القاهرة 19 اغسطس 2015 الساعة 12:10 م

 تبقى الشخصية الوطنية الجماعية، ذات قوة مستقلة منذ لحظة تشكلها، إنها المحدد العملي لنمط الثقافة والحياة،  وتجسد شخصية الأمة، فالأمم شأن الأفراد، لها شخصيات تتجسد فيها سمات شخصيتها ومزاجها وتراثها الروحي وأنماط الحياة الاجتماعية، وبالضرورة فإن تقاليد الأمم وعاداتها وأدابها وفنونها ولغاتها وحتى أساطيرها، هي تجليات جوهر "الشخصية الوطنية" ومن هنا فإن الشخصية المصرية تجسد جماع السمات والقسمات المتميزة للجنس المصري والثقافة المصرية اللذبن تشكلا في وادي النيل 

ويعتقد بعض المؤرخين أن جانبا هاما من توجه الإسكندر الأكبر " المقدوني " لفتح مصر في عام 332 ق.م كان البحث عن روح مصر ، وكان البحث عن سر روح مصر يستند إلى رؤية تقول بأن أبناء الأمة ـ أي أمة ـ لا يؤثرون في صياغة شخصية أمتهم بقدر ما تسهم هي في تشكيلهم، إذن فإن شخصية الأمة المصرية  "متفردة ومستقلة " بل واعتبرت من صنع الطبيعة ، وليس للأفراد أن ينتهكوا قوانين الطبيعة ، فالإنسان ومجتمعه هم أحد إمتدادات الوضع الطبيعي الموجود في مصر ، وليست ألإكارهم وأحاسيسهم ، وسلوكهم ، إلا مجرد مظاهر للحتمية الصارمة للطبيعة على أوضاع الحياة ، وإلى هذه الدرجة التي دفعت البعض للقول بأنه حتى منظومات المعتقدات الإنسانية ليست أكثر من مجرد خرائط إدراكية للبيئة المادية التي يتواجدون فيها ، وعندما تسود بيئة مستقرة وثابتة كما في مصر ـ على سبيل المثال ـ يكون التفكير الإنساني ثابتا ، وبمعنى أنه إنعكاس للبيئة ، ( حسن عارف : عبقرية الأمة ص1 و11 ) وهي نفس الرؤية التي يعبر عنها المفكر المصري الراحل توفيق الحكيم : بأن " في مصر أفكار ثابتة لم تتغير إلآ قليلا ، منذ عهد الأساطير الأولى حتى اليوم ، ذلك لأنها متصلة بصميم هذه الأرض ومستوحاة من نفس طين هذا الوادي الخصيب ، ومن نفس هذا النيل الخالد ، إن أفكار الإنسان وعقائده ودياناته وخرافاته إنما تولد من مظاهر الحياة التي حوله ( من كتابه تحت شمس الفكر الطبعة الثانية 1941 )

 واتصالا بما سبق ، في الفصل الخاص بـ " قوانين الطبيعة .. الحتمية البيئية "، يأتي المؤرخ والمفكر الفرنسي جوستاف لوبون ليؤكد في كتابه ( الحضارة المصرية ـ ترجمة صادق رستم ـ القاهرة 1924 ) أن البيئة هي بمثابة القوة الفطرية التي صاغت الحضارة المصرية وأضفت عليها شخصيتها المحددة .. وبناء على نظرية  "جوستاف لوبون " فإن لكل أمة شخصيتها الخاصة المتفردة ، وكل جماعة قومية لها شخصية وعقلية وروح ، وبالضرورة فإن أية أمة محكومة بسمات وملامح شخصية سائدة ، تتوارثها عن أسلافها، ويحددها بصورة نهائية الوسط الفيزيقي والسيكولوجي الذي يعيش فيه أفرادها، ويرى "لوبون" تأسيسا على ذلك ، أن الشخصية القومية قوة مستقلة منذ لحظة تشكلها .. 

ويمكننا أن نجد في الكتابات السوسيولوجية والأنتروبولوجية لـ"جوستاف لوبون" وخاصة القسم الخاص بمصر القديمة من كتاب " الحضارات الأولى ـ إصدار باريس 1889 " وترجم في مصر 1924 بعنوان الحضارة المصرية" ، نجد خضوع الفكر الإنساني لقوة الطبيعة كأمر مقدّر ومطلق .. ويفسر " حسن صبحي " هذه النظرية، بالقول : أن تتابع الزمن والتاريخ لم يحدث إلا تغييرات طفيفة في حقائق الشخصية المصرية الثابتة، وكأن الزمن يتكيف مع ثبات البيئة المصرية، ولذلك فإن الحياة بصورها المختلفة في مصر، تخضع لظواهر الطبيعة التي لم ينلها الدهر بشئ كثير من التغيير  .. ومن يعلي من تأثير وأحكام البيئة ، فإنه يرى أن الظروف الجغرافية والمناخية الفريدة قائمة منذ بدء الحضارة المصرية ، وهي التي شكلت خلفية العصر الفرعوني الطويل، وهي نفس الظروف التي سادت مصر حتى الوقت الحاضر، وكان حتما على المصريين أن يتأثروا بهذه البيئة الثابتة، ولذلك فإن الجماعة الاجتماعية التي تشكل مصر، تتحلى بالضرورة بسمات واحدة، حتى في تلك العصور التي يفصل بينها آلاف السنين، وليس غريبا أن أولئك الذين غزوا مصر واستقروا بها لأجيال، فقد فقدوا سماتهم العرقية، واستسلموا لقوة البيئة الطبيعية، واصبحوا مصريين، كما لو أن آبائهم وأجدادهم عاشوا في مصر منذ العصر الفرعوني ( من كتاب مصر الحديثة للدكتور محمد حسين هيكل ) .. كل من جاء إلى مصر ، كغزاة ، أو قراصنة ، أو كمهاجرين .. رومان ويونانيون ، عرب وأفريقيون، أتراك وشراكسة، إمتزجوا بعنصرها الفرعوني، وعندما تمازجوا، إختفت جميع خلافات الدم والعصبية العرقية، إنصهروا في قالب مصري، وارتبط بعضهم البعض بسمات مشتركة، وروابط من تقاليد مشتركة، وأصبحت سماتهم واحدة، ومشاعرهم متشابهة، وكذلك أمزجتهم .. وبالضرورة ، فإن هذه النظرية تنفي القول بأن شعب مصر ظل محكوما بأمم أجنبية منذ نهاية عهد الفراعنة، بل وتؤكد على أن مصر حافظت على استقلالها، لأن الحكام الأجانب الذين حكموها، تمصروا في نهاية الأمر، وأن نجاح الأجانب في حكم مصر وشعبها لفترات طويلة، إنما يعود إلى أن أعمالهم تحولت بالتدريج إلى تلبية دوافع وبواعث الوطنية المصرية، فقد كانت مصريتهم هي المصدر المطلق لقوتهم وعظمتهم، كلهم تمصرت روحهم : البطالمة، والفاطميون والأيوبيون، والمماليك إلى حد أن أصبح هدفهم استقلال وقوة مصر، وهو نفس هدف الأمة المصرية ..

 ويتواصل هذا التفسير بأحكام وتأثير البيئة المصرية، على الشخصية الوطنية ومن وفدوا إلى مصر : غزاة أو مهاجرين .. إلى القول بأنه "رغم أن غزو الإسكندر الأكبر للبلاد، دشن مرحلة جديدة في التاريخ المصري، وأن لفتح اليوناني لمصر يمثل نقطة تحول بإنهائه لسيادة الحضارة الفرعونية لآلاف السنين، إلا أن مجرى التاريخ بعد دخول الإسكندر إلى مصر ، يأتي تأكيدا على مصداقية هذه النظرية، إذ أن حكم الإسكندر نفسه لمصر لم يدم أكثر من سنوات قليلة، وسرعان ما وقعت الأسرة التي أسسها بطليموس الأول، الذي حكم مصر بعد الإسكندر، في أسر روح وادي النيل، وأصبحت مصر ذلك العهد مستقلة كما كانت في عهد الفراعنة".. (سلامة موسى : الوطنية والعالمية 1930) 

.....

وإتصالا بما سبق .. يمكن القول بأن هناك محددات رسمت أطر الشخصية المصرية وسماتها الخاصة .. وهناك حواكم كان لها التأثير أيضا في عادات وتقاليد وسلوكيات وحتى أنماط الحياة المختلفة للشخصية المصرية .. وهناك أيضا عوامل وعناصر غير مادية، غير ملموسة، ويراها البعض من أسرار روح مصر المركبة، ولكن كان تأثيرها محسوسا في صور التجليات والإبداعات الخاصة بالشخصية المصرية، وربما يتجاوز البعض ويرى أن هذه " الروح " هي صانعة الشخصية المصرية، أو  التي ساهمت بقدر كبير في تشكيل وتميز الشخصية القومية المصرية، وبمقدار ما يقول به محمد زكي صالح، بأن الشخصية القومية ليست جماع شخصيات الأفراد، وإنما تنبع من الروح القومية التي تؤثر على الأفراد بأكثر مما تتأثر بهم، إنها تطبع بصمتها على الأفراد ولا تتأثر بهم، إنها لا تنبع من الجيل الحالي وحده، وإنما من الأجيال السابقة كذلك، إنها نتاج آلاف السنين من التاريخ ( إحياء الخلق القومي : محمد زكي صالح 15/1/1927 ) وهو يعطي مكانة بارزة لتواصل وترابط الأجيال عبر التاريخ حتى " أننا ورثنا عن أجدادنا طباعهم ومشاعرهم وروحهم، وقد ظلت هذه الطباع كامنة في الأفراد أو الجماعة، تنتقل من جيل إلى جيل " .. وبذلك يؤكد خصوصية سمات الشخصية المصرية، وباعتبار أن وحدة أصل الأمة، وحياتها الجماعية المديدة في إقليم واحد، يجعل الأفراد متشابهين في السمات القومية، وفي ميولهم ومشاعرهم وأنماط حياتهم، وأن الاختلاف فقط يرتبط بالسلوكيات والتصرفات الأخلاقية القابلة للتأثر بالظروف المحيطة في كل زمن، المادية والثقافية..

ومصدر التأثير على تشكيل الشخصية المصرية، ووفقا لهذه الرؤية، يأتي من الاستمرارية الوراثية للمصريين، وإلى تلك الدرجة التي يراها البعض تأكيدا على تفوقهم الفسيولوجي على الأجناس الأخرى، حتى أن الجماعات الأجنبية التي دخلت مصر، قد فقدت بالتدريج، سماتها الوراثية الأصلية، وحملت تلك المواصفات الفطرية للمصريين، وبمعنى أن الدم المصري هضم ما عداه من الدماء، وظل منتصرا دائما عند كل اختلاط ، وبقيت الشخصية المصرية " مستقلة " طوال الحقب التي خضعت مصر فيها للاحتلال الأجنبي .. وعلى سبيل المثال، لم يؤثر الاحتلال البريطاني ــ على مدى نحو سبعين عاما ــ على ثقافة ولغة وعادات وتقاليد، وسمات الشخصية المصرية، بل ورحل الاستعمار البريطاني عن مصر، وغالبية الشعب لا يجيد اللغة الإنجليزية في ذلك الوقت 1954 في حين أن الاستعمار البريطاني فرض لغته على الشعوب الأخرى، الهند وباكستان مثلا، وشعوب الدولتين أكثر إجادة للغة الإنجليزية،  والحال نفسه مع الاحتلال الفرنسي، والصورة نجدها في دول المغرب العربي  (تونس والجزائر والمغرب ، وموريتانيا) وإلى حد كبير في لبنان ، وإلى درجة ما ولكنها ملحوظة في سوريا، والصورة أكثر وضوحا في خضوع الشخصية القومية لثقافة ولغة الاحتلال، نجدها في دول القارة الإفريقية، ولغة التخاطب إما إنجليزية أو فرنسية أو إسبانية !! باستثناء الشخصية المصرية ، التي حافظت على سماتها ولغتها وثقافتها وأنماط حياتها، وهذا جانب آخر من صفات الشخصية الوطنية المصرية .. 

ومن تأثير الإحتلال البريطاني، نجد أن اللغة الإنجليزية هي الرسمية،  أو شبه الرسمية باعتبارها لغة التخاطب ، في الدول الأفريقية: نيجيريا، جنوب أفريقيال، كينيا، اوغندا، غانا، الكاميرون، زيمبابوي، مدغشقر، مالاوي، زامبيا، رواندا، سيراليون.. وغيرهم !! والحال كذلك بالنسبة للغة الفرنسية، في كل من : الكونغو الديمقراطية، ساحل العاج، السنغال، جيبوتي، جزر القمر .. أما اللغة الإسبانية فهي الدارجة في غينيا الإستوائية .. ومن الواضح تأثير اللغة الفرنسية في الدول  العربية الأفريقية، رغم محاولات التعريب منذ الستينيات من القرن العشرينن ولكنها  لغة التفاهم  الدارجة في المغرب (واستمر الإحتلال الفرنسي نحو 43 عاما من 1912 إلى 1955) وفي تونس (استمر الإحتلال الفرنسي نحو 75 عاما من 1881 إلى 1956 ) وفي الجزائر لاتزال اللغة الفرنسية هي الغالبة ، وكان تأثير الإحتلال الفرنسي نافذا لغة وثقافة، فقد استمر الإحتلال الفرنسي نحو 130 عاما من 1830 إلى 1962 ، وإجادة الشعب اللبناني للغة الفرنسية ن وبدرجة أقل في سوريا، رغم ان افحتلال الفرنسي لسوريا الكبرى "سوريا ولبنان لم يستمر اكثر من 26 عاما فقط من 1920 إلى 1946 ولكن الصورة مختلفة تماما مع الشخصية المصرية التي خضعت للإحتلال البريطاني  72 عاما .

وهكذا نجح المصريون في الحفاظ على نقائهم العرقي، وبدلا من أن تكتسحهم الجماعات ذات الأصول الأجنبية، تمكنت الشخصية المصرية من الاحتفاظ  بنقائها، وإخضاع القادمين الجدد لوادي النيل لها، وفي كل حقبة زمنية، منذ نهاية العصر الفرعوني، فحكام مصر، الذين جاء معظمهم من خارج البلاد، سرعان ما وجدوا أنفسهم خاضعين للوسط الطبيعي والإطار الاجتماعي السائد، وقد استوعبت مصر جميع الغزاة الذين قدموا إلى البلاد، وبالتالي فإن خلفاءهم فقدوا بالتدريج، سماتهم الأولى، واكتسبوا السمات المميزة لوادي النيل، ويتضمن هذا تشربهم للاتجاه السائد بالخضوع لحياة السكينة والدعة، ومن هنا ــ كما يقول د. محمد حسين هيكل، في كتابه " في أوقات الفراغ " ــ  يكمن تفسير عدم تحدي القوى السياسية " السلطة الحاكمة " التي نادرا ما كان يطاح بها ، لخلفائهم ! 

إذن .. فإن الوسط الطبيعي " البيئة " كان له تأثير على الوسط الاجتماعي، وهي صلة يصفها " محمد حسين هيكل " بأنها صلة بين " المبدع وإبداعه " ولذلك كان للشخصية المصرية مميزات خاصة إمتازت بها منذ القدم، ومن المحتم أن الهدوء والاعتدال، الذي يميز البيئة الطبيعية لمصر، قد ترك بصمته على التكوين الفكري الوجداني للشعب المصري، وعلى طباعه وأخلاقه وثقافته، وأن الهدوء والاستقرار الملحوظ، قد طبع الشخصية المصرية بطابع خاص، ونجد أن السلوك يتسم بنفس الاتجاه نحو الاستسلام والإذعان ، وبمعنى غياب الرغبة في التغيير، وبدلا من السعي للتغيير، يتعلم المصريون العيش على القليل، وينتظرون في صبر، زمنا يأتي بالأفضل ، ويرى " هيكل " أن هذه السمات السلبية للشخصية القومية المصرية، هي التي تفسر فتور المصريين تجاه السياسة وعدم مشاركتهم فيها، فالتغيرات الكثيرة للنظم التي شهدتها مصر عبر آلاف السنين، وصعود حكم وسقوط آخر، لم يمس أهل البلاد على الإطلاق، والمصريون لم يفكروا في الاشتراك في أي نظام أو التورط في صراعاته .. وكما أنهم لم يروا مصلحة في إسقاط حاكم قديم، فهم يبدون قبولا طوعيا ينير حكم جديد، وبنفس الطريقة لا يكترثون، على الإطلاق، بكل ما يتعلق بالإدارة السياسية والتنظيم، فإذا ما إنتصر طامع في السلطة، وأصبح حاكما، فإن المصريين يخضعون لسلطانه، وعلى الفور وتلقائيا يتلقى تفويضا منهم بالحكم !! 

وهذه الرؤية التي ترسم إحدى سمات الشخصية المصرية، والتي أشار إليها المفكر المصري دكتور محمد حسين هيكل في الثلاثينيات من القرن العشرين، قد فندتها أحداث ثورتي 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013 وإذا كانت الشخصية المصرية تتسم بالسكينة والصبر والإيحاء بقبول الأمر الواقع، إلا أن صمت الشخصية المصرية طوال الوقت يبقى مسموعا، وقد تتململ ضيقا بأحوالها، ومما ترى حولها من آثام ومظالم ، وتبحث عن خلاص، وكانت الصورة واضحة في العصر الحديث في العام 1805 حيث بحث المصريون عن خلاص، وفي إطار نضال السيد عمر مكرم ضد الاستبداد والمظالم، نجد أنه قاد النضال الشعبي ضد مظالم الأمراء المماليك عام 1804م، وكذا ضد مظالم الوالي خورشيد باشا سنة 1805، ففي يوم 2 مايو سنة 1805 م بدأت تلك الثورة، حيث عمت الثورة أنحاء القاهرة وأجتمع العلماء بالأزهـر وأضربوا عن إلقاء الدروس وأقفلت دكاكين المدينة وأسواقها، واحتشدت الجماهير في الشوارع والميادين يضجون ويصخبون، وبدأت المفاوضات مع الوالي للرجوع عن تصرفاته الظالمة فيما يخص الضرائب ومعاملة الأهالي، ولكن هذه المفاوضات فشلت، فطالبت الجماهير بخلع الوالي ( العزل والرحيل)وفي يوم 13 مايو قرر الزعماء في دار الحكمة عزل خورشيد باشا وتعيين محمد علي بدلا منه بعد أن أخذوا عليه شرطًا: “بأن يسير بالعدل ويقيم الأحكام والشرائع، ويقلع عن المظالم وإلا يفعل أمرًا إلا بمشورة العلماء وأنه متي خالف الشروط عزلوه”..

 وإذا تأملنا هذه الأحداث، نجد أن هذه ثورة شعبية ضد الاستبداد، قامت بتولية محمد علي حاكمًا على مصر من خلال معاهدة وشروط بين محمد علي “الوالي الجديد” وبين زعماء الشعب، وأقرت مبدأ الشورى، وعدم اتخاذ قرار بدون الرجوع لممثلي الشعب، وهم العلماء والأعيان، ولو سارت الأمور في مسارها الصحيح بعد ذلك لكان إيذانًا بروح من الحرية والشورى واحترام إرادة الشعب وخياراته يسود مصر، ولكن محمد علي التف على هذا الأمر وأفرغه من مضمونه فيما بعد .. وتكررت الصورة في عام 1952 وبعد سنوات ضغطت على حياة المصريين بالفقر والجهل والمرض، وحولته إلى شعب غالبيته من "الحفاة"، والسعيد منهم من يلجأ إلى الوساطة والمحسوبية في وطن كان غريبا عن أبنائه، ومع توحش الفساد والمفسدين، وكان للقصر وحاشيته الكلمة العليا، سلطان وسلطة، وهناك سطوة حاكمة ممثلة في السفارة البريطانية، ونفوذ أيضا للسفارة الأمريكية، وأكثر من 135 ألف جندي بريطاني يحتلون مصر، وهناك مصالح ربطت بين كل صورالسلطة والسطان والسطوة، وبين أصحاب الإقطاعيات وما تملك من أرض وبشر "فلاحين"،  ورؤوس أموال تتسلح بامتيازات نافذة، ولكن الشخصية المصرية إنتفضت في صورة  شباب الضباط الأحرار ( 114 ضابطا من شباب مصر أكبرهم سنا جمال عبد الناصر 34 عاما ) وتغير وجه مصر سياسيا وإقتصاديا وإجتماعيا .. 

وحين طالت حبال صبر الشخصية المصرية، إنتفضت أيضا وكسرت القيد ، قيود القفص، ومدت يدها لتستعيد الوطن، في الخامس والعشرين من يناير 2011 وبنفس الصورة كان الخروج الباهر غير المسبوق في التاريخ الإنساني كله ـ على الأقل ـ يوم 30 يونيو 2013 وظهر الجوهر الأصيل في الشخصية المصرية . 

.....

وفي محاولة لفهم الشخصية المصرية وتفردها ، كان للبيئة المصرية الكلمة العليا، باعتبار أن الشخصية المصرية تشكلت في بوتقة البيئة، وأصحاب هذه النظرية يدفعون بالقول ـ وهو منطقي ـ بأن وجود البشر المستمر داخل حدود إقليم محدد بهيئته المادية الخاصة، هو الذي يحيل أهل هذا المكان عبر الزمن، إلى جماعة متميزة، أو أمة، وفوق ذلك فإن الأمة ليست مدينة بوجودها للأرض التي تعيش فيها فحسب، وإنما الأرض كذلك هي مفتاح طبيعة الأمة وقوامها، حيث لا يوجد مكانين متماثلين في العالم، وبالضرورة لا يمكن أن يكون هناك جماعتين متماثلتين ، ومن ثم فإن الأمة أو الجماعة، تستمد من الأرض سماتها المادية والاجتماعية والعقلية الخاصة بها، وكذلك تميزها عن جميع أمم الأقطار الأخرى ( علي محمد خليل : حضارة مصر ثمرة الإقليم / مايو 1931 ) 

وكان للبيئة الاجتماعية والحالة التاريخية أثر على العقائد والمعتقدات والأفكار وحتى المشاعر والعواطف، فهناك نزوع لا يقاوم لدى الشخصية المصرية، نحو القضاء والقدر، والقوى " الخارجية " والمؤثرات غير المنظورة ، وأصبحت هذه السمة تعبر عن المزاج الجمعي المصري، حتى أن الحكام الأجانب الذين قدموا إلى مصر، لم يفشلوا فشلا تاما في تغيير هذا الملمح القوي فحسب، بل أن خضوعهم له يقدم دليلا قاطعا على أن هذه "القدرية" قد تأصلت في أعماق الشخصية المصرية .. 

.....

وتميز وتفرد تجليات الشخصية المصرية، يرتبط ـ فيما أعتقد ـ بتأثير عامل غير مرئي، غير منظور، ولكنه متواجد بتأثيره، وهو ما يراه عدد كبير من المفكرين والفلاسفة في الغرب " سر روح مصر " حتى أن بعض المؤرخين يعتقدون أن أهم الأسباب التي وقفت وراء رغبة الإسكندر المقدوني لغزو مصر 332 ق.م، كان البحث عن " روح مصر " وهو بالطبع  ـ أي القائد المقدوني ـ كان تحت تأثير الفلسفة والأساطير الإغريقية .. ولم يكن الإسكندر الأكبر وحده ، بل جاء نابليون بونابرت بعد نحو ألفي عام ، ليعبر عن ولعه بهذا السر، وكان يعتقد بوعي كامل لأحكام التاريخ والجغرافية، أن " مصر هي أهم دولة في العالم " ومصر بالطبع الأرض والإنسان، الموقع والشخصية المصرية، ومن هذه الرؤية وجه أول رسالة  "بيان " للمصريين، مع الخطوة الأولى للحملة الفرنسية على مصر 2 يوليو 1798، أو " حملة النيل " كما سماها ، يخاطب وجدان الشعب المصري بمشاعر دينية، وأنه "يحب المسلمين، ويحترم النبي، ويعتزم بناء جامع لا مثيل له في العالم، بل وحتى  "سيعتنق الدين الإسلامي " .. كان " بونابرت " على وعي بسمات الشخصية المصرية ، تديّنها والنزوع نحو القضاء والقدر، ولم تنطل إدعاءاته على المصريين، حتى رحل سرا ذات مساء عائدا إلى فرنسا، ومهما كانت الأسباب، وفي المقدمة انتفاضة ثورة المصريين ضده .. ولكن تأثير الشخصية المصرية كان نافذا على القائد الثالث للحملة الفرنسية الجنرال "جاك مينو" الذي اختار الإسلام دينا له، والزواج من مسلمة ، وسمى نفسه " عبد الله مينو " ..

هذا هو سر "روح مصر " التي لا تستطيع أن تدفع أحدا يعيش على أرضها إلى الاغتراب عن حياتها .. إن "روح مصر" تكوين مركب .. صبر لا نهاية له .. وقلق بغير حدود .. راضية وهي تبحث في كل اتجاه، ساكنة وهي تتحرك طول الوقت، صامتة ولكن صوت صمتها مسموع ليل نهار .. وهي بصمات على الشخصية المصرية، بفعل سر روح مصر، والذي فسره الكاتب الفرنسي " أندريه مالرو " بأن مصر هي التي اخترعت الأبدية .. وهذا سرها .. 

وربما كانت " روح مصر " هي التي شكلت الحس التاريخي والوجداني للشخصية المصرية، والتي تفردت أيضا بتجليات المشاعر وقت الأزمات والصدمات، ولها القدرة على التمييز في الزمن الحرج وبتقديرات حساب لا تخطئ .. ولأول مرة في التاريخ الإنساني ـ مثلا ـ نجد شعبا يطالب القائد المنهزم بالبقاء، وترفض تنحيه وتحمله المسؤولية، وتزحف الجماهير تلقائيا دون توجيه أو تحفيز، وتطالب القائد  "جمال عبد الناصر" يومي 9 و10 يونيو 1967 بالصمود، وإعادة بناء القوات المسلحة، وأن يواصل المعركة لتحرير الأرض، وهو ما حدث بعد ثلاثة أسابيع فقط من الهزيمة، في أكثر من مواجهة ، ثم تبدأ أطول حرب استنزاف في التاريخ، اقتربت من ثلاث سنوات، كبدت إسرائيل خسائر لم تتحملها، وأعيد بناء الجيش المصري خلال 3 سنوات، ومع بدء التخطيط لمعركة ،1973 وتحمل الشعب المصري راضيا قانعا، بضريبة إزالة آثار العدوان حتى موعد تحرير الأرض .. 

وكان الحس التاريخي والوجداني للشخصية المصرية، صادقا أيضا في رؤيته لصدق نوايا وعزيمة الرئيس عبد الفتاح السيسي، حين طلب من الشعب تمويل حفر قناة السويس الجديدة ، 6 / 8 /2014 وبرزت تجليات الاستجابة غير المسبوقة تاريخيا أيضا، بأن يتم جمع نحو 66 مليار جنية مصري ( أكثر من 9 مليارات دولار ) خلال أسبوع واحد، ثم يصدر رجاء البنك المركزي المصري من المصريين بالتوقف عن التمويل بعد جمع الاكتتاب المقرر، ورغم طوابير المودعين وهي تنتظر فرصة المشاركة .. 

هذه التجليات ـ فيما أظن ـ إحدى بصمات " روح مصر " على الشخصية المصرية . 

..... 

هناك جانب آخر من جوانب تركيبة الشعب المصري، ووجدانه وضميره .. فالشعب المصري لأسباب جغرافية وتاريخية ــ النيل الممتد، والوادي المنبسط، والحياة المتداخلة ــ شديد الإحساس بوحدته، ولقد أعطته الصحاري والبحار المحيطة به شيئا معقدا من الشعور بالاكتفاء إلى درجة الإنعزال، فوادي النيل أولا وحدة جيدة التحديد، مكتفية ذاتيا، ومعزولة، أنه كيان مستقل، متحرر من المؤثرات الخارجية، وهو محاط من الغرب والشرق والجنوب، بصحارى ضخمة، تشكل حاجزا فعالا بينه وبين جيرانه، فالصحاري تفوق أي مؤثرات مناخية خارجية أو " أجنبية "، وفي الشمال يحد البحر المتوسط وادي النيل ويعزله عن المناطق المناخية الشمالية، ونهر النيل نفسه يقسم الوادي طوليا، وهذا يعطيه شكله المنفرد، شريط طويل ضيق من الخضرة، يتميز بتجانس كبير على طول امتداده، ويتناقض بشدة مع الأصفر المقفر للصحراء على جانبيه، ولقد أدت العزلة الجغرافية لوادي النيل، وجريان نهر النيل الأبدي وسطه، إلى ظروف مناخية متفردة .. وبفضل الحماية ضد التقلبات المفاجئة للطقس، التي يوفرها له موقعه واستواء أرضه، وقلة التناقضات الطبوغرافية، ومع الغياب شبه التام للأمطار والثلوج، وكذلك التقلب القليل نسبيا للحرارة من موسم لآخر، يضاعف من هدأة السكون والعزلة ، وقد انعكست هذه الطبيعة على سمات البشر، ومن الواضح أن الأبعاد الإنسانية للشخصية المصرية تتسم بنفس تلك الصفات .

وفوق كل ما تقدم .. كان تأثير حقيقة (وحدة التاريخ المصري) أي تأثر سمات الشخصية المصرية بمخزون التجارب المصرية المتميزة المتراكمة بالتدريج، وهذا المخزون يمثل الوعي الجماعي عند الأجيال المتعاقبة، ليخلق ذاكرة جمعية مشتركة بين جميع المصريين، كل جيل يستمد ذكرياته من هذا المخزون الجماعي، بينما يضيف إليه في الوقت نفسه طبقة جديدة، فالتاريخ المصري كله، برغم التنوع الواضح في فتراته ونظمه وثقافاته، يمثل كلا واحدا موحدا، غير قابل للتقسيم ، وهذا التاريخ العضوي المصري يتمتع بالاستقلالية عن المؤثرات الخارجية والأجنبية، وهو محكوم ومقرّر بآليات نمو داخلية بيئية واجتماعية، تخص وادي النيل وحده، فقد أدت حتمية الطبيعة إلى قوانين تحكم التاريخ المصري، فالضغوط الخارجية التي تعرضت لها مصر، كان من المحتم أن يمتصها النمط الزمني الذي تفرضه بيئة وادي النيل الأقوى أثرا ( محمد زكي صالح " إحياء الخلق القومي") وهكذا فإن التاريخ المصري هو قصة التداخل بين الجماعة الإنسانية المصرية ومحيطها المادي .. وهنا يتضح معنى "قانون التمثل" التاريخي، والذي بمقتضاه تتحدد صلة الشعوب، واللغات، والأديان، والحضارات، بوادي النيل، وكيف خضع سكانه لتفوق مصر المادي والروحي، فبدلا من أن تؤثر " القوى الخارجية " في الشخصية المصرية أو تغيرها، وقعت هذه القوى تحت تأثير الشخصية المصرية، وفقدت هويتها الأصلية بعد أن أعيد صياغتها في صورة مصرية، وصارت في النهاية جزءا لا يتجزأ من مصر، ومن التركيبة الجماعية المصرية، ولذلك لم تترك القوى والأطراف الخارجية، من الهكسوس، والفرس، والنوبيون، واليونان، والرومان، والبيزنطيون، والمماليك، والأتراك العثمانيون، لم يترك أي منهم أدنى تأثير على ثبات وقوة الشخصية القومية المصرية، بل إن تلك الشخصية هي التي تركت بصماتها عليهم، مصّرتهم، وأخضعتهم للأنماط التاريخية المصرية .. 

إن الرسوخ التاريخي للشخصية المصرية ، يؤكد وحدة التاريخ المصري غير القابلة للتقسيم، وتنفي فكرة " التحقيب " بتقسيم التاريخ المصري إلى حقب منفصلة، لأن الشعوب، وليس السلطات الحاكمة، والمجتمعات وليس النظم السياسية الفوقية، والشخصية القومية، وليس سمات الحكام، هي جوهر التاريخ، وهي التي تشكل محتواه، فضلا عن أن ذوبان جميع القوى الخارجية في الشخصية المصرية، دليل عملي على عدم قابلية التاريخ المصري للتقسيم، وأن الأمة المصرية ككل هي البطل الوحيد في التاريخ المصري، وأن هذا التاريخ ليس إلا سيرتها الجمعية .. 

ومن هنا لا يمكن فصل تجليات الشخصية المصرية من حقبة زمنية إلى أخرى، بل إن أعظم إتجار للأمة المصرية، هو دورها كنموذج يحتذيه الجنس البشري في التواصل التاريخي ومنذ فجر التاريخ الإنساني، ولا عجب إن حظى العصر الفرعوني الطويل بمكانة هامة في التاريخ المصري، فالأمة المصرية لم تأخذ شكلها المتفرد في أكمل صورة إلا في ظل حكم الفراعنة، حيث تبلورت شخصيتها القومية المتميزة، وفي العصر الفرعوني أيضا، أخذت مصر مكانها كواحدة من البلاد الرائدة للعالم .. 

.......

.......

أدى تفاعل كل تلك العناصر والعوامل السابقة، إلى نمط محدد للشخصية المصرية، وبمقدار ما يقول به المؤرخ والفيلسوف الفرنسي " جوستاف لوبون " إن كل أمة محكومة بـ " شخصية سائدة " تتوارثها عن أسلافها، ويحددها بصورة نهائية الوسط الفيزيقي والسيكولوجي الذي يعيش فيه أفرادها، وهي المحدد العملي لنمط الثقافة والحياة .