القاهرة 29 يوليو 2015 الساعة 04:00 م
«الحرق» لإلياس كانيتي: بين البداوة والجنون والكتب
«أنا، في أعمق أعماقي، مبهور بثراء هذه الرواية، بما فيها من خيال فائض، وروعة مشروعها المتعب، ناهيك بجرأتها الفنية، وبحزنها العميق...». هذا الكلام الذي كتبه ذات يوم كبير الروائيين الألمان في النصف الأول من القرن العشرين، توماس مان، عنى به رواية بالكاد كان أحد سمع بها وبكاتبها في ذلك الحين. بل حتى رواية لم يتمكن كاتبها من أن يكتب رواية غيرها خلال حياته، حتى وان كان، فيما لا يقل عن ثلاثة مجلدات قد حول حكاية حياته هو نفسه الى رواية طويلة، وحتى أيضاً وان كان كتب عن مدينة مراكش المغربية نصاً عنوانه «أصوات مراكش»، كان من شأنه، مع شيء من الخيال والتوسّع، ان يكون رواية كبرى. لكن الرجل كان يقول انه لم يُخلق لكي يكون روائياً. وهو كان يصر على هذا الى درجة انه حين نال جائزة نوبل للآداب في العام 1981، بالكاد ذكر أحد روايته هذه بين أعماله الكبيرة. ومع هذا لم يكن مان مخطئاً حين أعلن انبهاره بها... وهو لم يكن الوحيد، اذ ان كاتباً في حجم سلمان رشدي لم يكف عن الحديث عنها بتمجيد، هو الذي يعرف معنى حرق الكتب. فالرواية هي عن حرق الكتب. وتحديداً عن حرق متعمد للكتب بما يعنيه ذلك من وأد للعقل. الرواية التي نتحدث عنها هنا هي «الحرق» – «أوتودافيه» – لإلياس كانيتي الذي حتى أيامنا هذه، لا يزال اسمه بعيداً عن الساحة العامة، اللهم إلا في ما خصّ كتابه الأشهر «الجمع والسلطان» الذي يعتبر من أهم دراسات القرن العشرين التي عالجت مسألة علاقة الجماهير بالسلطة. أما رواية «الحرق فهي شيء آخر تماماً.
> تدور الرواية من حول بيتر كاين، وهو عالم في الشؤون الصينية في الأربعين من عمره، يعيش في شقة واسعة في أحد أحياء فيينا. وكل ما في الشقة عبارة عن جدران سُدّت نوافذها جميعاً لتحوّل جدرانها الى مكتبات مليئة بما يصل الى 25 ألف كتاب. والرجل، من دون أن يشغل منصباً رسمياً، جعل اهتمامه الأساس اللغة والثقافة الصينيتين. فهو لأنه ثري يرفض ان يدرّس في الجامعة، بل لا يكاد يخرج من شقته التي يعيش فيها وحيداً غير مهتم بما يحصل خارج عالمه. أما جيرانه فهو ليس بالنسبة اليهم سوى مجنون. ولكن ذات يوم يحدث لبيتر كاين هذا ان «يلعب الشيطان في عقله» فيتزوج خادمة بيته، التي ما إن تصبح زوجته حتى تتكشف عن لبوءة حقيقية وتطرده من الشقة بلا رحمة... وفي الخارج نراه يقع بين يدي الشقي فيشرل، الذي سرعان ما يجرده من بقية ما تبقى له، فيتواكب هذا مع فقدانه لبقية ما كان له من عقل ليخوض مغامرات إجرامية تقوده الى السجن. وهنا يظهر أخوه غيورغ، المحلل النفسي المعروف الذي يعيش في باريس، فيصل الى فيينا لإنقاذ أخيه وهو غير دارٍ بجنونه. يعيد غيورغ بيتر الى الشقة ويرحل. وبيتر ما إن يجد نفسه وحيداً في شقته بين كتبه، حتى يغلق الابواب جميعاً ثم يشعل النار في الكتب وحين تصل النار إليه «ينفجر في ضحكة لم يسبق له ان انفجر في مثلها من قبل في حياته»... وبهذه العبارة تنتهي الرواية التي بالكاد تنبه اليها أحد حين ظهرت للمرة الأولى في العام 1936. ولكن بعد زمن، وعلى ضوء الصعود النازي، واذ اكتشف كثر من النقاد الرواية، نظروا اليها كعمل تنبؤي اساسي في أدب القرن العشرين، بل أكثر من هذا: اعتبر كثر من النقاد رواية «الحرق» استكمالاً للجنون الذي رأوا انه من سمات آداب القرن العشرين، فباتت الرواية تعامَل، اسلوبياً ومضمونياً، على غرار ما تعامل روايات كبرى معاصرة لها أو سابقة بعض الشيء، ولا سيما روايات روبرت موتسيل والفريد دولين وفرانز كافكا.
> وإذا كانت «الحرق» رواية عن الثبات في المكان والجنون دون مغادرته، والموت فيه، فإن اللافت في الأمر هو انه ربما كان من الصعب العثور على كاتب في القرن العشرين يمكنه ان يمثل «بداوة» الإبداع مثل ما فعل الياس كانيتي، الذي كان يعتبر كاتباً نخبوياً من دون ان يعرف أحد كنه ما يكتبه حقاً، حتى كان العام 1981 حين فاز بجائزة نوبل للآداب، فاشتهر اسمه بين ليلة وضحاها، وراح القراء الفضوليون يكتشفون فيه الروائي والناقد والفيلسوف في آن. لكنهم ايضاً اكتشفوا «البدوي» الحقيقي، ذلك الذي عرف كيف يتجول بين الأوطان واللغات بشكل ندر ان عرفه أي كاتب آخر، فالياس كانيتي، المولود في بلغاريا في أسرة اسبانية يهودية الاصل، تلقى علومه في بريطانيا، وعبّر عن نفسه دائماً باللغة الالمانية، أما لغته الأم فكانت الاسبانية اضافة الى البلغارية.
> غير ان المسألة لم تكن تقنية وجغرافية بحتة، بمعنى ان الياس كانيتي لم يستخدم التنوع اللغوي والتشتت الجغرافي كمجرد أدوات تعبيرية، بل كانا أموراً جوهرية بالنسبة اليه، ومن هنا نراه في كتاباته وقد عبّر عن هموم انسانية عامة كما نراه يعبّر في الوقت نفسه عن مستوى من الحكمة يضعه في صف واحد مع كبار الكتّاب الاخلاقيين الذين عرفهم القرن العشرون، ولعل الفصول العديدة من كتابه الأشهر «الجمع والسلطان» تكفي لاطلاعنا على عمق تفكير هذا الكاتب الذي كان من اولئك الكتّاب الذين عرفوا كيف يتجاوزون الحواجز بين الأمم والشعوب لتقديم عمل ينضح بالشمولية الانسانية وذلك يتجلى في العديد من نصوصه سواء كانت روايات (مثل «الحرق») أو كتباً فلسفية - اجتماعية (مثل «الجمع والسلطان») أو كتب سيرة ذاتية (مثل أجزاء سيرته وأشهرها «اللسان وقد أُنقذ»).
> ولد الياس كانيتي في مدينة روتشوك في بلغاريا في العام 1905، لكنه لم يبق هناك سوى ستة اعوام اذ انه اضطر في العام 1911 الى اللحاق بوالديه في انكلترا، وبعد ذلك بسنتين، حين توفي ابوه، توجه كانيتي الى النمسا ليعيش بضع سنين غادر بعدها للتنقل بين المانيا وسويسرا حيث حصل علومه الثانوية، وهو بعد ذلك عاد الى فيينا، عاصمة النمسا، لكي يحصل دراسته الجامعية ويحوز على شهادة الدكتوراه في الفلسفة. والحقيقة ان مدينة فيينا هي المدينة التي أحبها كانيتي أكثر من أي مدينة أخرى، كما عبّر عن ذلك في كتاباته، غير انه اضطر لمغادرة فيينا، بين من غادرها من كبار الكتّاب والمبدعين التقدميين والديموقراطيين، في العام 1938 يوم دخلتها القوات الهتلرية، وهذا أمر لن يغفره كانيتي لهتلر بعد ذلك، على الاطلاق.
> اذن، غادر كانيتي النمسا، وتوجه منذ ذلك الحين ليعيش في انكلترا، حيث سيمضي القسم الاعظم من سنواته، ممتهناً حرفتي الكتابة والترجمة في الوقت نفسه. صحيح ان كانيتي عاش عقوداً عديدة من حياته في انكلترا وان لغته الام كانت الاسبانية، الا انه فضّل دائماً ان يكتب بالالمانية، لغة اعدائه الهتلريين فأبدع بها العديد من النصوص التي جعلته يعتبر من كبار كتّاب الالمانية في القرن العشرين. مهما يكن، فإن كانيتي حين كان يُسأل عن ذلك التناقض وعما كان يدفعه الى استخدام لغة تحلّ لديه في المرتبة الرابعة من حيث وجودها في حياته، كان يقول انه يتبع في ذلك مثال كافكا، ويريد ان يظل شقيقاً، في الكتابة للعديد من كبار كتّاب الالمانية الذين يحبهم، من بروخ الى كارل كراوس الى بريخت. رواية «الحرق» (1935) كانت أول عمل كبير كتبه كانيتي، أما العمل الشهير التالي فكان مسرحيته «كوميديا الوحدات» (1950) التي تتحدث عن حكومة تمنع الناس من استخدام المرايا أو من تعليق صورهم! وفي مسرحية تالية له عنوانها «موتى مع وقف التنفيذ» (1956) يطالعنا قادة دولة شمولية وقد آلوا على أنفسهم أن يوقفوا ألم الناس ازاء الموت بتحديد موعد محدد لموت كل واحد منهم. ويكون ان تقوم ثورة باسم اللايقين يقودها اناس لم يعودوا راغبين في معرفة تاريخ موتهم بشكل مسبق.