القاهرة 20 ديسمبر 2015 الساعة 01:11 م
تأتى رواية (العكاز) للكاتب سمير فوزى كاشفة عن حالة من حالات المعرفة والإدراك، ذلك الإدراك وتلك المعرفة التى تتبدى منا، الذين عاينوا اللحظة واللحظات السابقة، وأدركوا أن الاستمرار وفق هذا النسق الحياتى المعيش الممتد لمدة ثلاثين عامًا يكاد يكون مستحيلاً، وأننا بحاجة إلى هزة قوية تحدث رجرجة وخلطًا للمقرر والمتعارف عليه، الذى أصبح فى زماننا قانونًا كاشفًا عن عفونة.
ربما يكون المدخل من وجهة نظرى للرواية مرتبطًا بالعنوان أولاً، ومرتبطًا بجملة وردت فى الصفحة التاسعة عشرة على لسان عربى(الحوادث فى مصر فى السنين اللى فاتت ما فيش أكثر منها).
دلالة العكاز تفرض وجودها على تلقى الرواية، والعكاز هنا لا يظلل البطل(عربى)-والتسمية فى أغلب الظن فيها شىء من القصدية-وإنما تتحرك دلالة العكاز لتصبح نسقًا عامًا أصبح متفسخًا إلى حدٍ بعيد. الاحتياج إلى العكاز إشارة مرتبطة بالمرض، فالرواية معنية بتقديم وتصوير واقع ذاهب للتلاشى.
الآلية الفاعلة/أصوات/ أم تحقيق/أم آلية لكشف الخراب:
القارئ للرواية يدرك أننا أمام عمل بسيط فى عدد صفحاته، ولكنه عميق فى أفكاره وطرحه المعرفى. الآلية المقدمة لتقديم العمل السردى فى صفحات الرواية تكشف عن رؤية لها مشروعية. فالرواية معنية فى الأساس بالكشف عن قاتل (عربى)، بوصفه فردًا، وبوصفه أيقونة كاشفة عن الخراب، وعن السمة الغالبة على الشخصية المصرية فى العقود الثلاثة الأخيرة. ويأخذ السؤال: من قتل (عربى)؟ وفق هذا التلقى آفاقًا أوسع، ليصبح: من طمس ملامح الشخصية المصرية، وجعلها تتخلى عن سماتها الفاعلة عبر التاريخ؟ وجعلها تتلبس بصفات مثل الانتهازية والدونية؟ من المتسبب فى كل هذه التحولات؟
كل واحد من الذين قدموا سردًا موضوعيًّا عن حادثة القتل، من خلال صلته (بعربى) لا يكشف عن ذلك فقط، وإنما يكشف عن مستوى من مستويات الخراب داخل الإطار العام. وهذا يجعلنا نعيد النظر فى توصيف الآلية السردية الفاعلة والمهيمنة فى نص الرواية، هل هى رواية أصوات؟ أم هى إجابة عن أسئلة يقدمها محقق فى عملية القتل التى تمت على هذا النحو المقدم فى الرواية؟ أم هى فى النهاية مجرد آلية لتقديم صورة مفتتة للبطل، يمكن من خلال تجميعها الوصول إلى صورة شبه كاملة عنه؟
إن حسم هذه القضية لن يتم بسهولة، لأنها جزئيات متداخلة إلى حد بعيد، أول ما يهشم التصور الأول- أى كونها رواية أصوات-يتمثل فى غياب الأيديولوجيات المتصارعة المهيمنة فى مثل هذا النوع من الروايات، فليس هناك صراع أيديولوجى يمكن التوقف عنده على نحو مباشر. وما يغيب افتراض كونها إجابة عن أسئلة يقدمها المحقق لبحث عملية القتل للوصول إلى القاتل يتمثل فى تلك النهاية المنفتحة دون إجابة أو أدنى محاولة للوصول إلى إجابة.
فالرواية ليست رواية بوليسية مهمومة بالبحث عن القاتل، وإنما- وهذا يجعل الآلية الفاعلة وثيقة الصلة بتشكيل الخراب بأشكاله المختلفة-هى رواية مهمومة برصد لحظة آنية، وصل فيها الوطن إلى الحاجة إلى عكاز، لكى يسير بطيئًا، بعيدًا عن مداومة السير واستقامته.
هذا التوزع فى السرد الموضوعى إلى أصوات عديدة يكشف عن آلية لتقديم صورة عن البطل موضوع الرواية بوصفها هدفًا أوليًّا من جانب، ومن جانب آخر يحضر من خلال التأويل وجود مركزى للوطن المريض، حيث توزع مرضه فيما قدمته الشخصيات من خلل فى سلم القيم، وخلل فى الفهم والإدراك.
معاينة الرواة المختارين بعناية تكشف عن قصدية واعية وعن ارتباط هذه الشرائح للوهلة الأولى (بالبطل/عربى)، وتكشف عن قصدية أخرى تتمثل فى قدرة هؤلاء الرواة فى الكشف عن شرائح ذات خصوصية، تأثرت حتمًا بهذا الخراب، وكانت ضحية من ضحاياه بوجه من الوجوه. فكل واحد من هؤلاء الرواة مهتم بالكشف عن حالة من حالات التبدل أو التغير، التى جعلت الجميع فى النهاية بحاجة إلى عكاز، ويأتى(عربى/صاحب العكاز/المريض) بوصفه عنصرًا فاعلاً فى ذلك الخراب، وهذا يجعله يغادر طبيعته المادية، ويجعل حادثة القتل بحد ذاتها فعلاً من أفعال التخلص من ركام مكبل، أو عملاً من أعمال التطهر الذاتى، فكل واحد من هؤلاء الرواة-باستثناء عاذر أبادير المحامى، وبسمة عربى دعبس (ابنته)-يمكن أن يكون قاتله.
مع الراوى الأول-سلامة السمكرى- نحن أمام عملية اكتشاف القتل بحد ذاتها، ولكن الأمر لا يخلو من الإشارة إلى بعض أمراض الاستغلالية الكاشفة عن طبيعة الشخصية.. وتتوالى بالتدريج جزئيات الخراب مع (أم أحمد) التى صورها عارية لتستجيب لطلباته، وتكشف من خلال جزئيات ارتداد سابقة عن خراب يرتبط بالمدارس والإدارات التعليمية.
كل واحد من هؤلاء الرواة يريد أن يقول لنا، لماذا تمت عملية القتل، دون معرفة القاتل؟ وأن يجيب عن سؤال آخر، ظل موجودًا فى المخيلة أو فى الهامش التأويلى، ويتحرك فى بعض صفحات الرواية من الهامش إلى المتن، وهو لماذا قامت الثورة؟ خاصة فى الجزئين الخاصين بالشيخ عثمان وكيل وزارة الأوقاف، ونبيل ابن صاحب الجراج، حيث تحول رجل الدين إلى بوق للسلطة مرددًا ما تقوله هذه السلطة، متخطيًّا بعلاقته الخاصة بالسيدة الأولى من يسبقونه من مشايخ الأزهر. وتحول صاحب الحق- كما يروى نبيل ابن صاحب الجراج- إلى فقير يستجدى من سلبه حقه.
التحولات
إن كل راوٍ من هؤلاء الرواة يكشف عن جانب مهم من جوانب الخراب، ولكن ضمن الأشكال او الأشياء الكاشفة عن هذا الخراب شىء يتمثل فى بروز فكرة التحول من حال إلى حال، أو من صفة إلى صفة من صفات الإنسان المصرى، لدرجة أن الإنسان المصرى حين يعاين أبناء بلده ينكر هذه الصفات. من ذلك طبيعة المد الدينى فى العقود الأخيرة، ومظاهر تغلغل هذا المد داخل المجتمع المصرى.
وألمحت الرواية إلى هذا التحول فى أكثر من جزئية، على سبيل المثال حين تحدثت الرواية عن شخصية (فاروق) ولد (عربى)، فهذا التحول يكشف عن أن تلقى العمل الروائى (العكاز) فى إطار هذا التوجه القرائى له مشروعية، وفى تحريك دلالته(أى العكاز) من دلالة مرتبطة بالشخص إلى دلالة مرتبطة بكيان عام.
فالصورة الأولى المقدمة (لفاروق) صورة تكشف عن نسق الانزواء داخل المجموع، والبعد عن أى توجه أيديولوجى من خلال علاقاته وعفويته، وحبه لكرة القدم (جعلنا فاروق نحب الكرة لمهارته الخارقة، ولمحاته الرائعة فى الملعب الصغير بجرن العمدة، كان أصغر من اختير لمنتخب المحافظة)
أما الصورة الثانية فهى تكشف عن عمق الهوة، التى نعانيها فى مجتمعنا، فاللوحة السابقة تقابلها صورة تكشف عن عمق التحول التى نراها-أو أصبحنا نراها فى مجتمعاتنا، من خلال بعض الجماعات (سبحانه مغير الأحوال، هجر فاروق الكرة والجرن، وربنا هداه والتزم، وساب دقنه وقعد فى الجامع... ثم بدأ يلف مع جماعة فى البيوت والنواصى، يلم الناس، ويأخذهم للصلاة).
هذا التحول يكشف عن قصور فى التكوين، وعن أمراض بدأت تستوطن داخل التمفصلات الكبرى للوطن. وسرعان ما تجاوز فاروق تلك الصورة، ليتم تأطيره فى إطار مغاير نامٍ عن الصورة السابقة، حيث ينضم للجماعات الخارجة، ويصبح مطلوبًا دائما للجهات الأمنية.
فى الجزء الخاص بالراوى(حسام الإسرائيلى) يأتى تحول خاص ربما يكون نابعًا من التحول السابق، أو من تلك السيطرة أو الهيمنة لانتماء محدد، ويتمثل هذا التحول فى غياب حالة الصفاء بين فصائل وشرائح ونسيج هذا المجتمع، والرواية لم تعرض لحال راهنة، وإنما أبرقت إلى نسق قديم، يشع من خلاله ذلك التلاحم العضوى، وذلك حين يتحدث حسام عن أمه المسيحية المتزوجة من أبيه المسلم( أتذكر الآن أن أمى كانت أكثرنا سماعًا للقرآن، كان يهزها أداء الشيخ الحصرى، وتقول إنه يرتل القرآن، وكأنه يوحى إليه، وإن صوته يهز القلب).
لم تعرض الرواية فى مقابل هذه الصورة القديمة الكاشفة عن الانسجام وعدم التعصب إلى ما يقابلها آنيا- بالإضافة إلى فعل الزواج بين أبيه وأمه المختلفين فى الديانة تم دون معاظلة ظاهرة- استنادًا إلى ما هو معلوم، وهدمًا للحواجز بين نص مكتوب ونص مدرك من خلال الارتباط بالخارج المعلوم.
إن جزئية التحولات لا تقف عند حدود التعصب، وإنما تمتد إلى حدود السياقات الفاعلة فى إعادة تشكيل وتطويع وتوجيه اهتماماتنا التى درجت عليها بعض الشخصيات من خلال السرد الموضوعى، فهذه السياقات تكون فاعلة فى تشكيل الانكفاء إلى الآمن والجاهز، كما يصوره الأيديولوجيون المرتبطون بهذا الشأن. ففى الجزء (بمنير المدير العام بهيئة السكة الحديد) ومن خلال عودته إلى الماضى، نستطيع أن نعاين صورة الماضى لبعض الشخصيات، والصورة التى انتهت إليها تلك الشخصيات، مثل المطرب الصغير الذى تحول إلى رجل دين بالفضائيات. فالرواية مهمومة بالسياقات الفاعلة/ القاتلة التى تخرجنا من توجهنا المتساوق مع اهتماماتنا إلى توجه ناجز جاهز بوعوده القريبة.
القتل/الثورة/غياب الفاعل
فى تلقينا للأعمال الأدبية ربما تأتى جملة قد تكون مقصودة أو غير مقصودة، تجعلنا نعيد تلقى العمل مرة أخرى، وفق فهم لا يتنافى مع ما سبق، وإنما يتساوق معه ويعضده. ففى الجزئية الخاصة بالراوى(أم صابر زوجته) هناك إشارة إلى السنة التى تم فيها زواجها من (عربي) 1985م ، وهى حادثة الأمن المركزى الشهيرة. هذه الجملة تجعلنا نعيد النظر فى الرواية، وتجعلنا نقيم نوعًا من التوازى بين بعض الشخصيات فى الرواية والشخصيات الواقعية بالخارج المشدودة إليها بالضرورة، وتجعلنا نعيد النظر فى الأسماء المقدمة للشخصيات فى الرواية..(فأم صابر) هى الزوجة الصابرة على زوجها (عربى) المشدود إلى علاقات خارج هذا الإطار المقدس.
إن الرمز لا يجب أن يؤخذ بالضرورة على إطلاقه، ومن جميع جوانبه، وإنما يمكن أن يبرق فقط إلى دلالة جزئية ناجزة، (فعربى) فى هذه الرواية يمكن أن يشير إلى الحاكم الذى أفسد كل شىء، وكذلك (أم صابر)-التى تحملته لسنوات طويلة-تشير إلى معنى أوسع، ودلالة أكبر، خاصة إذا استحضرنا لحظات التخلى فى الآونة الأخيرة.
هل يمكن أن ترتبط عملية القتل دلاليًّا عمليًّا بالثورة؟ إن الإجابة عن هذا السؤال ليست سهلة، ولكنها يجب أن تستحضر شيئين، الأول منهما النهاية المفتوحة للرواية، وإصرارها متعمدة على عدم الإشارة إلى القاتل أو اهتمامها بالبحث عنه، وكأن فعل القتل نهاية حتمية لذلك الفساد الذى مارسه ذلك البطل، وكأن التغيير-حين يكون حقيقيًّا- يأتى من جميع الحهات، فلا تدرى لسطوته وقوته من أى ناحية جاء ذلك الفعل، فكل الرواة فى نطاق الاتهام باستثناء عدد قليل منهم.
الشىء الآخر الذى يجب استحضاره يتمثل فى التوازى المستمر بين ما يحدث فى الميدان، من خلال خداع الخطب التى تأتى على فترات والاتصال الذى يقوم به نبيل- وهو اسم لا يخلو من دلالة- إلى زوجته ومحاولة إعادته إلى البيت بدلاً من الجراج، ورفضها وإصرارها على الرفض.