القاهرة 24 اغسطس 2015 الساعة 03:09 م
• الجائزة ما هي إلا مجرد توافق آراء مجموعة المحكمين على قيمة عمل ما
يراه البعض أكثر حظَا من غيره من الكتاب، ويطلقون عليه لقب "صائد الجوائز" لكني أراه أكثر دأبا وإصرارَا من غيره، فهو لا يكتب من أجل الكتابة فحسب، بل يحمل بداخله قضايا عدة أولها وأهمها على الإطلاق قضية الوطن والمواطنة، هذه القضية لم تظهر في الكتابة فحسب بل استطاع أن يعبر بها حدود الوطن ليرى اسمه كواحد من أبناء هذا الوطن مضاءَ بالنيون في أكبر شوارع وعواصم الولايات المتحدة الأمريكية، حيث الاحتفاء بنص تمت ترجمته وإخراجه بأربع رؤى مختلفة هناك، والمشاركة في مؤتمر بباريس، ومشاركة عروضه المسرحية في معظم المهرجانات العربية، وحصوله على العديد من الجوائز، كان آخرها جائزة ناجى نعمان العالمية للأدب، لكل ذلك أراه الكاتب المصري الذي يحلق في فضاء العالمية بكل تواضع.
الكاتب والناقد إبراهيم الحسيني الذي كان لنا معه هذا الحوار......
• يلاحظ أن لديك الجرأة في اقتحام مناطق مثيرة في شكل وأفكار الكتابة المسرحية، فمثلا لك اهتمام خاص بالتجريب في استخدام اللغة الحوارية وتشيكلاتها وتخييلاتها المختلفة. فماذا إذا تعني لك اللغة، وماذا يعنى لك أيضا كونك كاتبا مسرحيا .. ؟
ـ غالبا لا أبدأ في كتابة نص مسرحي إلا إذا انتظمت أفكاره ورؤاه وتخييلاته الصورية عبر تشكيل لغوى واضح، فثمة مجموعة تفاع
لات تتم داخل الذهن أولا، يحدث عبرها توافيق وتباديل لمجموعة الصور الذهنية التي تتشكل وتترتب داخل الذهن إلى أن أصل لتلك اللحظة التي أشعر فيها بأن هذا الترتيب الصوري واللغوي الذي يطوف بالذهن هو الأفضل لنقله على الورق، وهنا تبدأ لحظة الكتابة ..
ويمكن تفسير ذلك بمعنى آخر هو أنني لا أكتب أي مسرحية إلا إذا رأيتها أولا بخيالي في صورة واضحة المعالم تصلح للعرض على الناس، هذه الصورة الواضحة تلعب فيها اللغة أهم دور فهي مخزن التخييلات والأفكار وإنتاج الصور والمعاني، وكتابة أي نص إبداعي ما هو إلا تجريب في اللغة، تجريب يعتمد على طول الجملة أو قصرها، مدى قدرتها على اختزان وإنتاج المعنى، مدى قدرتها على التعبير عن أصحابها من شخوص المسرحية وابتعادها عن لغة كاتبها، فالحوارات داخل منظومة النص المسرحي تشبه أصحابها أكثر مما تشبه كاتبها رغم أنها صادرة منه و تعبر عنه في آخر الأمر ..
وقد مررت في كتاباتي بعدة مستويات في التعامل مع اللغة أولها طغيان الأفكار على بنية الشخصية، وهو ما كان يجعل الشخصية تتعامل كفكرة مجردة وليس كشخصية درامية لها أبعادها الفيزيقية والنفسية والاجتماعية، الفكرة كانت الأساس داخل النص المسرحي والشخصيات والأحداث وأشكال الصراع ما هي إلا مجرد أدوات لتصدير هذه الفكرة، وذلك كما حدث في مسرحيات " وشم العصافير ، أخبار أهرام جمهورية، الكون كان، سلم طالع للشمس،.." ، أما المستوى الآخر فهو التعامل مع اللغة على أنها وعاء درامي طارح للأفكار وللحدث الدرامي، أي أن أهميتها الطارحة للأفكار لم تلغ أهمية وضوح الشخصية ببعض أبعادها، لكن ظلت الشخصية الدرامية غير مكتملة الأبعاد كما هو موجود لدى كتاب المسرح الواقعي، ويظهر ذلك في مسرحيات من مثل: وش الديب، حديقة الغرباء، خارج سرب الجنة، ...
أما المستوى الأخير فهو التعامل الطبيعي مع اللغة على أنها خالقة كل شيء داخل النص المسرحي بدءا ببناء الشخصيات وما ينتج عنها من أفكار وصور ورؤى وتناقضات وإختلافات، فاللغة هنا في أجلى وأوضح صورها وتماسكها الفني والفكري وذلك كما ظهرت في مسرحيات: أيام إخناتون، جنة الحشاشين، متحف الأعضاء البشرية، حكاية سعيد الوزان،...
وهناك شكلية أخرى فرضتها رغبة التلاعب باللغة وهى تجاور ثلاث مستويات منها في نص مسرحي واحد كمستويات: الفصحى، العامية، الشعر، ولكل مستوى دلالته وأفكاره وجمالياته الخاصة، فالعامية هي للحوار العادي بين الشخصيات، بينما الفصحى تمثل حالة من الحكي الداخلي للشخصيات الدرامية، وهو حكى سردي معلن للقراء وللجمهور ومفسر لحالة الشخصية الدرامية لكنه غير معلن لشخصيات المسرحية الأخرى المجاورة لها والمتفاعلة معها في الحدث الدرامي نفسه، ولكل شخصية مسرحية هذا النوع من الحكي السردي غير المعلن إلا لنفسها ولجمهور المسرحية، وأخيرا مستوى الشعر، ويكون بوجود شاعر يمثل إطار خارجي للنص المسرحي، إطار شكلي ومضموني يعلق ويتشابك، يتفق ويعارض ويضيف حالة من الشعرية الخالصة على جو العرض المسرحي ..
أما لغة ما بين الأقواس، أو ما يطلق عليها النص الموازى فهي تجمع داخل نصوصي مابين السرد القصصي وبناء العوالم الخيالية للأماكن والأزمنة، فمثلا مابين الأقواس في مسرحية "حكاية سعيد الوزان" تجلب أخيلة ورؤى الصحراء إلى النص المسرحي وتفرضها داخل مقارنة مابينها وبين تلك الصحراء الممتدة داخل شخصية "سعيد الوزان" والتي تتجلى في حواراته ورحلته ..
أما فكرة الكتابة المسرحية لدى فهي تعنى لي الكثير، تعنى أولا إعادة التوازن المفتقد بيني وبين الحياة، وتعنى ثانيا تمثلي لعدد من الوظائف والمهن كنت أتوق للعمل بها، فمع كل مسرحية أعيش داخل إطار ومضمون شخصية درامية جديدة، وأدخل إلى رحلة خرافية لم أكن أستطيع الدخول إليها إلا بكوني كاتبا، كما أن ذلك يمنحني قدرة على اختصار الكون داخل قبضة يدي وإعادة تشريح تضاريسه وتشكيلها من جديد، فكتاب المسرح يطلقون كل يوم شخصيات جديدة إلى الحياة وهم يعلمون جيدا أن أعمارها أطول من أعمارهم، وكلماتها قد تصبح أقوى وأبقى من كلماتهم، لذا عليهم أن يبذلوا جهدا كبيرا في صناعتها بأكثر مما يبذلوا جهدا في أي شيء آخر ...
• التاريخ هو مصدر إلهام واضح بالنسبة لك، ولكنه يكتسب قوة جديدة أكثر قدرة على التعبير عن الواقع الراهن . وقد ظهر ذلك لديك فى معالجتك لبعض الفترات التاريخية الإسلامية والفرعونية، على سبيل المثال مسرحياتك: أيام إخناتون، جنة الحشاشين، مراكب الشمس،... هل يمكن أن نتحدث أكثر حول كيفية توظيف التاريخ في الأعمال الإبداعية الخاصة بك ؟
ـ لدى إعتقاد لا أعرف مصدره أن العالم يكرر نفسه، وبالتالي فالتاريخ الراصد لحركة الزمن عبارة عن صفحات تتكرر بصيغ مختلفة، ولذلك فإعادة قراءة التاريخ إبداعيا يعنى محاولة لمعرفة الواقع الراهن، وكلما إستطاعت هذه المحاولة الإبداعية إضاءة الواقع كلما اقتربنا من روح التاريخ، وكلما إستطعنا ملء فراغات التاريخ إبداعيا كلما إقتربنا من روح الحقيقة، فالتاريخ يكتبه الرسميون والإبداع المبنى عليه والمملىء لفراغاته يكتبه الخارجون عن كل ما هو رسمي ..
وعندما كتبت "أيام إخناتون" لم أفكر في تمجيد الفرعون المتخلى عن ألوهيته "أمنحوتب الرابع" ولا فى تمجيد دعوته للتوحيد، وإنما فكرت في إبراز دور الكهنة، هؤلاء الذين يحيطون بالحاكم، وكيف أنهم هم الحكام الأصليون للبلاد، فالحاكم هو مجرد صورة للتصدير الداخلي والخارجي بينما بطانته هم من يحكمون فعليا، وشبكة مصالحهم هي التي تحدد مصائر البلاد والعباد، وما الدين، أي دين في أياديهم إلا مجرد أداة للسيطرة على الناس وتغييبهم، وقد شعر الكهنة بأن الدين الجديد الذي أتى به إخناتون يهدد وضعياتهم، لذا فقد تآمروا عليه حتى استطاعوا إخفائة من التاريخ، لكن لحسن الحظ كانت مبالغاتهم في الإخفاء هي القوة نفسها الدافعة لتأكيد وجود إخناتون ..
وهذا المعنى يظهر جليا هذه الأيام لدى حكامنا، إنهم مشغولون دوما بالأحلام والخيال والأموال واقتناص فرص اللذة، بينما كهنتهم يعيثون في الأرض فسادا ..
أما نص "جنة الحشاشين" فهو يلقى الضوء على فترة تاريخية مفصلية في التاريخ العربي والإسلامي، تلك الفترة التي بدأ فيها التنكر تحت راية الدين، تلك اللحظة التي ظهر فيها وللمرة الأولى التكفير، وبدأت الاغتيالات السياسية والتصفيات الجسدية التي تتقنع تحت ستار العقيدة، لذا فقد أولينا أهمية قصوى لمراحل تغييب الوعي التى كانت تمارسها جماعة الحشاشين فى تجنيد أفرادها والتى تتشكل عبر رحلة طويلة تبدأ بنزع المعتقدات الراسخة فى الأذهان ثم تهيئة الذهن لاستقبال معتقدات جديدة داعمة لفكر الإرهاب ..
• هل يذكرنا ذلك بما يحدث اليوم لدى الجماعات المتأسلمة فى عالمنا اليوم، تلك التي تتخذ من الدين ستارا للوصول لأهداف سياسية ..؟!
ـ كل شيء يكرر نفسه في عالمنا بدأب كبير و بلا ملل، حتى الأفكار هي الأخرى ألا تتكرر نفسها ..؟! إنها تلبس كل يوم قناعا جديدا بأمكنة جديدة وشخصيات جديدة وتعاود الظهور أمامنا على أنها جديدة، فقط عليك أن تنظر بعمق لما هو أبعد من السطح الخارجي وسترى صدأ التاريخ، نحن في متاهة تاريخية لا خلاص منها إلا بتفجيرها والخروج للنور ..
• لقد فزت بالعديد من الجوائز المصرية و العربية من مثل جوائز: محمد تيمور، د. سعاد الصباح ـ الكويت، ساويرس، بغداد عاصمة للثقافة العربية، إتحاد كتاب مصر، جائزة المجلس الأعلى للثقافة ثلاث مرات، وأخيرا جائزة ناجى نعمان العالمية للأدب.... كيف ترى دور الجوائز في تسليط الضوء على كتابات المبدعين، وعلى المبدعين أنفسهم ...؟!
ـ لا شك أن للجوائز فرحة ما، هي رزق أرسله الله لأبنائه في لحظة زمنية يعرف جيدا أنهم يحتاجونه ودعما نفسيا منه على مواصلة السير ومطاردة رعونة الحقيقة، لكن قد يكون لهذه الجوائز لدى البعض أثرها السيىء، وقد يطال هذا الأثر السيىء الأعمال الإبداعية أيضا، فمعظم القراء لهذا العمل الإبداعي يقرأونه بشعور المتربص له والمعادى لأفكاره بسبب الحكم النقدي المسبق له والذي أهله للحصول على الجائزة، إنه ـ أي القارىء ـ يغالب في داخله شعورا خفيا بكراهية ذلك العمل، وشعورا آخر بتمني ألا يعجبه ذلك العمل ..
أما الأثر السيئ الذى يخص المبدع بعد حصوله على الجائزة فقد يظهر في استسلامه لفكرة أنه الأفضل، وهو ما قد يجعله ـ إذا لم يستطع مجابهة هذا الشعور السيىء ـ للتوقف عن التقدم، وهو ما يعنى بداية النهاية ..
لكن الرأي العلمي المحايد يقول إن الجائزة ما هي إلا مجرد توافق آراء مجموعة المحكمين على قيمة عمل ما، وهو ما يعنى أن العمل نفسه قد لا يحظى بالمكانة نفسها فى ظل لجنة تحكيم أخرى ..
لكن بالنسبة لى الجوائز لاتعنى غير المزيد من العمل والتجريب، إنها تشير لي أنني فى مكان ما على الطريق الصحيح، ويجب بذل الكثير من الجهد لمواصلة السير في ذلك الطريق، فثمة أهداف أخرى أكبر وأعظم من كل الجوائز يمكننى بمواصلة السير الحصول عليها، لعل أهمها هو حفر مسار يشبهني ويخصني، وتنقلب الآية ليصبح حفري الذي أصنعه بخطاي هو علامة دالة على الطريق وهادية لغيري إذا ما أراد السير في الطريق نفسه، والجوائز في نهاية الأمر ماهي إلا إشارة يجب تفسيرها بطريقة إيجابية صحيحة ..
• ترجمت مسرحيتك " كوميديا الأحزان" إلى اللغة الإنجليزية في عام 2012، وقد تم تنفيذها عدة مرات من قبل مخرجين أمريكان داخل ولايات مختلفة وفى مدن رئيسيه بالولايات المتحدة من مثل: نيويورك، بوسطن، شيكاغو، ناشفيل،....، و كانت لديك فرصة لحضور بعض العروض و القراءات الدرامية لمسرحيتك داخل الولايات المتحدة. كيف قرأت رد فعل الجمهور الأمريكي، و كيف كان رد فعلك في رؤية مسرحيتك وهى تنفذ على خشبات المسارح الأمريكية بلغة مختلفة وبوضعية ربما لم تخطر على ذهنك عند كتابتها..؟!
ـ هذه المسرحية بالذات وبرغم أنها كتبت لتعبر عن انعكاس فعل الثورة المصرية على الشعب المصري إلا أن بها من المشاعر الإنسانية ما يجعلها معبرة عن مجتمعات أخرى، فثيمات الاضطهاد الواقع على الناس من قبل الشرطة والأنظمة الحاكمة، وحالات النفي والتهمييش الواقعة على البشر، وضياع مشاعر الحب في أزمنة الحروب والأزمات،... كلها ثيمات عابرة للأمكنة والأزمنة في عالمنا ولا تقتصر على الثورة المصرية في 25 يناير فحسب برغم تعبيرها عنها، بل ولا تقتصر أيضا على تجسيد حالة الفعل الثوري، أنها تعبر عن معاناة الإنسان التواق للحرية فى كل مكان وزمان، ذلك الإنسان الذي همشته الحكومات والأنظمة ولم تلتفت إليه، وغالت فى تهمييشها له حتى صارت تعامله على أنه مجرد حيوان، والأدهى من ذلك أن ذلك الإحساس قد تسرب إلى ذلك الشخص نفسه فصار هو الآخر يتعامل وفق إملاءات هذا التصور ..
هذه التعبيرات والتصورات تماست مع ما تصدره من مشاعر وأحاسيس مع الشعب الأمريكي وتناقش معي الكثير ممن شاهدوا العرض باللغة الإنجليزية في أمريكا وأخبروني بأنهم تعرفوا على هذه الشخصيات الدرامية التي يصورها النص وكأنها صادرة من داخل مجتمعاتهم، وتحدثوا عن قدرتها وبالتالي قدرة العرض في التعبير عن بعض مشاعرهم بصدق كبير ..
أنه الأمر نفسه الذي نراه كعرب في معظم نصوص الكتاب العالميين، تلك القدرة التي يضمنونها نصوصهم لكي تستطيع التعبير عن مشاعر البشر وآلامهم وتحولاتهم، أنني أحاول أن أفعل ذلك، أن أرصد وأصور تباين وصراعات النفس البشرية مع نفسها ومع غيرها وبحثها الدائم عن قيم العدالة الاجتماعية والحرية والحب، فإذا ما استطعت تصوير مشاعر ما يحيط بي من شخصيات بشرية وغصت داخلها بالقدر الكافي يمكنني لحظتها أن أعرف أنني بذلك أعبر عن الكثير من شخصيات العالم برغم اختلاف اللون والدين والمكان ..
أما رحلتي لأمريكا فقد استفدت منها في تأكيد ذلك الملمح الإنساني في كتاباتي واستطعت أن أختزن في داخلي ملايين الصور والأفكار عن أشخاص وأماكن وأحداث قد تخرج بعد ذلك كتضاعيف صغيرة في خطوط درامية تشكل قوام نسيج عمل درامي قادم لي، إن السفر بالنسبة لي بمثابة انفراجة جديدة في الذاكرة يصبح بإمكانها بعد الهضم والاختزان أن تقربني بنسبة من الحقيقة، وكلما زادت الأسفار زادت تلك الإنفراجات، وأزددت أنا قربا من الحقيقة ..
• ما وجهة نظركم في وضع المسرح المصري والعربي في الوقت الراهن، وما رؤيتك لمستقبل المسرح العربي ؟
ـ طوال الوقت داخل مسرحنا العرب نتحدث عن وجود أزمة، أزمة في النص المسرحي، وفى رؤى الإخراج وفى الأفكار التي تنتجها العروض المسرحية لكننا لم نفكر أن هذه الأزمة قد تحل إذا ما ترك رموز المسرح العربي مواقعهم وأرهفوا السمع للتجارب المسرحية الجديدة، فلدى شباب المسرح العربي ما قد يبهر شيوخه ورموزه المثقلة بالعجز والخواء فى مرحلتها الأخيرة، النخب المسرحية الآن في الوطن العربي تتصارع من أجل فرض المزيد من سيطرتها وخوائها، أنها تدخل كل يوم في صراع أبدى للبقاء متربعة على عرش المسرح الجديد رغم أنها لم تعرفه ولم تدرسه ولم تفكر في التعرف عليه، لقد اكتفت بتخمتها الفكرية القديمة والتي لم تعد صالحة لإثارة الدهشة في زمن ما بعد الثورات ..
لقد أنتجت الثورات العربية وتوابعها كما معرفيا ومعلوماتيا هائلا تصلح كل تفصيلة فيه لإثارة الدهشة عند معالجتها دراميا داخل نص مسرحي ووفق أدوات كتابية ومعرفية جديدة تختلف عن نظائرها المعروفة والمتوارثة لدى شيوخ المسرح، لذا يجب أن يفسح الشيوخ جزءا من أماكنهم لكى يتجاور جديد الشباب مع جديدهم الذي صار قديما، إنها حكمة الزمن ولا نستطيع إغفالها ..
مستقبل المسرح مرهون بقدرة الكبار على احتواء تمرد الصغار ورعايتهم، ومرهون بقدرة الشباب على استخدام الأدوات المعرفية والتكنولوجية الجديدة في صنع مسرحهم، وعلى التعرف على الثيمات الشكلية والفكرية الجديدة حول العالم، والبحث من خلال هذه المعرفة على خصوصية مسرحية تناسب مجتمعاتهم وتستطيع التعبير عنها، ولا تنسى وهى تعبر عن الإنسان المحلى أن تعبر عن الإنسان الآخر في عمومه أيا كان موقعه على الخريطة ..
المسرح العربي في ظل تصاعد روح التمرد، وفى ظل المعرفة المتنامية التي أنتجتها تلك الثورات والميديا سيستطيع امتلاك قدرات تعبيرية وفكرية أكثر رحابة عن ذى قبل وأكثر تعبيرا عن هموم الإنسان العربى، ذلك كله مرهون برعاية المؤسسات الثقافية العربية لصناع المسرح، وبتدخل رجال الأعمال فى دعمه، وبمرونة العروض المسرحية فى البحث عن طرق بديلة للخروج من الأبنية الأسمنتيه والوصول للناس فى تجمعاتهم المستديمه كالمصانع والشركات والنوادى والأحياء السكنية،...، وتجمعاتهم المؤقته فى الشوارع والساحات والميادين،...
أضف إلى كل ذلك الجدية فى التعامل مع المسرح واعتباره أحد أهم أدوات التنوير فى المرحلة الراهنة بكل تأزماتها وصراعاتها الملتهبة على السلطة، أحد أدوات التنوير الموجهة للسلطة الحاكمة وللشعب المحكوم، وخلاصة الأمر يجب أن يحل المسرح أزمات المرحلة وتحويل معاركها من أرضية العنف المسلح إلى أرضية الحوار والاختلاف بالفكر وصراع المعرفة، يجب أن يحكم المسرح البلاد، وتنتقل أهم فضائلة كفن ديمقراطي إلى الناس فيصبح أحد أهم مفرداته " الحوار" هو السمة الرئيسية الغالبة بين الجماهير المتصارعة ... فهل يحدث ذلك ...؟! إذا أحكم المسرح قبضته على الأمور في البلاد يمكننا أن نتحول لشعب ديمقراطي به من قيم الحرية والحب والعدالة أكثر مما به من صراعات وتناحرات سياسية مرعبة ...