القاهرة 29 يوليو 2015 الساعة 10:56 ص
كتابة إنسانية مدهشة
رضوى عاشور.. للمرة الثانية أرسلت لنا رسالة تحمل كتابة انسانية مدهشة، ولنا هنا ضمير يعود على كل مصرى عربى يقرأ ويرى ويسمع ويعيش واقعنا بقلب سليم
«الصرخة» الجزء الثانى «من سيرتها: مقاطع من سيرة ذاتية» أثقل من رضوي». صدر الجزء الأول عن دار الشروق 2013، روت فيه الكاتبة تجربتها مع المرحلة الأولى من المرض والعلاج وما كان يجرى فى مصر من أحداث بين عامى 2010 و2013 وفى «الصرخة» الصادر عن نفس الدار 2015 تكمل رواية تجربتها مع عودة المرض وتصاعد أحداث مصر حولها. توقفت عن الكتابة فى سبتمبر 2014 حتى وافتها المنية فى 1 ديسمبر من العام نفسه. النص وثيقة ثورية انسانية فنية مدهشة. لا، لم يرحل هذا الصوت. رغم الألم مازالت تسمع وتري، مازالت تقول: رسائل اليأس: عمل لا أخلاقي.
يقول لنا عصفور الجنة الذى رحل:
«اصبر يا سيدي. واعلم أننى أريد أن أحدثك عن مسعاى للكتابة الآن بعد فترة انقطاع لم تتجاوز بضعة أشهر، وإن كانت حافلة بالمجريات والأحداث الجلل. أحاول الكتابة وقد غدا السؤال «هل أستطيع؟» يلازمني... تميم (ابنها الشاعر تميم البرغوثي)، لو سمحت أقرأ هذا المدخل، قل لى رأيك فيه، يقرؤه، يثنى عليه، لا أصدقه. مريد (زوجها الشاعر مريد البرغوثي) هل يمكن أن تقرأ ما كتبت؟ يعجبه ما كتبت، لا أصدقه.
«اسمح لى يا سعد الله (صديقها الكاتب والمسرحى سعد الله ونوس) سأعدل عبارتك تقول: أسوأ ما فى المرض أنه يكسر الكبرياء. لا يا صديقي، أسوأ ما فى المرض أنه يربك ثقتك بنفسك فيسرب إليك الخوف من أنك لا تصلح، ولن تستطيع».
ورغم أن عصفور الجنة قد تركنا وغادر فإنها قد استطاعت أن تترك لنا رسالة تحدثنا فيها عن كل ما يهمنا: عن نفسها وعن الكتاب، عن الثورة التى منحتها قلبها وعيونها. عن الجامعة التى كانت مع الثورة يقينها فى عائلة سويف، وأحمد سيف الاسلام. وعلاء عبد الفتاح ـ وخالد الوليد عن لطيفة الزيات التى قالت فى صوت خفيض «أمر حزين» وتركت لنا صورة: «حنظله» لناجى العلى فى صورة أهدتها إلى تميم جدته مع أبيات لمحمود درويش تقول:
خسرت حلما جميلا/ خسرت لسع الزنابق/ وكان ليلى طويلا/ على سياج الحدائق/ وما خسرت السبيلا. وما خسرت السبيلا.
رغم الفراق، وأوجاع الشارع والجامعة والمعتقلين الأحرار، وصورة علاء يحمل ابنه خالد على كتفيه، فإن كتاب الصرخة يبقى عملا ثوريا وطنيا أهدته رضوى عاشور لنا وللأجيال التى تحمل مسئولية إكمال الطريق.
اختارت الراحلة اسم الكتاب «الصرخة» وتمنت على الناشر أن يضع على الغلاف صورة «الصرخة» اللوحة التى رسمها الفنان النرويجى فريدرك مونش (1863 ـ 1944) وهى من أشهر اللوحات العالمية التى تحمل رسالة الاحتجاج والغضب من حالة الواقع. اختيارها للوحة جزء من نص الكتاب الوثيقة: جزء قالته وجزء لم تقله. تقول رضوى فى مدخل الكتاب. كتب الفنان مونش فى يومياته تعليقا على اليوم الذى رسم فيه الصورة:
كنت أسير فى الطريق برفقة صديقين عندما غربت الشمس. فجأة غدت السماء حمراء لها لون الدم. توقفت ومالت على السور وقد غلبنى إرهاق لا يوصف. كانت ألسنة اللهب والدم تمتد على الزرقة المسودة لمياه الخليج. واصل صاحباى السير وبقيت واقفا أرتجف من شدة الخوف/.. ثم سمعت صرخة الطبيعة هائلة وبلا نهاية» يقال إن الجسر الذى كان يقف عليه مونش تحته سلخانة تذبح فيها الحيوانات ويعلو لها جئير، كما أن تحت الجسر مستشفى للأمراض العقلية كانت تعالج فيها شقيقة الفنان. كما يقال أيضا إن بركانا كبيرا انفجر فى ذلك اليوم. الوجه الذى يصرخ بلا ملامح لا طفل ولا عجوز لا رجل ولا امرأة. لكنها روح ملتاعة من هول ما تسمع وتري.
تعطى رضوى عاشور ملامح إنسانية لكل عذاب. ترى مع صديقها القارئ وصديقتها القارئة ما هو حق وعدل وجميل خلف كل ظلم وقبح وبشاعة. تضع ملامح لوجه مونش الصارخ الذى سقطت من الفزع ملامحه وتقول .. لم أر أبدا مشهدا مماثلا لغروب يستحضر لى لون الدم.. كان الجو فى بيتنا الذى يطل على النيل فى الغالب صحوا وماء النيل رائقا وزرقة السماء صافية. ولقرص الشمس الغاربة ألفة حبة برتقال.يا عصفور الجنة الذى رحل لا تنسى أن تزورنا كل ربيع.