القاهرة 28 يوليو 2015 الساعة 11:37 م
"بتشدنى دنيتى للرجوع"ودراما الانهزامات اليومية
ينبنى ديوان "بتشدنى دنيتىللرجوع" للشاعر عصام عبد المحسن على طريقة خاصة فى ترتيب القصائد وتنسيقها،بحيث يتم تشييد الدلالات النصية بطريقة تحيل مباشرة إلى الدراما، حيث يبدأ الشاعرالديوان بقصيدة عنوانها "تتر البداية" وينهيه بقصيدة "تترالنهاية"، ما يشد القارئ ويوجهه نحو طريقة محددة فى تلقى نصوص الديوان،بوصفها حلقات فى مسلسل درامى له تتر للبداية وآخر للنهاية، وفى الوسط نرى مجموعةمن الانهزامات اليومية، التى تأتى من مناطق عدة، مثل الموت والحب وغيرهما، والتىلا تخلو أيضًا من بعض النقاط المضيئة، مثل قصيدة "ثلاثية فؤاد الروح"التى يهديها إلى الشاعر فؤاد حجاج، لكن الانهزام يبدو مهيمنًا رغم هذه النقاطالقليلة المضيئة، ما يجعل الذات الشاعرة تتعاطى مع العالم والحياة بوصفهما ورطة أومأزق لم تختر الوقوع فيه، بل وتتمنى الرجوع عنه منذ البدء، يقول فى قصيدة"تتر البداية":
الكون فاتح بقه ف وشى
وأنا لسه مانزلتش
على وش الدنيا
الداية بتشد ف راسى
وعنيا.. سابقه التفكير
خرجت دماغى
على عتب الباب (المتوارب)
حسيت بدوار مع غربة
حبيت ارجع..
ماعرفتش[13]13
إن الذات الشاعرة تعلن، منذ البدء،عن شعوها بالغربة والاغتراب على هذا العالم منذ مجيئها له، وعن رغبتها فىالاستمرار فيه، وحبها للرجوع إلى رحم الأم، كمكان أكثر أمنًا وحميمية، مكان بلاأحزان أو اغتراب أو فقر أو موت، ثم تواصل الذات الشاعرة سرد تفاصيل حياتها، فيمايشبه "السيرة الشعرية" لهذه الذات، فنرى الحب الذى انتهى فى "فواصلللنهاية" بمقاطعها المختلفة، كما تقف الذات الشاعرة، أيضًا، على ملامح صراعهامع الزمن والحركة والفعل الذى تراه الذات من حولها لكنها واقفة ولا تتحرك، كأنهالا تملك سوى أن ترى كل شىء وهو يتبخر أمامها، يقول:
صاحى على صوت القطر
بيجرى طول الوقت
وأنا لسه مكانى
واقف.. مستنى
الساعة.. مبحوحة الصوت
ماسمعتش شىء جوايا
ماعرفتش ارفع إيدى أشيل الحمل
ماقدرتش..
عدى القطر.. وفضلت أنا واقف
على باب السطر[14]14
يتبدى فى هذا المقطع عنف الصراع مابين الداخل والخارج، بين الرغبة والقدرة، الحركة والسكون، الزمن المتحرك والزمنالساكت، عبر هذه الذات غير القادرة على الفعل، أى فعلاً، مهما كان ضئيلاً، حتى لوكان مجرد رفع اليد، ومن ثم يتجاوزه قطار الحياة والفاعلية والحركة والزمن، لتجدالذات نفسها واقفة بلا حول ولا قوة.
وقد اتكأ الشاعر على الصورة المشهدية، بطبيعتهاالسينمائية، وبكل ما تحمله من "تقطيعات" الكاميرا، التى تتحول من القطارإلى الساعة إلى الذات العاجزة، فى تعاقب سريع ولاهث، يناسب إيقاع العالم الصاخبوتحولاته، وعدم قدرة الذات على مسايرة هذا الإيقاع.
فى ظل هذا العجز عن مسايرة الإيقاعالسريع واللاهث، تلجأ الذات الشاعرة إلى النوستالجيا، التى تمثل هى الأخرى وجهًاآخر من وجوه الانهزامات، لكنها –رغم ذلك- أكثر حنوا على الذات الشاعرة، فنراهاتلجأ أحيانًا إلى "ألبوم صور" وأحيانًا أخرى إلى "دفتر أوراق"اللذين يمثلان ملفين شعريين داخل الديوان، ويضم كل منهما مجموعة من القصائد، حيثيقول فى قصيدة "صورة أمى" مثلاً:
قلبت كل الصور
ووقفت..
على صورة كانت لامى
وهى لمانى مع اخواتى
بطرحتها اللى منقوشة بورد جميل
مغطى شعرها أبيض[15]15
فالصورة القديمة التى تجمع الأم وأبناءهاليست مجرد نوستالجيا، بل حماية للذات الشاعرة، إنها شبكة أمان بدرجة أو بأخرى، حيثتشعره بالدفء والحنو، كما نرى أيضًا استحضاره للحب بوصفها ملاذًا آخر، يحمى الذاتمن الاغتراب ويزيل عنها أوجاعها، يقول فى قصيدة "ورقة رابعة":
أنا لما بجيلك كل يوم
باظهر سعيد
وضحكتى بتغطى وشى
الجميل فى المسألة
بتضحكينى بجد
وتخرجينى من نفسى
ومن حزنى
بلمسة من حنان قلبك
وتشبيكة إيدينا ف بعض[16]16
إن الذات الشاعرة تستحضر كل ما كانيمثل أمانًا بالنسبة لها، فى محاولة لاستعادة حزمة من القيم التى غابت، ما جعلهاتشعر بوطأة الاغتراب الموجود معها أصلاً منذ الميلاد، حتى إنها تستحضر ما كانيمثله الأخ الأكبر من أنساق قيمية لم تعد موجودة، يقول فى قصيدة "أيوبزمانى":
أنا عارف نفسى بتتدلع..
ومافيش فى دماغى
حاجات تشغلنى
دا لإنى عارف انك موجود
بتسد ورايا كل شقوق
باعملها بنفسى جوه حيطان دنيتى
وبإبرة صبرك اللى مالهوش زى
عمال بتخيط وترقع
وبتوصل حبلى }بصرى{
مع كل الخلان والأهل
واصحابك اللى معرفنى عليهم
وانت بتتباهى بيا معاهم[17]17
فالذات الشاعرة، هنا، لا تبكى فقطمجرد أخ رحل، بقدر ما تبكى جملة من القيم الغائبة، والتى تفتقدها الذات الشاعرة فىلحظتها الآنية، ممثلة فى هذا الأخ الذى كان يمثل الدعم، بل إنه كان بمثابة الجسرالذى تعبر عليه الذات الشاعرة إلى العالم، فقد كان الحبل السُرى الذى يربط الذاتالشاعرة بعالمها، بالأهل والخلان والأصدقاء، وفى الوقت نفسه يسد الثغرات التىتخلفها الذات الشاعرة وراءها، ومن ثم فقد انقطع هذا الحبل السرى الذى يربط الذاتبعالمها بموت هذا الأخ، ما يعمق الشعور بالاغتراب والوحدة، وربما الموت الرمزى.