القاهرة 29 يوليو 2015 الساعة 10:58 ص
القناة والأوبرا والبرلمان!
لو كان لى أن أقترح على الرئيس السيسى عملا يتبناه ويعلن عنه فى خطابه الذى سيلقيه يوم افتتاح قناة السويس الجديدة اقترحت عليه إعادة بناء دار الأوبرا التى بناها الخديو إسماعيل لتشارك فى الاحتفال بافتتاح القناة الأم.
وقد شاركت الأوبرا فى هذا الاحتفال ولعبت دورها المشهود فى الثقافة المصرية الحديثة، ثم تعرضت منذ خمسة وأربعين عاما لحريق دمرها بما كان فيها من كنوز فنية وذخائر تاريخية لا تعوض. وانتهى أمرها إلى أن صارت حظيرة للسيارات بعد أن كانت قلب العاصمة النابض وعقلها المفكر ورايتها الساهرة المتلألئة.
لقد كان حريق الأوبرا فى اليوم المشئوم الثامن والعشرين من أكتوبر عام ألف وتسعمائة وواحد وسبعين الحلقة الأخيرة فى سلسلة الحرائق المدمرة التى بدأت بحريق القاهرة فى اليوم المشئوم السادس والعشرين من يناير عام ألف وتسعمائة واثنين وخمسين وأسدلت الستار على النهضة المصرية وقضت على كل معالمها. فبعد حريق القاهرة أقال الملك حكومة النحاس لتسقط البلاد فى الفراغ القاتل ويصبح النظام القائم عاجزا معزولا عزلة تامة فتحت الطريق أمام ضباط يوليو ليستولوا على السلطة، ويوقفوا العمل بالدستور، ويحلوا الأحزاب إلا جماعة الإخوان التى بدأوا حلفاء لها، وينكلوا بالمعارضين من السياسيين والمثقفين وأساتذة الجامعة، ويفرضوا الرقابة على الصحف، ويحولوا أجهزة الإعلام إلى أبواق للدعاية. وهكذا توالت الحرائق وبلغت ذروتها فى حريق دار الأوبرا الذى كان بدوره بداية مرحلة تراجع أخرى تلت مرحلة التوقف عن النهوض وإزالة معالم النهضة وتمثلت هذه المرحلة الأخيرة فى انفراد جماعات الإسلام السياسى بالعمل السياسى بكل صوره وكل أدواته. بالمصحف والسيف، والسكر والزيت، وبالمجتمع والدولة، وبالداخل والخارج، فليس بعيدا أبدا أن يكون حريق الأوبرا خطة مرسومة وجريمة مدبرة. وإذا كانت هذه الجماعات الإرهابية قد اغتالت الشيخ الذهبى، واغتالت السادات، واغتالت فرج فودة، وحاولت اغتيال نجيب محفوظ، وشوهت صورة طه حسين واتهمته بمعاداة الإسلام، وإذا كانت قد استولت على المدارس والجامعات، واستخدمت كل الطرق المشروعة وغير المشروعة لإقناع الفنانين والفنانات باعتزال الفن والتبرؤ منه، فدار الأوبرا موجودة لاشك فى قائمة الأعداء، لأنها قلعة شامخة من قلاع النهضة المصرية التى حررت مصر والمصريين من عصور الظلام والانحطاط التى تسعى هذه الجماعات لإحيائها وإعادتنا إليها كما تفعل الآن فى سوريا والعراق وليبيا. إنها تذبح الرجال وتسبى النساء وتدمر المتاحف والمكتبات. فإذا كنا الآن، نحن والعالم كله، فى حرب طاحنة مع هذه الجماعات المتوحشة فالثقافة سلاح من أمضى أسلحتنا. وإعادة بناء دار الأوبرا ليست مجرد عمل ثقافي، وإنما هى عمل من أعمال الدفاع عن الأمن القومي. والأمن القومى هو أمن الأمة المصرية. أمن الدولة الوطنية والنظام الديمقراطى وهما أعظم إنجازات النهضة المصرية التى حققنا فى مناخها الصاحى المتوثب كل ما حققناه لنلحق بالعصور الحديثة وننخرط فى حضارتها. ونحن نسيء تقدير الوقائع والأعمال حين ننظر إلى كل منها على حدة كأنها منفصلة بعضها عن بعض لا يجمع بينها منطق ولا يربطها رابط. ولهذا لا نرى من أى شيء إلا وجهه الظاهر المكشوف. فالقناة بهذه النظرة الضيقة مجرد ممر مائى وليست حلقة وصل بين الشرق والغرب، بين ثقافات وثقافات أخرى وبين عصور جديدة بدأت وعصور ماضية انتهت. وكما أن القناة ليست إلا ممرا مائيا فدار الأوبرا ليست إلا مسرحا يمكن أن يغنى عنه أى مسرح آخر، وهذا ما صنعناه حين قررنا أن نعتبر المسرح الذى بناه لنا اليابانيون فى أرض المعارض دارا للأوبرا، مع أنه بنى لتقدم فيه الفنون التراثية التى لا يحتاج عرضها لما يحتاج إليه فن الأوبرا. فالأوبرا كما هو معروف فن يعتمد اعتمادا أساسيا على الصوت الذى لابد أن تضمن له العمارة نقاءه وشخصيته وقدرته على الوصول إلى الجمهور، ولهذا تخصص الإيطاليون الذين نشأ فى بلادهم فن الأوبرا فى عمارة دور الأوبرا وعمارة المسارح بشكل عام.
فإذا افترضنا أن المسرح الحالى الذى بناه لنا اليابانيون لا تنقصه الشروط التى يتطلبها فن الأوبرا فهو لا يستطيع أن يحل محل الدار التى فقدناها، لأن هذه الدار لم تكن مجرد مسرح وإنما كانت ركنا أساسيا من أركان نهضتنا الحديثة.
والمشتغلون بالموسيقى والمهتمون بها يعرفون أن الأوبرا والمسرح الغنائى بكل أشكاله ارتبط بالنهضة الأوروبية التى نشأت فيها اللغات والثقافات القومية وازدهرت فنون الأدب والتشكيل والمسرح والموسيقي، واشتعلت الثورات التى أسقطت النظم المستبدة، وفصلت بين الدين والدولة، وأرست حكم الدستور والبرلمان.
لقد تمكن الأوروبيون فى عصر النهضة وما تلاه من استعادة حقهم فى الحياة لأنهم خلصوا أنفسهم من طغيان الملوك ووصاية رجال الدين وصاروا أحرارا يقدسون العقل ويكتشفون العالم ويحكمون أنفسهم بأنفسهم. ومن هنا تحولت حياتهم إلى فرح بالحياة عبر عنه فن الأوبرا الذى جمع بين مختلف الفنون فى فن واحد. فالأوبرا قصة وشعر وغناء وموسيقى ورقص وتمثيل وتصوير.
وهناك من يظنون أن فن الأوبرا لا يعبر عنا ولا يعنينا لأنه فن أجنبي، وهذا كلام لا يستند إلى أساس، لأن الأشكال الأدبية والفنية طيور مهاجرة تنتقل من بيئة لبيئة ومن ثقافة لأخري. وقد نقلنا عن الأوروبيين فن الرواية وفن المسرح والسينما. وفن الأوبرا هو الأب الشرعى للمسرح الغنائى المصرى ولفن الأوبريت الذى ازدهر على أيدى سلامة حجازي، وسيد درويش، وزكريا أحمد، وداوود حسنى وبلغ قمة ازدهاره فى السنوات التى اشتعلت فيها ثورة 1919 واشتد فيها ساعد الحركة الوطنية، وتحررت مصر من تبعيتها للأتراك ومن الحماية البريطانية، وحصلت على الدستور والبرلمان، وانفتحت على الثقافة العقلانية وعلى حقوق الإنسان، وتبلورت فكرة المواطنة، وارتفع شعار «الدين لله، والوطن للجميع، وتحررت المرأة، وكان الفن الذى عبر عن هذه النهضة الشاملة هو المسرح الغنائى الذى تغنى فيه المصريون بأمجادهم، وعبروا عن تقاليدهم، وسخروا من الغزاة الأجانب ومن الحكام الطغاة، وشجعوا البنت المصرية على أن تتعلم وتتحرر وتخلع الحجاب والنقاب. وهل تغنى بمصر أحد كما تغنى بها سيد درويش فى أوبريت «شهر زاد»: أنا المصرى كريم العنصرين/ بنيت المجد فوق الأهرامين»؟ وهل دعا إلى السفور أحد بعد قاسم أمين كما دعا إليه زكريا أحمد فى أوبريت «السفور»: ولا برقع ولا حبرة/ ولا بيشة ولا ملاية/ الشرق نايم والزمان عمال يدور/ واتغيرت واتبدلت وياه أمور/ والبنت لما تعلمت والعلم نور/ طالبت بحريتها فى عهد السفور»؟
قناة السويس إذن ليست بعيدة عن الأوبرا. والأوبرا ليست بعيدة عن البرلمان. ونحن فى أمس الحاجة للقناة وللأوبرا وللبرلمان، لأننا فى أمس الحاجة لنهضة شاملة نستأنف بها ما بدأناه ولم نكمله. وهذا ما أتمنى أن يحدثنا عنه الرئيس السيسى فى خطابه المنتظر.