القاهرة 18 اغسطس 2015 الساعة 02:35 م
الحقيقة الكبرى في تاريخ مصر الحديث ، أن الشعب ھو صانع الأحداث ، حين قرر أن يقول كلمته ويمتلك مصيره ، ويفتح أفق المستقبل أمامه ، وفي لحظة تاريخية سوف تظل شاھدا على كتابة شھادة ميلاد مصر من جديد ، مع عودة الروح إلى الوطنية المصرية الجامعة ، وإستعادة أمل غاب طويلا وراء السحب الداكنة التي تكاثرت في سماء مصر .. وبعد أن خرج الشعب المصري كله، بأجياله ، وبطبقاته ، , وبطوائفه ، , يمسك بالشرعية في يده ، في ھذا المنعطف التاريخي ، يجسد حلم خلاص مصر ، ويفرض إملاءاته لترتيبات المستقبل..
ما قبل 25 يناير 2011 كان لايبعث على الأمل والتفاؤل ، ويوحى بأن الحال لن يتغير ، ولاسبيل لإزاحة النظام .. بل كان وضع الأنظمة العربية غريبا ، حافظ الأسد ــ في سوريا مثلا ــ مكث 40 عاما في سدة الحكم ، والقذافي في ليبيا 40 عاما ، ومبارك في مصر 30 عاما ، وزين العابدين في تونس 23 عاما ، وفي ظل هذا الشكل الثابت لم يكن ممكنا أن يأمل أحد في العالم العربي في التغيير ، وكأن الشعب العربي قد تعود على هذا كأسلوب حياة !! وفي حين كانت الأوضاع الداخلية في مصر تنذر بقرب الإنفجار ، ولم يعد بالإمكان إستمرارها ، لأن ما حدث كان عبارة عن تناقضات إجتماعية وسياسية وفكرية .. وفي السنوات الأخيرة من نظام مبارك ــ وتحديدا فيما بعد عام 2004 ــ كان القول الغالب في مصر ، أن البلد تقف على أبواب أزمة خطيرة لابد من تداركها ، وإلا فإنها ستؤدي إلى عواقب وخيمة ، وأن مصر مقبلة على توترات ، إذا لم نعالج أسبابها بيقظة ، فإنها قد تصل إلى ما هو أكثر من توترات ، وأن أبعد الإحتمالات عن التصور هي أقربها إلى الوقوع ، لأن أسوأ ما يمكن أن يواجه مجتمعا هو أن يجد أمامه ظروفا قاسية ، ولايجد أمامه إلا خيارا واحدا ، إلا طريقا واحدا للتصرف لابديل له ، وأن معظم المشاهد العنيفة في دول عديدة تحركت لمثل هذه الأسباب !!
وللإنصاف ــ وبحق الشهادة للتاريخ ــ لم يكن أحد في مصر يتوقع أن تتحول المشاهد العنيفة المتوقعة ، إلى حالة غير مسبوقة في تاريخ مصر الحديث ، إلى الإنفجار العظيم بثورة شعبية سلمية تدفع أمامها بشرعية الملايين ، وبمشروعية ما تطالب به ، وأن تتحرك بقوة العاصفة الشعبية إلى آفاق المستقبل الذي نحلم به .. وكان الحلم بعيدا جدا !! كان الحلم بعيدا .. ولكن لم يتوقع أحد أن يكون شباب مصر هم الطلائع التي تقود حركة الجماهير، بعد أن فجروا ثورتهم، ولم يتحرك الشباب في ميادين وشوارع الثورة ، على هدى شعارات أيديولوجية حزبية ، كان تحركهم ذاتيا وبحيوية دماء الشباب ، والخوف على مستقبلهم ، وكانت لديهم القدرة على تحريك الشعب المصري على مسار ثورتهم ، وإستعادة روح مصر الوطنية الجامعة .. وإنفجرت الثورة من حيث لم يتوقع أحد ، وحارت كل القوى في عملية التوصيف ، خاصة أن أى ثورة في التاريخ كان فيها الفكر والقيادة ، ولأن ثورة 25 يناير كانت جديدة ، ومفاجئة ، وكل الأطراف احتاروا في توصيفها ، واتخاذ موقف منها ، أصبحت التساؤلات القائمة وقتئذ تحمل قدرا كبيرا من الحيرة نفسها : إلى أين ؟ ومتى ؟ وماذا بعد ثورة الغضب الشعبي ؟! وإن كانت الإجابة قد سبق الإعلان عنها مع الحشود الشعبية : لن تنازل عن الحلم الذي خرجدنا من أجله ..
وھناك حقيقة كبرى لا يمكن تجاوزھا ، وتقف على رأس توصيف سمات الشخصية المصرية وتجلياتها، وھي أن القيمة العظمى للحظة التاريخية الفارقة في تاريخ مصر الحديث ، كانت حاضرة في موقف جيش الشعب من ثورة الشعب ، ومنذ أن تحركت الملايين وفي طليعتھا الشباب ، تريد إسقاط النظام ، وأن تتحرر من عبء ثلاثة عقود أصابت أعصاب الأمة وطاقاتھا ومواردھا بالترھل ، حتى أصبحت غير قادرة على أن تصلب عودھا!!
والشاھد.. أنه في لحظة من تاريخ مصر ، كانت مشحونة بالخطر ، ومعبأة بالقلق ، أثبت الجيش المصري ــ الرمز والعقيدة ــ أن الولاء والإنتماء أولا للشرعية الشعبية.. وإذا كانت القوات المسلحة قد دفعت إلى ميادين الخروج بحقائق الأشياء ذاتھا ، وطبائع الأحوال ذاتھا ، إلا أن تواجدھا في ساحات الثورة وشوارعھا ، لم يكن في صورة الحكم الفاصل بين الشعب والنظام الحاكم ، ولكن كان تواجدا بدواعي حماية الشعب، وھو أصل الشرعية ومصدرھا ، وبوعي وإدراك لقضية وطن بأسره في ھذا المنعطف التاريخي .. وھكذا كان الجيش المصري أول من إتصل وارتبط مباشرة بشرعية الملايين، وقد استشعر إرادة الشعب منذ اللحظة الأولى ، وأن عليه أن يتحمل مسؤوليته ، وھو نفسه جيش الشعب وابنه ، وكانت تلك ھي الرسالة الأولى ، ولھا رمزية عميقة الدلالة لمعنى الثورة الكاملة ، للشعب المصري بكامله ، شعب وجيش ..
سجلت تجليات الشخصية المصرية، في صورة الجيش المصري، حالة غير مسبوقة في العالم، وتحديدا في العالم العربي ، مع انتفاضات الربيع العربي، وكانت حقائق الموقف وخطواته : أن آليات الجيش وضباطه وجنوده ، داخل ساحات الثورة وشوارعھا ، تحمي جماھير أمسكت بالشرعية في يدھا ، ونزعت عن الحكم القائم مقومات شرعيته ، وفي نفس الوقت كانت القوات المسلحة ، وباعتبارھا موطن القدرة والقوة في فكرة الدولة وأساسھا، وليست مجرد أداة تحت سلطة النظام ، كانت تدير حوارا صعبا مع رأس النظام ، لم تتكشف تفاصيله الكاملة حتى الآن ، من أجل أن يتخلى " مبارك " عن عناده ويخفف المأزق عن الجميع ، وأن يتخلى عن المنصب إستجابة للرفض الشعبي القاطع ، وأن يمد المجلس الأعلى للقوات المسلحة جسرا تمشي عليه حركة سليمة ومأمونة لإنتقال السلطة ، ووضع الأساس لشرعية جديدة ، لكي يتنفس الشعب بحرية..
وحين يتم التأريخ لثورة الخامس والعشرين من يناير ، فإن شواھد وحقائق اللحظة التاريخية ، تقول:
• أولا : أن التاريخ الحيّ الذي جرت أحداثه في بر مصر، قد سجل أول ثورة مصرية كاملة ، ثورة الشعب والجيش معا .. وإذا كانت طلائع من الجيش المصري قد قامت بثورة في الثالث والعشرين من يوليو 1952 وأحاطت بھا وساندتھا جماھير شعبه ، فإن طلائع شباب مصر حين قرر أن يستعيد الوطن روحه الوثابة ، وأن يجسد حلم خلاص مصر ، ويفجر الثورة الشعبية ، فإن جيش مصر قد أحاط بالثورة ، وإعترف بشرعية مطالبھا ، وساند جماھيرھا..
• ثانيا : لم يكن الجيش المصري ھو الأقرب إلى مفاتيح القوة فقط ، ولكنه أيضا الأقرب إلى مفاتيح العصر ، وكان موجودا ومنذ اللحظات الأولى صفا موازيا وليس معارضا للثورة الشعبية، وقد وضع العالم أمام صورة للحظة التاريخية ، وھي أن الجيش الوطني وھو يملك ميزان القوة ، قد تحرك وتواجد بقيمته ومسؤوليته ، ويجسد على أرض الواقع حقيقة أن أي جيش وطني وبفكرة الدساتير بأسرھا ــ ومنذ ظھورھا وكتابتھا ــ ھو جيش الشعب، حامي الشرعية الوطنية، وحامي الأمن القومي .. وربما كانت البداية ، أن رئيس المخابرات الحربية وقتئذ ــ اللواء عبد الفتاح السيسي ــ هو صاحب خطة أن الجيش المصري لايمكن أن يضرب في الشعب ، مهما ساءت الأمور ، وعرض الخطة على المجلس الأعلى للقوات المسلحة ، وتم الموافقة عليها .. وهناك ثلاثة مشاهد غير مسبوقة في تاريخ الجيوش ، وسوف تظل حاضرة في ذاكرة الأمة ، وهي من أروع المشاهد المرتبطة بثورة 25 يناير وتجليات الشخصية المصرية : المشهد الأول كان مع اللحظات الأولى لتواجد كتيبة من الجيش أمام مبنى ماسبيرو ( الإذاعة والتليفزيون ) والمشير طنطاوى يصافح أحد الجنود مبتسما ويقول له : " أرفع رأسك أنت نازل تحمى مستقبل وأمن بلدك" .. والمشهد الثاني مع اللواء حسن الرويني ، قائد المنطقة العسكرية المركزية وعضو المجلس العسكري ، وهو يضمد جراح وجه شاب من الثوار .. ومشهد " تعظيم سلام " الذي أداه اللواء أركان حرب محسن الفنجري ، نيابة عن القوات المسلحة ، تحية لأرواح شهداء الثورة ..
• ثالثا : وبمقدار ما كانت القوات المسلحة ھي جيش الشعب ، يخدم ويحمي مصالح الوطن "أرض وشعب " ويدين بالولاء والإنتماء للشرعية الشعبية أولا ، وليس للنظام الحاكم ، فقد كان واضحا أن المجلس الأعلى للقوات الساحة لديه القدرة على الإصغاء للشعب ، ومتابعة باقي مطالب الثورة والحفاظ على مكاسبھا ، وبضمان من الثقة ، والوعي بأھمية عنصر الوقت ، ومن الأمن والاقتصاد ، إلى السياسة والقرار ، إلى الأمن القومي ، ولديه القدرة أيضا على التعامل مع عناصر وبقايا نظام ، تحاول جاھدة وبمخزون من ضيق الأفق ، ومخزون المراوغة بالحيلة والخبث ، أن تلعب قرب الغروب وعلى حافته ، لعبة الثورة المضادة ، وبما يناسب أحلامھا أو أوھامھا ، وھي عناصر أضعف من أن تقاوم ..
• وما سبق يمكن إجماله في ملاحظتين : الأولى على لسان الخبير والمستشار الدولي الأمريكي "جيرمي بانرمان " بأن جيش مصر يمثل المجتمع المصري ، وھو قريب من الشعب ويشعر به ، وأن الھدف الأھم له الآن يتمثل في وضع البلاد على الطريق الصحيح.. والملاحظة الثانية على لسان الكولونيل "جوزيف إنجلھارد " بأن الشعب المصري يثق كثيرا في مؤسسته العسكرية ، ويرتاح لما تتمتع به من وطنية شديدة .. وھكذا .. كان لا بد بين الشعب والجيش من لقاء.. وقد حدث.
والعسكرية المصرية ودورها ـ على سبيل المثال ـ تعد نموذجا للتعبير عن تجليات الشخصية المصرية، وكيف أن عبقرية الإنسان المصري لا تعتمد على أسطورة غيبية، ولكن تستمد روحها من التجارب التي تضيف إلى بعضها البعض عمقا، ودروسا مستفادة ، وخبرات إنسانية تسكن في أعماق الوجدان المصري ، شكلت ملامح الشخصية المصرية ، وما انفردت به من طاقات وإبداعات .. ولست أريد هنا أن أقوم بعملية تطبيق كاملة لهذه العوامل والقواعد، فذلك بحث طويل، ثم أن هناك من هو أقدر على القيام به ـ علما وفكرا وتخصصا ـ ولكن يبقى هدفي أن أشير إلى ترابط وتلاحم وتناغم الحركة التاريخية من تجارب ، وتطوير إبداعي ، ومواريث حضارية، وكيف أن الإنسان المصري بعد أن تحدى موجات من استفزازات غرور القوة ، ومن التشكيك ، وفقدان الثقة في قدراته ، أدار مواجهات عسكرية حاسمة، وبفكر عسكري منظم، وسجل أول نظريات عسكرية في التاريخ الإنساني للتخطيط الميداني، وتقسيم الجيش إلى قطاعات ومواجهة العدو بأسلحته بعد تطويرها، وفرض أسلوب القتال عليه، وبعد الانتصار يتحول ليعيد بناء دولته من جديد .. ومن زمن الهكسوس، إلى زمن المغول .. هو نفسه الإنسان المصري الذي كان معجزة حرب أكتوبر وآيتها الكبرى، وفي ظروف وأحوال ومهاترات وحملات تشكيك تقارب تماما ما حدث قبل ثلاثة آلاف عام وما بعدها .
إذن كانت العبقرية العسكرية التي جسدتها الشخصية المصرية، تكرر نفسها وتعيد تصحيح مسار التاريخ ..ولو كان هناك منصف لأحكام التاريخ ولقدرات الإنسان المصرين ولو كان هناك من يجيد قراءة التاريخ بموضوعية وفي ذلك التوقيت بعد نكسة 1967 لأدرك وبوعي كامل ما سوف يحدث ويكون، ومهما كانت العقبات والتحديات .. صحيح بعد نكسة 1967 مباشرة كان القرار المصري بقبول التحدي .. والقرار بالطبع مرادف دقيق لمعنى الإرادة المصرية ـ وهي خارج حسابات الهزيمة ـ لأن الإنسان المصري الجريح وقتها بدأ سلسلة من العمليات العسكرية الناجحة بعد أيام فقط من النكسة، حدث هذا في معركة رأس العش، في الساعات الأولى من صباح 1 يوليو 1967، أي بعد ثلاثة أسابيع فقط من النكسة، حين تقدمت قوة مدرعة إسرائيلية على امتداد الضفة الشرقية لقناة السويس، من القنطرة شرق في اتجاه الشمال بغرض الوصول إلى ضاحية بور فؤاد المواجهة لمدينة بورسعيد على الجانب الآخر للقناة ، وكان الهدف احتلال بور فؤاد، وكانت المنطقة الوحيدة في سيناء التي لم تحتلها إسرائيل أثناء حرب يونيو 1967، وتهديد بورسعيد ووضعها تحت رحمة الاحتلال الإسرائيلي.
وعندما وصلت القوات الإسرائيلية إلى منطقة رأس العش جنوب بور فؤاد، وجدت قوة مصرية محدودة من قوات الصاعقة المصرية عددها ثلاثون مقاتلًا مزودين بالأسلحة الخفيفة، وفي حين كانت القوة الإسرائيلية تتكون من عشر دبابات مدعمة بقوة مشاة ميكانيكية في عربات نصف مجنزرة، وفوجئت القوة الإسرائيلية بالمقاومة العنيفة للقوات المصرية التي أنزلت بها خسائر كبيرة في المعدات والأفراد أجبرتها على التراجع جنوبا.. وعاود جيش الاحتلال الهجوم مرة أخرى، إلا انه فشل في اقتحام الموقع بالمواجهة أو الالتفاف من الجنب، وكانت النتيجة تدمير بعض العربات نصف المجنزرة وزيادة خسائر الأفراد، وانسحبت القوات الإسرائيلية بعد صدمة الهزيمة غير المتوقعة بعد ثلاثة أسابيع من النكسة.
المعركة الأولى بعد النكسة ــ ورغم عدم التوازن في القوات ونوعية التسليح وحجم الإمدادات ــ لم تسجل أول انتصار للمقاتل المصري بعد هزيمة 1967 ولكنها جسدت أهم سمات الشخصية المصرية وهي : ( الإصرار، والتحدي، والقدرة على التعامل وقت الأزمات، ورفض أنكسار الإرادة المصرية ) .. وبعد ثلاثة شهور ، تقريبا، تجلت الإرادة المصرية مرة أخرى، في عملية إغراق المدمره البحرية الإسرائيلية "إيلات" من طراز HMS Zealous\ R39 بعد قيام القوات البحرية المصرية باغراقها في البحر الأبيض المتوسط، أمام مدينة بورسعيد في 21 أكتوبر 1967 بعد أربع أشهر من نكسة 67. وهي عملية مختلفة تماماً عن الثلاث عمليات الأخرى بالهجوم علي ميناء إيلات، والتي تم فيها إغراق 4 سفن نواقل وتفجير الرصيف الحربي للميناء.
يوم 21 أكتوبر 1967 لم يسجل فقط عملية إغراق المدمرة "إيلات"، ولكنه بقي شاهدا على قدرة الشخصية المصرية على مواجهة التحدي رغم مرارة الهزيمة قبل أربع شهور، وأن "كبرياء" هذه الشخصية يمنحها وقت الأزمات الثقة في النفس، والقدرة على المواجهة، حين استمرت المدمرة الاسرائيلية ايلات في العربدة داخل المياة الإقليمية المصرية ليلة 21 أكتوبر في تحد سافر، مما تطلب من البحرية المصرية ضبطا بالغا للنفس، إلى أن صدرت توجيهات بتدمير المدمرة ايلات وعلى الفور خرج لنشان صاروخيان من قاعدة بورسعيد لتنفيذ المهمة. هجم اللنش الأول بإطلاق صاروخ أصاب جانب المدمرة إصابة مباشرة فأخذت تميل على جانبها ، فلاحقها بالصاروخ الثاني فتم إغراق المدمرة الإسرائيلية " إيلات " وعليها طاقمها الذي يتكون من نحو مائه فرد إضافة إلى دفعة من طلبة الكلية البحرية كانت على ظهرها في رحلة تدريبية. وقد غرقت المدمرة داخل المياه الإقليمية المصرية بحوالى ميل بحرى، وعاد اللنشان إلى القاعدة .. وكان إغراق المدمرة الإسرائيلية إيلات بواسطة 4 صواريخ بحريه سطح / سطح ، هي الأولى من نوعها في تاريخ الحروب البحرية، وبداية مرحلة جديدة من مراحل تطوير الأسلحة البحرية و استرتيجيات القتال البحرى في العالم، فقد تم في هذه العملية تدمير مدمرة حربية كبيرة بلنش صواريخ للمرة الأولى في التاريخ .
وهي إحدى وقائع تجليات الشخصية المصرية في وقت الشدائد ورغم مرارة النكسة.
وتكررت المواجهة بعد 20 يوما فقط ، حين سلمت البحرية البريطانية، غواصة حديثة "داكار" لإسرائيل، وعند مقربة من الحدود المصرية الغربية، صدرت أوامر، يوم 10 نوفمبر1967 لقائد الغواصة بالتجسس علي أحواض لنشات الصواريخ المصرية بمقر قيادة القوات البحرية المصرية بالأسكندرية، ولم يكن الأمر بالتجسس عملا عسكريا إعتياديا، بل كان دافعه الأول غرور القوة في أعقاب الخامس من يونيو، والتصور بأن المنهزم عليه أن يقبل بالأمر الواقع !! وتلقت هيئة عمليات القوات البحرية من عدة قطع بحرية تفيد بأن هناك صوت يبدو وكأنها غواصة تقترب من حدود مصر الإقليمية، وبسرعة اتخذ القرار بالهجوم ، وبدأت المدمرات بإلقاء القذائف واحدة تلو الأخري وبأعداد كبيرة، حتي صدرت أوامر مباشر من قائد الغواصة بالنزول الي أقصي عمق ممكن لتفادي الصدمة الإنفجارية التي يمكن وحدها ان تؤدي الي تدمير المعدات الإليكترونية داخل الغواصة، لكن هذه الإجراءات لم تفلح كمحاولة للهروب من العبوات الأنفجارية المصرية، و بدأت بالإنزلاق الي أعماق بعيدة تتكفل وحدها بسحق الغواصة ومن فيها، وبعد عدة ساعات شوهدت بقع زيتية ومخلفات تطفو علي سطح المياه مما قطع الشك باليقين ان الغواصة قد قضي عليها، وفي المقابل لم تتفوه إسرائيل بكلمة واحدة، وبلعت هزيمة تدمير الغواصة الإسرائيلية الجديدة، وظل الأمر في طي الكتمان الي ان طلبت إسرائيل عام 1989 من مصر السماح لها بالبحث عن حطام الغواصة الأسرائيلية "داكار" وطاقمها المكون من 69 بَحارا أمام سواحل مدينة الإسكندرية .
وحاول الإسرائيليون تحطيم الروح المعنوية للشعب المصري، و تدمير أملهم القائم على تحرير الأرض المغتصبة، فقاموا بتنفيذ مخطط لإذلال مصر، وقرروا استخراج البترول من خليج السويس أمام أعين المصريين، في محاولة لإجبار مصر على قبول أحد الأمرين : إما أن تقوم إسرائيل باستنزاف البترول المصري، وإما أن يرفض المصريون ذلك ويهاجموا الحقول المصرية التي تستغلها إسرائيل وهو ما كانت إسرائيل تنتظره لتتخذه كذريعة لضرب حقل (مرجان) حقل البترول الوحيد الباقي في يد مصر، لتحرم الجيش المصري من إمدادات البترول.
وتم الإعلان عن تكوين شركة (ميدبار) وهي شركة إسرائيلية أمريكية إنجليزية حيث قامت باستئجار الحفار (كينتنج) ونظرا للظروف الدولية السائدة و التوترات الاقليمية، حاول البعض إثناء إسرائيل عن هذا العمل حتى لا تزيد الموقف توترا، الا ان كل المساعي فشلت، واستمرت إسرائيل في الإعلان عن مخططها، فأعلنت القيادة السياسية المصرية أن سلاح الجو المصري سيهاجم الحفار عند دخوله البحر الأحمر.وبدا من الواضح أن هناك خطة إسرائيلية لاستدراج مصر إلى مواجهة عسكرية لم تستعد مصر لها جيدا أو يضطر المصريون إلى التراجع والصمت .. وعلى ذلك قرر جهاز المخابرات المصري التقدم باقتراح إلى الرئيس جمال عبد الناصر يقضي : بضرب الحفار خارج حدود مصر بواسطة عملية سرية مع عدم ترك أية أدلة تثبت مسئولية المصريين عن هذه العملية.. وتم رصد معلومات كاملة عن تصميم الحفار وخط سيره و محطات توقفه. وفور وصوله إلى أبيدجان في فجر 6مارس 1970 نزلت الضفادع المصرية من منطقة الغابات، وقاموا بتلغيم الحفار، وسمع دوي الإنفجار بينما كان أبطال الضفادع في طريق عودتهم إلى القاهرة.
وهكذا .. لم تهدأ حركة المواجهة، رغم أن حديث النكسة في الأيام الأولى كان مريرا ، والقلوب تنزف بالحسرة والوجيعة ، ولكن بقيت خصائص الشخصية المصرية وتجلياتها ـ المتفردة ـ لم تطلها هزيمة عسكرية ، وسجلت العسكرية المصرية تجربة لا تزال حتى الآن في منطقة الظلال ولم تحظ بما تستحق من دراسات وأبحاث وقراءة وقائع ما جرى ، رغم أنها وبكل المقاييس تجربة فريدة لإعادة البناء والتخطيط والتنظيم والتمهيد لمعركة الثأر والتحرير، وكل هذا تحت ضغط ظروف بالغة القسوة والمرارة، وفي ظل أجواء قاتمة وحزينة ، والاحساس العام بأن كل شئ آيل للسقوط والانهيار، وهي رؤية اكتفت بمنطق موازين القوة فقط ، وبالواقع المنظور أمامها ، وتجاهلت القيمة الحقيقية لخصائص الإنسان المصري ، ومن هنا كانت المفاجأة بعد أن أصبحت المبادأة في يد المصريين بعد تنشيط الموقف العسكري ، وتسخين جبهة القتال ، وتحديد استراتيجية المراحل الثلاث : الصمود ثم الردع ثم التحرير .. وخلال هذه الأيام الأولى من صدمة النكسة، كان الجندي المصري قد عرف طريقه للعبور إلى الشاطئ الشرقي من القناة .
ومع بداية السبعينيات، وبعد رحيل الزعيم العربي جمال عبد الناصر، ومع بداية حكم الرئيس الراحل أنور السادات، خيمت حالة اللاحرب واللاسلم، ومعها فتحت الأبواب للمبالغة في الانهزامية اليائسة، وزحفت حملات التشكيك ترمي بسهامها في كل اتجاه، وانطلقت كتائب التساؤلات تدفع أمامها بعلامات التعجب الساخرة : كيف يتصور المصريون أن لهم القدرة على المواجهة والتغيير والتحرير ؟! وأجمع الخبراء العسكريون في العالم وبغير استثناء، أن عملية العبور أقرب للمستحيل، لأن ميزان القوة وبكل المعايير لصالح إسرائيل، وأن قناة السويس نفسها حاجز مائي من أصعب الحواجز، وأن خط بارليف سلاسل متصلة من المواقع الحصينة ، وأية محاولة للتحرك المصري تتطلب تضحيات ليس من السهل قبولها ، وماذا تفعل مصر وكل ما تمتلكه يتم تصنيفه تحت قائمة الأسلحة الدفاعية؟ وهل بمقدور الفكر العسكري المصري أن يجد حلا لمعادلة المستحيل؟ باختصار تم حجز قدرات الشخصية المصرية في دائرة العجز خلف حاجز الخوف، واعتبار أن حركة باتجاه الشرق للعبور إلى سيناء، لا تعدو كونها مغامرة مع المجهول !!
ثم كانت المفاجأة الحقيقيةهي إرادة الإنسان المصري، وتجليات الشخصية المصرية، التي أبدعت فكرة "خراطيم المياه" لنسف خط بارليف، وتقدم بها الضابط الشاب المهندس باقي زكي يوسف .. وكانت التقديرات العسكرية ـ الروسية والغربية ـ تؤكد أن خط برليف يحتاج إلى قنبلة ذرية لإزالتهن وهو ساتر ترابي عملاق بارتفاع 20 مترا ، ثم تم تحصينه بالكتل الخرسانية والحديد، وأنابيب النابالم على خط قناة السويس مباشرة، تحرق كل من يفكر بالإقتراب من الشرق، وكان تصميمه بميل وانحدار شديدين وبزاوية تقريبا قائمة حتى يمنع أي مدرعات أو دبابات مصرية من اجتيازه، لكن تجليات الشخصية المصرية، أبدعت حلا بسيطا، بعمل طلمبات مياه ضغط عالي تستخدم في عمل ثغرات في جسم الخط تكفي لعبور المدرعات وعربات الجنود،بعد إغلاق فتحات انابيب النابالم .. وهكذا إنهار عائق من أكبر العوائق في التاريخ العسكري وبابسط الوسائل .. وما حدث جاء عكس كل التوقعات والتقديرات، والتي أقامت حساباتها على رؤية مسطحة للتاريخ ولسمات الشخصية المصرية وتجلياتها.. وأصبح العالم أمام حدث فريد في تاريخ الحروب .. تجربة عسكرية قلبت موازين النظريات المتعارف عليها .
.....
واجهت القيادة العسكرية المصرية، أزمة التغلب على الأحمال الثقيلة من المعدات والأسلحة، التى كان على الجنود حملها أثناء العبور بحرب أكتوبر، والتى قد تؤدى إلى شل حركتهم وقلة كفاءتهم القتالية، وكانت "الشدة الميدانية القديمة" أو ما يرتديه الجندى لتستوعب كل ما يكفيه من ذخيرة وماء وغذاء، لا تناسب الظروف الجديدة وطبيعة المعركة، فكان لابد من البحث عن وسيلة أخرى تخفف من قدر الأحمال الملقاة على عاتق الجنود، وتمثل الحل فى إدخال عربة جر يدوية تجر بواسطة فردين بعد تحميلها بالمعدات والألغام المطلوبة، وروى الفريق سعد الدين الشاذلى، رئيس هيئة أركان القوات المسلحة آنذاك، فى مذكراته عن حرب أكتوبر، قصة طريفة تعود تفاصيلها إلى أنه حينما عين قائد لمنطقة البحر الأحمر العسكرية، توجه إلى ميناء سفاجا الذى تعرض للقصف من جانب الجيش الإسرائيلى، وفوجئ بوجود مخلفات الجنود الإسرائيليين مكانها، ووجد بجوارها عربة صغيرة مكونة من أربع عجلات، ولها زراع طويلة للجر استخدمها الإسرائيليون فى نقل المعدات والألغام وطلقات الهاون ..
وقفزت الفكرة فى عقل "الشاذلى"، وطورت القوات المسلحة العربات وجهزتها بعجل كاوتشوك، حتى أصبحت أكثر كفاءة من مثيلتها الإسرائيلية، وكان لها أكبر الأثر فى نقل عدد كبير من المعدات والأسلحة الثقيلة التى كانت تشكل عبئا كبيرا على الجنود، وملئت العربات بالذخيرة، بحيث يتم تحميل العربات فى القوارب ويجرى تفريغها بمجرد الوصول إلى الشاطئ الشرقى، ويتم عبور عربات الجر فارغة عبر الساتر الترابى ليعاد تحميلها بالذخيرة مرة أخرى.
فيما يمثل الأكثر طرافة فى الأمر، أن مثل تلك الواقعة حدثت منذ أكثر من 3500 عام (ق.م)، فى عهد الدولة المصرية القديمة، وبالتحديد فى عهد الأسرة السابعة عشر، بعد غزو الهكسوس لمصر، حينما طور المصريون واستخدموا نفس السلاح "المتفرد" للعدو، العجلات الحربية التى كانت بمثابة مدرعة حربية فى ذلك الوقت، فى معركة طيبة والدفاع عن الوطن وتحريره.
.....
ولم يتصور أحد أن من سمات الشخصية المصرية، أن لديها أسباب من الثقة تجعلها مطمئنة إلى قدراتها ، وإلى إبداعات الإنسان المصري ، وإلى حكمة التجربة والتي تمتد جذورها القوية في أعماق التاريخ .. فمنذ ثلاثة آلاف عام تقريبا كانت تجربة المواجهة مع استفزازات وتحرشات ، وممارسات حماقة القوة وغرورها بعد احتلال الهكسوس لشمال مصر ، واستقر بهم المقام في الدلتا ، واتخذوا لأنفسهم نظم الملك وألقابه المصرية ، واستمر حكم هؤلاء الملوك حوالي قرن ونصف القرن من الزمان ـ وهو عصر الاضمحلال الثاني ـ ويقول المؤرخ المصرى القديم “مانيتون”: “فاجأ الهكسوس المصريين وهجموا عليهم بأعداد كبيرة لم يستطع المصريون مقاومتها، فحرقوا المدن والمعابد وسبوا النساء، ودخلوا إلى مصر واتخذوا عاصمة لهم فى شرق الدلتا أطلق عليها “زوان”، وانتشروا تدريجيا حتى سيطروا على شمال مصر"
كانت مصر قبل احتلال الهكسوس، تعاني من ضعفت سلطة الفرعون، وظهرت سلطة حكام الأقاليم، فكثرت المؤامرات واندلعت الثورات في أرجاء مصر، وتسرب الفساد فسقطت الدولة الوسطى وبدأ عصر الاضمحلال وهو أظلم عصور التاريخ المصرى وهو فترة الأسرتين (الـ13، 14). وهذا الضعف ساعد جماعات الهكسوس في احتلال مصر 150 عاما، ولأول مرة في تاريخ مصر تصبح خاضعة لحكم أجنبى .. وسادت أيضا أجواء التساؤلات مع اضطراب الأحول والأمور :
كيف يتمكن المصريون من تحرير بلادهم وبعد أن بلغت حماقة الهكسوس إلى هذه الدرجة التي يحتجون معها على " أفراس النهر " وأصواتها المزعجة التي تقلق نوم ملك الهكسوس على بعد 1200 كيلو متر؟! وكيف يواجه المصريون عدوا استوطن وامتلك أدوات التكنيك الحربي، فضلا عن الخبرة القتالية لموجات الهكسوس التي هبت كاسحة ـ وكما يقول المفكر الراحل د0 جمال حمدان ـ واستطاعت أن تضرب من قلب الاستبس وعلى طول هضاب ومرتفعات وسط جنوب غرب آسيا وحتى الوصول إلى مصر ؟؟ ورغم تساؤلات اليأس والاحباط ، سجل المصريون أول حرب تحررية كبرى في تاريخ العالم وبعد أن أخذوا عن الهكسوس ـ أنفسهم ـ العجلات الحربية ، والخيل ، والقسي المزدوجة ، وألوانا من الأسلحة والسيوف مع تطوير التكنيك الحربي حتى تمكن " أحمس " من طرد الهكسوس وشطب وجودهم بعد احتلال دام حوالي 150 سنة ..
وقد تطور مفهوم السلام بعد حرب التحرير ــ وهى أول حرب تحرير في تاريخ البشرية منذ نحو 3500 ق. م، قام بها المصريون ــ لكى يصبح سلاما مفروضا بالقوة، ولكى يمنع الغزاة الأجانب من مجرد التفكير في الإغارة على مصر التي قامت ببسط نفوذها على العالم القديم لتوفير الأمن لأبنائها، وذلك مع بداية عصر الدولة الحديثة، عصر الإمبراطورية المصرية، التي رفعت أعلام الجيش المصرى من منحنى نهر الفرات بالعراق شرقا، وأعالي الفرات في الشمال الشرقي (سوريا) إلى الشلال الرابع على نهر النيل بالسودان جنوبا .. وتغيرت العقيدة القتالية المصرية من الدفاع إلى الهجوم،وذلك بعدما اتضح لهم أن جيرانهم من الشعوب الأخرى يريدون احتلال أرضهم، وبهذه الرؤية الإستراتيجية للإنسان المصري، كان يجب الدفاع عن مصربخلق بُعد استراتيجى لها ، وتأسيس جيشاً نظاميا محترفا ومدربا لأول مرة في مصر ..
ويبدو واضحا، الوعي المبكر، لدى الشخصية المصرية، بضرورات تأمين العمق الاستراتيجي، وخلق قواعد متقدمة لصد أية محاولات للعدوان والغزو.. ويجمع المؤرخون على أن "تحتمس الثالث " أول قائد حربي في التاريخ وضع خطة تقسيم الجيش إلى قلب وجناحين ، وتشكيل مجلس أركان حرب يتشاور معه في وضع الخطط الحربية ..
وبالضرورة لا يمكن فصل تجليات قادة العسكرية المصرية (قديما وحديثا) عن تجليات الشخصية المصرية، والوعي بألأن خط الدفاع الأول على مصر لا يقل عمقا عن تخوم الشام .
.....
وتكررت التجربة مع غزو الآشوريين، ومع احتلال الفرس .. وعجلة التاريخ لم تتوقف .. ثم أدرك الصليبيون بالتجربة المريرة أن مصر هي قطب المنطقة استراتيجيا وبشريا وهي مفتاح المنطقة العربية ، وأنه لا مستقر لهم في الشرق طالما استمرت المقاومة المصرية ، وفي النصف الأول من القرن الثالث عشر شهدت مصر مواجهة حاسمة مع موجتين صليبيتين أبيدتا في براري وسهول الدلتا .. وأعتقد أن أول وآخر انكسار للمغول في عين جالوت عام 1260 يحمل قدرا كبيرا من حسابات الاعتبار التاريخي وأثره على عطاء الإنسان المصري، ويحمل قدرا كبيرا من عناصر القوة غير المنظورة الكامنة في وجدان الشخصية المصرية .. فلم يتوقع أحد أن ينتهي المد المغولي على أيدي المصريين، وكان ذلك منطقيا ومقبولا لعدة أسباب، منها : ان برابرة التتار تحت زعامة " هولاكو " وصلوا إلى العراق بعد مسيرة طويلة حفرت تاريخها بالدم والعنف والتخريب والتدمير الرهيب، وتدفعها موجات سابقة من زمن جنكيز خان وكوبلاي خان، تكتسح في طريقها الدول وجيوشها .. وبعد فاجعة بغداد التاريخية ونهاية الخلافة العباسية،يتقدم المغول إلى الشام مستهدفين مصر .. وفي المقابل كانت الأوضاع في مصر غير مستقرة ، والصراع يحتد بين المماليك على السلطة والحكم ، والتآمر يخترق ميليشيات ورجال كل فريق ، وكانت هموم المطامع والمغانم تسيطر على الساحة وتنعكس على تصريف شئون البلاد ، ومنطق العقل يقول أن الأبواب مفتوحة أمام موجات المغول وانتصاراتهم المتلاحقة ، وأن ميزان القوة والخبرة القتالية يميل لصالحهم ..
كانت حروب التتار تتميز بسرعة انتشار رهيبة، ونظام محكم، وأعداد هائلة من البشر، وتحمُّل الظروف القاسية، والقيادة العسكرية البارعة، كما كانت تتميز كذلك بأنهم بلا قلب!! فكانت حروبهم حروب تخريب غير طبيعية، فكان من السهل جدا أن ترى في تاريخهم أنهم دخلوا مدينة كذا أو كذا فدمّروا كل المدينة، وقتلوا سكانها جميعا، لا يفرِّقون في ذلك بين رجل وامرأة، ولا بين رضيع وشاب، ولا بين صغير وشيخ، ولا بين مدني ومحارب!! وتميزت حروبهم أيضا برفض قبول الآخر، والرغبة في تطبيق مبدأ (القطب الواحد).. ويروي ابن الأثير، في الكامل، في أحداث السنة الثامنة والعشرين بعد الستمائة، بعض الصور التي استمع إليها بإذنه من بعض الذين كُتبت لهم نجاة أثناء حملات التتار على المدن الإسلامية فيقول: كان التتري يدخل القرية بمفرده، وبها الجمع الكثير من الناس فيبدأ بقتلهم واحًا تلو الآخر، ولا يتجاسر أحد المسلمين أن يرفع يده نحو الفارس بهجوم أو بدفاع !!
ووصل التتار في فلسطين إلى غزة، وأصبحوا على مسافة تقل عن خمسة وثلاثين كيلو مترًا فقط من سيناء، وبات معلوما للجميع أن الهدف النهائي مصر، بعد أن جاءت رسل هولاكو، تحمل رسالة تهديد ووعيد وإرهاب، تقول : "باسم إله السماء الواجب حقه، الذي ملكنا أرضه، وسلطنا على خلقه، الذي يعلم به الملك المظفر الذي هو من جنس المماليك، صاحب مصر وأعمالها، وسائر أمرائها وجندها وكتابها وعمالها، وباديها وحاضرها، وأكابرها وأصاغرها، أنَّا جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حلَّ به غيظه، فلكم بجميع الأمصار معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم، وسلِّموا إلينا أمركم قبل أن ينكشف الغطاء، ويعود عليكم الخطأ، فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرق لمن اشتكى، فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد، فعليكم بالهرب، وعلينا بالطلب، فأي أرض تأويكم؟ وأي بلاد تحميكم؟ وأي ذلك ترى؟ ولنا الماء والثرى؟ فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من أيدينا مناص؛ فخيولنا سوابق، وسيوفنا صواعق، ورماحنا خوارق، وسهامنا لواحق، وقلوبنا كالجبال، وعديدنا كالرمال، فالحصون لدينا لا تمنع، والجيوش لقتالنا لا تنفع .. "
وهي أيضا صورة مكررة من تهديدات "الهكسوس" بزعم أن أصوات "فرس النهر" في جنوب مصر تزعجهم !! وقام قطز بقطع أعناق الرسل الاربع وعشرين الذين أرسلهم إليه هولاكو بالرسالة التهديدية، وعلّق رءوسهم في الريدانية في القاهرة وأبقي علي الخامس والعشرين ليحمل الأجساد لهولاكو.. كانت تهديدات التتار بعدم قدرة المصريين على المواجهة، تعبر عن نفس الرؤية القاصرة، التي دفعت بتساؤلاتها في زمن الهكسوس، وتكررت في العصر الحديث على خط الجبهة أمام خط بارليف، ودون تقدير لسمات الشخصية المصرية وتجلياتها وإبداعاتها، في زمن المواجهات والحرب، وأن لديها أسباب من الثقة تجعلها مطمئنة إلى قدراتها ، مهما كانت الظروف والأجواء الموحية بالعجز والترهل .. وهو ما دفع مصر بقيادة "قطز " بالتقدم لوقف زحف المغول عند خط الدفاع الأول ، وانطلقت الكتائب والألوية تشق طريقها وسط الخطر إلى الشام .. وتبدأ المواجهة في " عين جالوت " ويتلقى المغول أول وآخر انكسار لهم ، ولكن المطرقة المغولية عادت ثانية بعد قرن من الزمان مع تيمورلنك ليكتسح فارس والعراق وشمال سوريا حتى دمشق، ولكنه عجز دون جنوبها أمام المقاومة المصرية .
والقصة طويلة ومتواصلة .
ولم أقصد من خلال النقاط السابقة، إعادة قراءة للتاريخ أو تنشيط الذاكرة ، فالحديث عن التجربة التاريخية الممتدة للشعب المصري، وتأثيرها على سمات الشخصية المصرية، لا يقتصر على نقاط بعينها أو إشارات عابرة بالخطوة السريعة .. ولكن القصد هنا لفت الإنتباه لحركة الفكر والإبداعات التي تميز خصائص الشخصية المصرية وصلابتها ، وكانت العسكرية المصرية ودورها، مجرد نموذج للتفاعلات التاريخية والحضارية والتي شكلت وجدان وقدرات وطاقات الإنسان المصري .
.....
هي مجرد إشارات للتفاعلات في أوقات الأزمة .. فالأزمة تستدعي دائما التامل الذاتي حول الهوية والمصير والمستقبل ، وهي من أهم العوامل التي يكن من خلالها تمييز الشخصية المصرية عن غيرها .