد بن مسعود على قضبان السكة الحديدية من دون أن يعرف أحد؛ هل دفعه أحد المنتفعين الجدد نحو القطار ليلقى مصرعه تحت عجلاته، أم إنه قد انتحر؟
وتعكس القصة تلك القدرة الهائلة لكاتب مثل الطاهر وطار في معالجته لأمور لا تخطر على البال، ففيها رؤية موضوعية لواقع اجتماعي وسياسي حدث في الجزائر (بلد المليون شهيد) ويحدث في بلدان أخرى، وربما تستدعي القصة تأملاَ عميقاً نتيجة لارتباطها بما يحدث.
الطاهر وطار، المفجوع بالمحنة الجزائرية، يحاول من خلال «الشهداء يعودون هذا الأسبوع» الرد على السماسرة وتجار التنازلات بطريقته الخاصة، فيزف بينهم بشرى عودة الشهداء، كي يفيقوا، فالمواجهة بينهم وبين الشهداء قد تشعرهم بشيء من الخجل، وتجعلهم أكثر إحساساً بقيمة ذلك الاستشهاد الذي تحول إلى مكاسب رخيصة وأطماع دنيئة لا تنتهي.
قصة مكتظة بالوجع تبدو أقرب لفانتازيا مؤلمة تفتح من خلالها التساؤلات الباب لواقع محبط، وتذكّرنا أن دماء الشهداء الزكية يتم يومياً تسليعها للحصول على مكاسب رخيصة يستفيد منها بعض الساسة هنا وهناك. يُذكر أن القصة ألهمت كثيراً من المسرحيين فتم تحويلها إلى نص مسرحي وعُرضت في الجزائر ودول عربية أخرى مثل
سوريا وفلسطين.
"الرأي"