القاهرة 18 ابريل 2016 الساعة 02:52 م
( التعليم كالماء والهواء ) عبارة أطلقها عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين عندما كان وزيرا للمعارف، إيمانا منه بأن تقدم أى دولة ورقيها مرهون بمستوى تعليم أبنائها، ومقدار ما حصلوا عليه من مهارات تمكنهم من استيعاب تجارب غيرهم، والاستفاده منها في تحقيق تطلعات شعوبهم.
ووصف الماء والهواء لم يأت من فراغ، فالماء سر الوجود، فلا يستطيع أى كائن حى العيش بدونه، وكذلك الهواء الذى بفقده تنتهى الحياة.
( والتعليم فى مصرنا الحبيبة مثال صارخ على التخبط والعشوائية؛ فنجد المدارس مختلفة ومتنوعة بين حكومية وحكومية تجريبية وخاصة ولغات وقومية ودولية وفنية وللمتفوقين وغيرها. وإذا نطرنا للمنتج فهو ردىء بشهادة المدرسين قبل الطلبة وأولياء الأمور، ناهيك عن التصنيف الدولى الذى وضعنا فى ذيل قائمة دول العالم.
(ومحاولات إصلاح التعليم فى مصرنا الحبيبة تدور فى حلقة مفرغة، لا تجد فيها جديدا. وإذا رصدنا تصريحات وزراء التعليم على مدار 30 عاما مضت، نجد أنها جميعا تتعهد بإعادة الانضباط، وكأن كل وزير معه مفتاح الانضباط ما أن يدخل الوزارة حتى يضعه فى الكالون فينفتح باب القضاء نهائيا على التسيب والعشوائية وتعود الأمور إلى نصابها. وتمر السنوات ويذهب وزير ويأتى آخر ويبقى الوضع على ما هو عليه، بل أسوأ؛ لأن الجميع من حولنا يتقدم ونحن لا نغادر مكاننا.
(مؤخرا خرجت علينا وزارة التربية والتعليم بإجراءات رادعة ضد ظاهرة الدروس الخصوصية وتحذير المدرسين من العمل بها، وبدأت بالفعل فى مطاردة الذين لم يلتزموا بالقرار.
وساعد بعض المسؤلين الوزارة بغلق بعض المراكز وتشميعها بالشمع الأحمر، ما يعنى أنها أصبحت جريمة، ومرتكبيها مدانون. واستبشر الجميع خيرا، ولكن ماذ حدث؟ هل ساند المجتمع هذه الإجراءات، هل بشر أصحاب الأقلام بنتائجها، وهل أفردت الصحف صفحاتها للتحدث عن التجربة الجديدة؟ للأسف ما حدث هو العكس تماما.
(رفض أولياء الامور التجربة، واحتج الطلاب، وأحجم أصحاب الأقلام عن الكتابة عنها، بل عملت بعض الصحف فى الاتجاه المعاكس، فلم أصدق عينى عندما وقع بصرى على إعلان فى جريدة الأهرام فى عددها الاسبوعى بتاريخ 20/11/2015 بعنوان أسود سميك) يحمل كلمة دروس خصوصية كُتب أسفله نصا(أستاذ علوم تجارية (محاسبة/ رياضيات/ إحصاء/ تأسيس/ نجاح/ سعر مغرى) مع كتابة رقمي تليفون.
قرأت الإعلان أكثر من مرة، وبعد زوال الدهشة أيقنت أننا ما زلنا نعبث بمستقبل أولادنا، ونصر على تبرئة أنفسنا، ونصدر للرأي العام عبارات رنانة تأخذ الأبصار من عينة: القضاء نهائياعلى الظاهرة، ومدارس مصر بدون دروس خصوصية وغيرها. وفى الوقت نفسه نغض الطرف عن الإعلانات التى تملأ الشوارع حاملة عناوين المدرسين تفصيليا مع أرقام هواتفهم، لتنتقل بعد ذلك إلى الصحيفة الأولى فى مصر المقربة من الحكومة وتكاد تكون لسان حالها على مرأى ومسمع من الجميع، ونغفل البديل الطبيعى المتمثل فى تغيير منظومة التعليم، بدءا من المدرس مرورا بالمناهج وانتهاء بالطالب مع إشراك أولياء الأمور .
وما يثير السخرية أن معظم مراكز الدروس الخصوصية التى أغلقت أعيد فتحها مع توجيه إنذار لإصحابها ! فعلى أى أساس كان قرار الإغلاق، وهل فتح مركز للدروس الخصوصية جريمة، وهل أصحابها مدانون؟ أسئلة كثيرة لا أنتظر لها إجابة، لأن ما حدث غير منطقى وسيبقى الوضع كذلك ما لم تتغير العقول وتقترب من عقلية عميد الادب العربى الذى علم المبصرين وتفوق عليهم بعد أن تعلم بصورة صحيحة على أيدى أساتذة أجلاء عرفوا قيمة العلم. وإلى أن يأتى هذا اليوم، يبقى لزاما علينا أن نقدم له المعذرة لأنه لو عاش لعصرنا الحالى ورأى ما نحن فيه من عبث، لصب علينا اللعنات، و لفكر ألف مرة قبل أن يطلق عبارته الخالدة لأنها جاءت فى غير موضعها؛ فهواؤنا أصبح ملوثاً، وماؤنا لم يعد يصلح للاستخدام الآدمى.