القاهرة 13 اغسطس 2015 الساعة 02:25 م
كانت سمات الشخصية المصرية ـ ولا تزال ـ قضية مثيرة للجدل بين الكتاب والمفكرين والمثقفين بشكل عام ، وأمامنا تصورات ورؤى واستنتاجات ، وبعضها ما هو أقرب إلى محاولة صياغة " نظرية " تستند إلى براهين ودلالات ، تحلل سمات وسلوكيات وأنماط الشخصية المصرية .. وفي الجملة .. لم يكن هناك توافقا في رسم صورة محددة لسمات الشخصية المصرية، بل أن كثيرا من هذه التصورات النمطية عن الشخصية المصرية، أو طرح ملامح لسمات الشخصية، تتبدد بالتجارب واحدة بعد الأخرى .. وعلى سبيل المثال ، دراسة ثم اختيار عينتها من الشباب اتصفوا بالتقدير السلبي للذات، وعدم الثبات الانفعالي، وكشفت عن إزدواجية تتمثل في نسبة الاهتمام بالأمور السياسية، في حين أظهرت نتائج الدراسة محدودية المشاركة في الانتخابات مثلا.. وفي نفس السياق، دراسة أخرى للدكتور إكرام بدر الدين، وبرغم اعترافها بكاريزما الشخصية المصرية، والإنضمام للأحزاب المصرية، ودورها القيادي عبر التاريخ، إلا أنه لاحظ في دراسته حالة فصام بين المواطن الذي يعتمد في نظرته بشكل مبالغ فيه على السلطة السياسية في تنظيم أمور حياته وحمايته، وأصبح يتوقع منها أن تعلمه وتوظفه وتعالجه، وتوفر له السكن، بالإضافة إلى دورها الأمني والدفاعي ! وهو نفسه المواطن الذي لا يثق فيها، ويتشكك في نواياها، وإن كان يحمل في ذاته احتراما للسلطة مبالغا فيه، وعدم الميل للصدام معها ، ولكن مع ثورة 25 يناير أصبح الآن من المؤكد أن نتكلم عن أن هناك الكثير من المعتقدات الخاطئة التي كشفها لنا الشباب، ومنها أنه يجب عندما نتحدث عن الشخصية المصرية، أن يكون ذلك بحذر وتحوط ، ولا نتحدث عن المطلقات، ولا نصدق خرافة جمود الشخصية المصرية واستمرارها دون تغيير، والابتعاد عن التوصيفات الجامدة أو التعميمات الجوفاء مثل أن المصري صبور أو لا يثور، أو خانع ولا يلجأ إلى العنف، وأثبتت الثورة أن الشاب المصري ثائر وغير خاضع ومقاوم لايقبل المهادنة، ويطالب بالتغيير الجذري إلى الأفضل، وفتح آفاق رحبة لامتصاص البطالة والقضاء على الفقر، والاستغلال الأمثل لمقدرات البلاد، وإطلاق الطاقات وروح التنافس والإبداع، وجعل التعددية السياسية والحزبية مبنية على أسس ديمقراطية فيها الحقوق والحريات مكفولة والتداول السلمي للسلطة يمارس علميا ..
وسمات تجليات الشخصية المصرية ، وهي سمات متأصلة ، عبر عنها شباب مصر، الذي قاد معركة إنقاذ وطنه، وفجر ثورتين في 29 شهرا، وهيأ نفسه لجهاد طويل لايضعف فيه ولايلين، وكان بحق تجسيدا لحلم خلاص مصر، وأثبت بيقين لايرقى للشك ، أنه جيل لايقبل سوى أن يعيش كما يتمنى، وأن لديه القدرة على كتابة التاريخ الحىّ لمصر ..
والبداية.. كانت حدثا لا مثيل له، في روعته وجلاله، وتجلت ثورة مدهشة للعالم وللأمة، وكانت حركة هذه الثورة مما لا يصّدق، وبعد أن تحركت طلائع من شباب مصر، وسط مناخ أطبق عليه الظلم والظلام، وكان الشعب يتململ ضيقا بأحواله، وبما يرى حوله من آثام ومظالم، ويبحث عن خلاص، لكنه حائر لا يعرف كيف يتحرك، فإذا بالشباب يكسر الحواجز، ويعبر أرقى التعبير عن إرادة الشعب، ويسقط نظام انحرف من كونه " نظام حكم " إلى "ميراث عائلة" تحكم مع أقارب وأصدقاء ومنتفعين، وتباشر السلطة اعتمادا على قهر الأمن.. ونجحت الثورة السلمية في خلع رأس النظام ، وإنحازت إلى الشعب القوات المسلحة، وهي تدرك تماما أن الشرعية هي إرادة الشعب الحرة ، وأن القوات المسلحة هي سند الشرعية وأدواتها..
وتعد السمة الغالبة والملمح الرئيس للشخصية المصرية وتجلياتها، هي صلب الحقيقة الكبرى في تاريخ مصر الحديث، بأن الشعب ھو صانع الأحداث، حين قرر أن يقول كلمته ويمتلك مصيره، ويفتح أفق المستقبل أمامه، وفي لحظة تاريخية سوف تظل شاھدا على كتابة شھادة ميلاد مصر من جديد، مع عودة الروح إلى الوطنية المصرية الجامعة، وإستعادة أمل غاب طويلا وراء السحب الداكنة التي تكاثرت في سماء مصر .. وبعد أن خرج الشعب المصري كله، بأجياله ، وبطبقاته، وبطوائفه، يمسك بالشرعية في يده، في ھذا المنعطف التاريخي، يجسد حلم خلاص مصر، ويفرض إملاءاته لترتيبات المستقبل..
وإذا كان من حق الشعوب العظيمة، أن تراجع دفاترها في اللحظات الفاصلة من تاريخها، وأن تطرح أمامها تساؤلا في صيغة جردة حساب : ماذا تحقق .. وإلى أين ؟! والتساؤل هنا قد يصل إلى درجة (فرض عين) إذا كانت أحلام الشعوب وتطلعاتها ما زالت حيّة تنبض في عروقها، وتصّر على عدم التنازل عنها .. فإن تعامل الشخصية المصرية، مع التطورات التي لحقت بالثورة تريد تجميدها أو أن تنحرف إلى الخلف منتكسة وعودها وطموحاتها .. المواجهة والتعامل كشف عن تجليات الشخصية المصرية في هذه الحالة وبعد عامين من ثورة 25 يناير 2011
ولأول مرة في التاريخ الإنساني كله، يعلن شعب عن ثورته قبل موعدها بشهور .. حدث هذا من شباب مصر قبل يوم الثلاثاء الكبير في الخامس والعشرين من يناير 2011 ، ثم تكرر قبل ثورة 30 يونيو .. وهي الثورة الثانية ، وليست موجة من الثورة الأولى .. ولأول مرة أيضا يفجر شعب ثورتين في زمن لايتعدى العامين ، وأن يخرج الشعب المصري كله ، بجمعه ، بأجياله ، وبطبقاته ، وبطوائفه ، بل بالصبا فيه والطفولة ، ملايين بعد ملايين، وتقديرات الرصد وفقا لحسابات جغرافية المكان، وعدد الأفراد في المتر المربع الواحد ، فإن هناك نحو 32 مليون مصري خرجوا إلى الشوارع والميادين العامة ، يسحبوا الثقة من رئيس حكم مصر باسم جماعته وأهله وعشيرته .. وهذه هي القيمة العظمى لهذه اللحظة.
وهذه هي تجليات الشخصية المصرية في لحظة تاريخية فارقة ..
لقد حدث ما حدث بعد الثورة الأولى 25 يناير 2011 وإنتكاستها، وتأزم الأوضاع داخل مصر، سياسيا، وإقتصاديا، وإجتماعيا، وحتى ثقافيا، وبدأ السطو العلنى على هويتها، وإرتفعت الأصوات الغليظة، والفتاوى الجارحة لحرمة مصر، وتحركت قوافل "الأخونة " داخل مؤسسات الدولة وأجهزتها التنفيذية، وتم توزيع الغنائم والأسلاب على الحلفاء من قوى التيار السياسي الإسلامي من " المتأسلمين " أو "الإسلامجية " ــ لافرق في التسمية ــ وتصدعت أركان وجدران المجتمع المصري، وحدث إنقسام وشروخ ضربت بنيان وكيان الدولة التي فقدت هيبتها ودورها، وجعلنا من أنفسنا نموذجا للرثاء أمام العالم، حتى صدرت إحدى الصحف في جوهانسبرغ بجنوب أفريقيا بتاريخ 26 / 6 / 2013 بعنوان " مصر وسوريا .. تموتان " والصحيفة تعنى أن مصر وسوريا وبأحكام التاريخ والجغرافية معا، هما ركيزة وقاعدة الأمة العربية، وأن " الموت " يحيق بمصير الأمة !! وإذا كان العامل المشترك بيننا وبين سوريا ، أننا إقليم واحد في دولتين ، فإن ما يحيط بنا من مشترك في الزمن الراهن ، هو حركة جماعة الإخوان المسلمين، ومن معها من العشيرة من جماعات وتنظيمات إسلامية، ومطامعها واحدة، في الإقليم الشمالي "سوريا " ، والجنوبي " مصر "، وبالتنسيق مع قوى خارجية معلومة ، وكل طرف حسب ما يريده ويطمح إليه !!
المهم .. أن العالم كان يرى ويسمع صوت الحقيقة من مصر، فهو كان يرى حركتها البطيئة، ويسمع صوتها " المجروح " ولايستطيع أن يترجم ما تقوله، وضمن هذا المأزق لم يعد في مقدور أحد أن يتنبأ بما هو قادم، وفي ظل أجواء من نوازل الفوضى على مصر، فوضى غير محكومة وغير منضبطة، وإن كانت فوضى القمة أكثر من فوضى قاع المجتمع، وأن الإنفلات الحقيقي في هذا البلد هو إنفلات السلطة، وفراغ سلطة مخيف، بإستثناء حركات " أكروبات " عشوائية ، تدعو للأسى والحزن والأسف!! وقد تصور كثيرون، أن روح التغيير قد خمدت في الشخصية المصرية، وأن طاقة البلد همدت وترهلت، وأن تقسيم الغنائم والأسلاب قد أوشك على الإنتهاء، وأن الكلمة العليا لازالت للدولة الأعظم " أمريكا " وبأكثر مما كان متصورا، وبأكثر مما هو صحي، بل وإنزلقت أحوالنا إلى تلك الدرجة من تدخل وتأثير الآخرين في شئوننا الداخلية.
وأبدعت الشخصية المصرية فكرة "تمرد" ومبادرات "التفويض" التي طرحت للجيش، وقبلها لوزير الدفاع وقتئذ " المشير عبد الفتاح السيسي"، وكشفت عن موعد تحركها للتغيير في الثلاثين من يونيو 2013 وقد حققت كل ما تريد ، الخروج الكبير غير المسبوق في التاريخ الإنساني، وعزل الرئيس "الإخواني" محمد مرسي، وضرب مخطط كان يسعى لتفتيتت المنطقة العربية على أسس مذهبية، وبالفوضى الخلاقة، وتأهيل جماعة الإخوان للحكم في أكثر من دولة عربية .. وفشل السيناريو الأمريكي .. وقراءة ما حدث يستدعى صورة من تجليات الشخصية المصرية..
.....
.....
وبرؤية المفكر الراحل جمال حمدان ، فإن الشخصية شئ أكبر من مجرد خصائص وصفات، وأنها حالة من التفرد والتميز التي تنفذ إلى روح المكان لتستشف عبقريته الخاصة التي تحدد ملامحه وسماته .. كانت رؤية جمال حمدان للعلاقة بين الإنسان والطبيعة في المكان والزمان متوازنة للعلاقة بين المصري وأهم مكونات وجوده واستمراره (النيل)، وكيف أفضت هذه العلاقة إلى صياغة الحضارة المصرية على الوجهين : المادي والروحي .. وعلى نفس المسار تتحدث الدكتورة نعمات أحمد فؤاد عن الشخصية المصرية في كتاب ( المئذنة والبحر ) خلاصته الأمان الكامن في الشخصية المصرية، ولكن إذا تعرضت للخطر فالأمر مختلف تماما ، عدا ذلك يمكن التفاهم والتعايش، وهي تقصد بالمئذنة ( الدين ) كون الأغلبية العددية مسلمين، وتقصد بالبحر (النيل) .. والدين جزءا لا يتجزأ من طبيعة الشعب المصري، في تسامح يندر أن يكون له نظير في العالم، وهو عند المصريين شديد العمق والتجذر،
وهناك كلمات مصرية "هيروغليفية" على متون الأهرام منذ آلاف السنين تقول :
(يانوك واع واعو نن سنو إف ) وترجمتها :
(أنا واحد أحد ليس لي كفوا أحد)
وهذا أمر لا تخطئه العين في التاريخ المصري القديم والوسيط والحديث، وارتبط بتاريخ مصر في كل مراحلها وتطورها .. والبعض يرجع تكّون ( الدولة المركزية ) إلى الحالة الدينية في المجتمع، وما نتج عن ذلك من فكر ة المؤسسات والاستمرار والاستقرار، فأصبح في مصر، مجتمع محكوم من مؤسسات سياسية وإدارية وقضائية ودينية .
.....
ويمكن رصد هذه السمات التي توافقت عليها غالبية الدراسات والأبحاث الإمبريقية وكتابات عدد كبير من المفكرين المصريين والمستشرقين وهي :
• الشخصية المصرية بطبعها بسيطة وعاطفية إلى أبعد الحدود، ومصر لدى المصريين (هي الكون كله) وإذا كانت كل الشعوب تعتز بأوطانها، فإن المصري بشكل خاص ينفرد بعشقه لمصر، وله خصوصية شديدة، ورغم كل (المنغصات) ومعاناة الحياة المعيشية، يتمسك بهذه العاطفة وهذا الوجدان تجاه وطنه في كل وقت ومهما كابد وعانى ..
• والشخصية المصرية بطبيعة تكوينها تتصف بالطموح، ويسعى المصري ويجتهد ويبتكر وينفعل، لكنه أحيانا يصاب بنوع من "البلادة " نتيجة الإحباط المستمر والفشل المتكرر، وهوفي نفس الوقت شديد التفاعل مع محيطه، ويشارك فيه ، محب للفنون ، متذوق لها ، حساس ، يطلق خياله بلا قيود ..
• وأن الشخصية المصرية لا تعرف التمرد إلا نادرا، ولكن قد يضحي المصري بكل شئ ـ فجأة ـ إذا مست كرامته، وعلى سبيل المثال وجد المواطن المصري في مشروع أسرة "مبارك" للتوريث، إهانة، وتهميش لإرادة المصريين، وتحدى أكبر لكرامتهم بقبول ما يفرض عليهم، ومن هنا اشتعلت الشرارة الكامنة لثورة 25 يناير
• وتميزت الشخصية المصرية على مر عصور طويلة بسمات كانت أقرب إلى الثبات ، أصيلة في وعي المصري بنفسه وذاته، ومنها (الذكاء، التدين، الطيبة، السخرية البريئة، الميل للاستقرار) وهذه الصفات بوجه عام شكلت الخريطة الأساسية للشخصية المصرية في وعي المصريين ووعي غيرهم بهم .
• وللإنصاف وبموضوعية، فقد حدثت تحولات نوعية في بعض سمات الشخصية المصرية،على نحو يحتاج منا جميعا إلى الانتباه والتوقف .. فالذكاء المصري الفطري تحول إلى ما عرفه علماء الاجتماع بـ(الفهلوة).. وتعددت صور (التدين) على ما يخالف الروح المصرية السمحة في فهم الدين وتطبيقاته وشرائعه .. وتراجعت ملامح "الطيبة " والبشاشة والحنو والتسامح، وحل محلها الميل للعنف والعدوانية والشراسة .. وتأثر جانب "الذوق" والتذوق الفني والإحساس الرفيع تحت ضغط التلوث والعشوائيات والزحام والاختناق .. وزادت حدة السخرية، وأصبحت قاسية وأحيانا فجة وجارحة، ووصلت إلى حدود لم يعرفها المصريون، أما الاستقرار فقد اهتز كثيرا، وأصبح السفر حلم الجميع في المدينة، والقرية ، التي عرف أبناؤها بالتصاقهم بطين الأرض .
كانت بداية التحولات النوعية في بعض سمات الشخصية المصرية، منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وتحديدا بعد العام الأول من انتصار أكنوبر 1973، وكانت حركة التغيير وقتئذ مدفوعة دفعا إلى "هوامش" جديدة على صفحة الحياة الإجتماعية المصرية، حيث لا معنى ، ولا قيم، ولا حتى مجرد التفاته إلى ثوابت وعادات وتقاليد ترسخت داخل الشارع المصري .. وكان لافتا، إنفلات حركة حملة التشكيك الموجهة لمصر ـ بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصرـ ومع بداية تصوير ثورة 23 يوليو 1952 وحتى رحيل زعيمها في خريف 1970 ، وكأنها سنوات طويلة من القهر والظلم والاستبداد .. ثم جرى تصوير ملحمة السد العالي، وكأنها كارثة بيئية حلت على الأرض الزراعية في مصر!! وأصبحت حرب السويس 1956 هزيمة ساحقة ، رغم انتصارها الذي كان نقطة تحول في العالم العربي، وفي قارات العالم الثلاث النامية، آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وسجلت نهاية أكبر إمبراطوريتين في العالم ـ البريطانية والفرنسية ـ وحتى تأميم قناة السويس أصبح قرارا انفعاليا جرّ على مصر عدوان ثلاث دول ، ودون الاحتكام للعقل وانتظار الموعد القريب لانتهاء فترة الامتياز عام 1968 !!
ولم تقف حملات التشكيك عند هذا الحد، ولكن تجاوزت كل الحدود والخطوط ، وفوق كل ما يمكن تصوره !!
وكان الهدف أن يهتز يقين الشعب المصري في كل إنجازاته ، وفي كل شئ حوله ، ليصل إلى حالة إحباط، تورثه شعورا من اللامبالاة، يجعله يقبل بما لايمكن قبوله، وأن يسكت عما لا يجوز السكوت عليه ، حين راجت تجارة ( صناعة المذكرات ) وتسويقها ، ودخلت الساحة أقلام جديدة تبحث عن ( الرزق المتاح ) ولا يهم ـ في مفهومها الأخلاقي ـ الثمن المقابل ، بعد أن استبيحت سطور التاريخ، وبعد أن تراءى لها بالظن أو باليقين وحسب وسائل الإدراك، أن فجر الكلام المباح أهدر دماء مرحلة كاملة، برموزها السياسية والفكرية والثقافية التي شاركت في تشكيل وعيها بمستقبل وجودها، وبلورة فكرها ووجدانها الثقافي .
ولقد خلقت هذه الظروف وعيا " مشوشا "، وقد بدأت تنهار قيم ومبادئ ، وتحل محلها سلوكيات وتوجهات وتصرفات "مستجدة" على الشخصية المصرية، وبعد أن اختل التوازن الإجتماعي، مع المؤشرات المبكرة لتراجع الطبقة الوسطى، وهي محور توازن أي مجتمع .. وما حدث في مصر بعد ذلك أن تلك الطبقة التحمت ماديا واجتماعيا بمستويات طبقة محدودي الدخل، وفقدت دورها بالضرورة داخل المجتمع، في حين طفحت عشوائيا طبقة طفيلية ، وتعالت على الطبقة الوسطى، في حين لم تقبلها أوساط طبقة النخب من أصحاب الدخول التصاعدية، بل سخرت منهم ، ولذلك خلقت الطبقة الطفيلية، من أصحاب الثروات العشوائية، لنفسها عالمها الخاص، من أغاني لاتمت للفن بأي صلة، ومن مصطلحات وتعبيرات ، إلى سلوكيات وتصرفات، راجت معها تجارة المخدرات !!
وربما تستدعى السطور العودة إلى التساؤل : لماذا تجاوزت مصر محنة التصدع في يونيو 1967 والرياح معاكسة والصدمة شديدة ، ولماذا أصبح تسلسل الأحداث بعد معركة السادس من أكتوبر 1973 مثيرا لموجات متداخلة من علامات الاستفهام والتعجب (؟) والإجابة تختصرها كلمات أديب فرنسا الكبير أندريه مالرو : " ليست المسألة هي النصر العسكري أو الهزيمة العسكرية ، المسألة هي إرادة الأمة ، وهذا الذي يبقى وغيره تكنسه الأيام "0
وفي هذا كله، فإن السنوات التي بدأت مع منتصف السبعينيات ـ تقريبا ـ أفرزت العديد من السلوكيات والتصرفات والمفاهيم "المستجدة" على المجتمع المصري، وربما كانت صورة الفن هي الأكثر تعبيرا عن تلك الفترة ، فقد إنحدر مستوى الأغنية، كلمات ولحن وأداء، ومن مستوى أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش ـ مثلا وليس حصريا ـ إلى مستوى العشوائيات الغنائية وكلماتها الهابطة إلى درجة خدش الحياء العام !! وتجلت خطورة دور الفن فيما بعد منتصف السبعينيات ، في مسرحيتين : " مدرسة المشاغبين" تأليف على سالم، ومقتبسة عن الفيلم البريطاني ( To sir ,with love) وعرضت في 24 أكتوبر 1973 أي بعد أيام فقط من انتصارات حرب أكتوبر، واستمر عرضها أكثر من خمس سنوات متواصلة !! والمسرحية الثانية "العيال كبرت" تأليف سمير خفاجي وبهجت قمر، وعرضت في العام 1979 والمسرحيتان كسرتا المحظور في التعامل داخل المدرسة والأسرة .. المدرس والأب .. عرض مسرحي كوميدي ، يتطاول على ما يشبه "التابوهات" التي حافظ عليها المجتمع المصري، وربى أجيالا وراء أجيال على هذه القيم التي تبجّل الأب والمدرس .. الأسرة والمدرسة .. وكانت رؤية الفنان الراحل سعيد صالح ، فيما بعد، وهو أحد أبطال المسرحيتين، "أن مسرحية مدرسة المشاغبين أثرت سلبا في أجيال لمدة 30 سنة قادمة" وبالطبع لم تختلف عنها مسرحية "العيال كبرت" والعلاقة الأسرية القائمة على السخرية والإستهزاء بالقيم والعادات والتقاليد المصرية العربية !
وكان تأثير سياسية الإنفتاح الإقتصادي، التي وصفها الكاتب الكبير الراحل أحمد بهاء الدين ، بسياسة " السداح مداح " أي الأقرب إلى التخبط الإقتصادي، كان التأثير مباشرا وغير مباشر ، على الشخصية المصرية، وخاصة عندما تخلت الدولة عن دورها ( في التعليم والصحة والتوظيف) .. ويرى المفكر الكبير الدكتور أنور عبد الملك أن " كامب ديفيد " هي التي قادتنا إلى ما نحن فيه في السياسة كما في الاقتصاد والاجتماع والثقافة وكافة شئون الحياة .. ويقول : مصر حضارة عمرها سبعة آلاف سنة ، يجرى فيها نيل ، وبفضل النيل هناك زراعة وبفضل الزراعة وجد الاستقرار وعاش الناس ، كانت هذه بتبسيط شديد حياة المصريين ، الذين حرصوا دائما على تحقيق استقرارهم واستقلالهم ، وهو ما تبدي في صورة حديثة في محاولات طلعت حرب تمصير الاقتصاد الوطني، ومحاولات تأسيس قطاع عام قوي في عهد عبد الناصر ، ذلك كله انتهى ، لأن كامب ديفيد لم تكن فقط لها نتائج سياسية ، لكنها أيضا دمرت الاقتصاد الوطني ، وحدث ضعف متزايد للدولة المصرية ، للنظام الاجتماعي والسياسي ، كأنك في سفينة أصابتها العواصف وهي في عرض البحر .
وفي هذه الأجواء، والمناخ المصاحب لها، أصبح الهدف الغالب هو البحث عن فرصة عمل في الدول العربية "النفطية وغير النفطية" وبدأت موجات الهجرة بحثا عن العمل، وبصورة غير مسبوقة، للشخصية التي ارتبطت بالأرض منذ آلاف السنين .. وبالضرورة كان تأثير المجتمعات الخليجية على الشخصية المصرية المهاجرة ، واضحا ، وبتأثير أفكار ومذاهب وعادات وتقاليد، وفي الغالب كان صوت المادة والدين هو الأعلى !! وتزامنت الحالة المستجدة، مع فتح الأبواب والنوافذ في مصر للتيار الإسلامي، بداية من مباحثات استراحة الرئيس في "جاناكليس" في صيف 1971 بترتيبات ورعاية سعودية، للسماح بعودة قيادات ونشاط جماعة الإخوان المسلمين، ثم تكليف الرئيس السادات لمستشاره المقرب، المحامي محمد عثمان إسماعيل، بتأسيس وتشكيل الجماعات الدينيةن والبداية في الجامعات المصرية، لمواجهة أعداء النظام من الناصريين واليساريين ، حسب رؤية السادات !!
ولأول مرة في تاريخ مصر المعاصر، انتشرت أزياء المحجبات، والجلباب الأبيض القصير للرجل الملتحي، ولحق به السروال والشال الأبيض .. كانت الصورة جديدة على مصر، ولم تستوعبها حتى بعد أول واقعة في تاريخ مصر، تسجل إغتيال الجماعة الإسلامية لرئيس الجمهورية " محمد أنور السادات" !!
.....
.....
وفي ظل مناخ مثقل بالمتناقضات وأسباب الحيرة والقلق، وتضارب في القيم الإجتماعية والثقافية، وتخبط في السياسات الإقتصادية والإجتماعية، حتى أصبح الأغنياء أكثر غنى، والفقراء أكثر فقرا، وتمددت دوائر الفساد والمفسدين، وربما لأول مرة في التاريخ المعاصر أيضا، يسمع ويقرأ المصريون عن قصص وروايات فساد واستغلال نفوذ، غير مسبوقة بمثل هذه التفصيثلات الصادمة .. وفي هذا المناخ كانت التحولات النوعية في بعض سمات الشخصية المصرية !!
وأضيف إلى كل هذه المؤثرات، ما حدث مع بداية حقبة الثمانينيات، من مقدمات الغزو الفكري الثقافي .. وخطورة الغزو الثقافي أو الهيمنة الثقافية يمكن الإشارة إلى بعض جزئياتها من خلال رؤية خبير في شؤون العالم الثالث هو " سيرج لاتوش " والتي تضمنها كتابه " تغريب العالم " .. يقول " لاتوش " أن تغريب العالم الثالث (ونحن في القلب منه ) هو أولا عملية محو للثقافة، وتدمير بدون استثناء للبنيات الاقتصادية والاجتماعية والعقلية التقليدية ، إن هذا الذي يعرض على سكان العالم الثالث لكي يحل محل هويتهم الثقافية الضائعة، إنما يتضمن صنع شخصية وطنية عابثة ذات انتماء خداع إلى مجتمع عالمي ( هو الغرب ) أي أن هذا الفيض المتدفق لا يمكنه إلا أن يشكل رغبات المستقبلين وأنماط سلوكهم وعقلياتهم وأساليب حياتهم وبالتالي فإن ضياع الهوية الثقافية يساهم بدوره في عدم استقرار الشخصية الوطنية سياسيا واقتصاديا "
ويتصل بذلك أيضا .. ونقصد اختراق الشارع المصري :
البحوث المشتركة والممولة من جهات أجنبية دون دراسة واعية تحيط بمضمون وأهداف تلك البحوث، وخاصة بعد تعدد المؤسسات الأجنبية الغربية التي تقدم المنح والتمويل لإجراء البحوث الاقتصادية والسياسية والاجتماعية تحت دعوى البحث العلمي والاحتكاك الثقافي مع الآخر ، والاستفادة من الخبرات، وهي في حقيقة الأمر محاولات جادة لاكتشاف مناطق الاختراق وتمرير الأفكار، وتبيّن التشققات التي تتحرك على الساحة المصرية، ليس على أساس عرض الخبرة والحلول الأكاديمية، ولكنه أقرب إلى الأسلوب التقريري أكثر من أي شيئ آخر !!
واتسعت مساحة الاختراق ـ والحديث لا يزال متصلا بالاختراق الأجنبي ـ وكما يقول المفكر الإسلامي الأستاذ فهمي هويدي " الاختراق الذي لا يعد التجنيد هو صيغته الوحيدة وإنما قد يتم أيضا من خلال " الانحياز التطوعي " الذي يلقي ترحيبا ودعما معنويا من القوى الخارجية ، ونحن نعرف ـ والكلمات للأستاذ فهمي هويدي ـ نماذج من البشر تتعبد بالغرب ـ مثلا ـ دون أن تكون مجندة أو مأجورة ، ولدينا قرائن عدة على دور الأصابع الأجنبية، لكن القرائن ترتفع إلى مستوى الأدلة في صدد التدخل الأجنبي لإذكاء العصبيات الدينية والعرقية عن طريق إختراق الأقليات وغوايتها ، والأمر شديد الوضوح في المساندة الفرنسية للبربر في الجزائر، أو التأييد الغربي للمتمردين في جنوب السودان، والدور الأوروبي ـ الفرنسي خاصة ـ الداعم للموارنة في لبنان "
وفي الجملة .. كانت مؤثرات ـ بالصوت والضوء ـ تحيط بالشخصية المصرية .. وبالضرورة كانت هناك انتقادات في مواجهة سلوكيات "مستجدة" وثقافة "طارئة" ولكنها تظل على هامش ثوابت الشخصية المصرية وتجلياتها .