القاهرة 20 سبتمبر 2015 الساعة 10:25 ص
منذ فترة انشغلت عن عالم الأدب ودراسته، وذلك بسبب شعوري بضرورة أن تكون أولوية الكتابة لقضيتين، أولاهما: الإلحاح علي تجديد الخطاب الديني بإحياء وإشاعة العقلانية الإسلامية التي حرصت تيارات النقل والتقليد علي وأدها، وثانيتهما: الإسهام في معركة استعادة ثقافة الحرية والتنوع الإنساني الخلاق والارتقاء بالثقافة المصرية إلي مستوي الحلم البهيج الذي اختتم به طه حسين كتابه مستقبل الثقافة في مصر. ولكن اهتمامي بالرواية والقصة عموما لم ينقطع، فقد كنت أسعي إلي تتبع الروايات الجديدة، والحصول علي الأعمال المتميزة، والتلقي الشاكر لنتاج دور النشر المصرية التي أسعدني اهتمامها المتصاعد بالروايات. ومن الطبيعي أن يحدث تراتب جديد ومتغيرات في هذا المجال، ففي التسعينيات من القرن الماضي، كانت دار ميريت هي الأكثر اهتماما بنتاج كتاب القصة من الشباب، وقد قدمت عددا من ألمعهم، منهم علي سبيل المثال علاء الأسواني الذي أوصاني محمد هاشم صاحب دار ميريت التي أدعو لها بالاستمرار- بأن أقرأ روايته الأولي عمارة يعقوبيان التي رأيتها عملا متميزا في ذلك الوقت، وأوصيت تلميذي المرحوم رضوان الكاشف بقراءتها وإعدادها للسينما. وكانت سلسلة روايات الهلال التي كانت تصدرها دار الهلال صاحبة أكبر إنجاز في نشر روايات تحولت إلي علامات مضيئة في تاريخ الرواية العربية للروائيين المصريين والعرب علي السواء. ولكن الزمن المقترن بالتغيير قلب الأحوال، فانتقلت شعلة الحماسة لإصدار الروايات إلي دار الشروق، ومنها إلي الدار المصرية اللبنانية إلي جانب دور النشر الأخري كالعين والديوان ونون وغيرها.
وها أنذا أري أمامي وأنا أكتب هذا المقال- عناوين لروايات أكثر مبيعا علي الفيس بوك، مثل أن تحبك جيهان لمكاوي سعيد، وجبل الطير لعمار علي حسن، والأزبكية لناصر عراق، وأداجيو لإبراهيم عبد المجيد فضلا عن أعمال روائية أخري لأشرف العشماوي الذي أصبح لإنجازه موقعه اللافت في دنيا الرواية إلي جانب أشرف الخمايسي ورشا سمير، وكلها أسماء واعدة، إلي جانب مجايليهم من أمثال إبراهيم فرغلي صاحب أبناء الجبلاوي ومنصورة عز الدين وياسر عبد الحافظ ونائل الطوخي ومحمد ربيع وغيرهم من الأسماء التي أعتذر عن نسيانها، فالذي أراه من مشهد الرواية المصرية والعربية يجعلني أدهش لمدي الغني والثراء والتنوع الخلاق الذي حدث في المشهد الروائي، سواء علي مستوي تعدد الأجيال المبدعة، ابتداء من جيل الستينيات الذي يواصل إبداعاته إلي الأجيال الواعدة الشابة التي برزت في السنوات القليلة الماضية. وأضيف ما أراه وألاحظه من صعود لافت لأسماء صارت تحتل موضع الصدارة بجدارة مثل إبراهيم عبد المجيد الذي تراكمت روائعه، ابتداء من رائعة ثلاثية الإسكندرية إلي أداجيو التي تقلب مشاعر الحزن العميق بالموت إلي مشاعر جمالية بسبب فنية السرد. وأضيف إلي إبراهيم عبد المجيد محمد المنسي قنديل ابتداء من جسارته في بيع نفس بشرية وانتهاء بروايته الأخيرة كتيبة سوداء. وفي وسط هذه المؤشرات الدالة يبرز اسم أحمد صبري أبو الفتوح الذي أكمل الجزء الخامس من خماسيته ملحمة السراسوة . وهي عمل ملحمي فعلا ينطوي علي طموح يضعه في سياق يبدأ من ثلاثية نجيب محفوظ، مرورا بثلاثية الثورة المصرية لجميل عطية إبراهيم، وينتهي بخماسية أحمد صبري التي سوف تظل عملا فريدا رفيع القدر، لكنه يظل يخيف القراء المتسرعين.
وإذا فارقنا المشهد المصري الذي أكتب مجرد انطباعات عفوية عن ثرائه وتعدد أجياله، والوعود الموجبة للأجيال الجديدة منه، فإنني ألفت الانتباه إلي تغير الخريطة العربية التي بدأت بمراكز الثقل المؤسسة في مصر ولبنان وسوريا والعراق، وهي المراكز التي سرعان ما نقلت العدوي إلي المغرب والجزائر وتونس، حاملة ظاهرة الرواية المكتوبة بالإنجليزية والفرنسية، سواء في مصر (أهداف سويف مثلا) أو الجزائر (آسيا جبار من الأسماء المرشحة لنوبل وزميلها الطاهر بن جلون الذي حصل علي جائزة جنكور) أو حتي لبنان، فإحدي المشكلات الحالية التي تواجه ناقد الرواية العربية - الآن- هي: هل يعتبر الروايات التي يكتبها مصريون وسودانيون ولبنانيون وفلسطينيون وجزائريون، بلغات مهاجرهم المعاصرة، جزءا من الرواية العربية أم يجعلها روايات محسوبة علي لغاتها، وهو موضوع يحسن أن نفرد له مقالا مستقلا. لكن ما يستحق الفرحة حقا، والثقة في صعود زمن الرواية، أن شعلة الرواية التي كانت قد أضاءت في اليمن منذ ثمانينيات القرن الماضي، أخذت تنتقل مع هذا القرن الذي لا نزال في بداياته إلي الإمارات والكويت. وها هي الرواية الكويتية تفوز بالبوكر أخيرا برواية سعود السنعنوسي ساق البامبو التي سرعان ما أتبعها برواية فئران أمي حصة التي تعالج المشكلة الطائفية بجسارة. لكن الظاهرة اللافتة حقا هي ظاهرة الرواية السعودية التي وصلت للبوكر العربية بفضل كاتبة متميزة لها إسهام بارز، هي رجاء عالم. ولم يتوقف الأمر علي رجاء عالم وحدها، فسرعان ما لفتت الكاتبة السعودية الاهتمام بجرأتها علي نقد التقاليد الاجتماعية المحافظة والجامدة، غير عابئة بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتكتب رجاء الصانع عن بنات الرياض، وهي واحدة من أكثر الروايات رواجا، ويصل التحدي إلي درجة أن تكتب صبا الحرز (وهو اسم مستعار بالقطع) عن المثلية الجنسية بين الفتيات في المملكة. طبعا مثل هذه الروايات تطبع خارج المملكة، خصوصا في بيروت، وتنال رواجا له دلالاته الاجتماعية والسياسية. والحق أن روايات المرأة السعودية تستحق وقفة لما أصبح ظاهرا فيها من تمرد علي التقاليد البالية وتعرية للموروثات التي تنبني علي ازدراء المرأة واحتقارها. والحق أني لو أردت وصفا ثقافيا لكتابة الرواية السعودية التي حققت حضورا لامعا بكتابات تركي الحمد ثم الجيل الذي يعد من تلامذته، جيل عبده خال ويوسف المحيميد، فإني أصف البعد النقدي الاجتماعي للرواية السعودية المعاصرة بأنه يعد تمردا علي الأخلاق والتعاليم المعادية لحرية العقل المزدرية لكرامة الإنسان المحتقرة للمرأة في كل الأحوال، فالرواية السعودية المعاصرة هي رواية تنطق المسكوت عنه، وتقوم بتسليط أنوار العقل علي جنادل الظلمة والتحجر.
وأعترف أنه رغم نهمي للقراءة وتفرغي لها، فإني لم أعد قادرا علي ملاحقة السيل العرم الذي يصدر من كل قطر عربي، وتتنافس دور النشر العربية، بما فيها دور النشر المصرية، في سباق إصدار الروايات. ولذلك أجد أمامي في حجرة مكتبي، ما يقرب من مائتي رواية لم أستطع قراءتها بسبب همومي الثقافية الملحة التي أبعدتني عن الرواية التي كتبت مؤكدا أننا نعيش في زمنها منذ التسعينيات، وتمر السنوات لكي تثبت ما ذهبت إليه، وننتقل من زمن الرواية إلي زمن القص أو السرد، فنحن نقرأ القص في الكتب، ونسمعه مسلسلات في الإذاعة، ونشاهده روايات في السينما وحلقات في التليفزيون. وها أنذا أنظر إلي أرفف المكتبة حولي، فأجد أن المساحات التي تتصل بنقد الرواية ونظريات السرد بالإنجليزية لم تتضاعف فحسب، بل صارت أضعافا مضاعفة. وها نحن نسمع عن مؤتمرات عربية، وجوائز عربية وعالمية عن الرواية. ويلزم عن زمن الرواية، ظهور ما يسمي الرواية الرائجة التي قد تكون جيدة أو تكون رديئة فنيا، فعالم رواج الرواية يجمع ما بين شفرة دافنشي واسم الوردة، كما يجمع ما بين وداعا للسلاح ولوليتا. ولا داعي للأمثلة العربية أو المصرية علي الأقل في هذا المقال.