القاهرة 28 يوليو 2015 الساعة 11:32 م
أعمى بيقرا كتابه بتصرف.. أغنيةللغائبين
ينطلق الشاعر محمود الحلوانى فىديوانه "أعمى بيقرا كتابه.. بتصرف" من احتفاء ظاهر بالموسيقى والغناء،سواء عبر الموسيقى المهيمنة على بناء معظم قصائد الديوان تقريبًا، بحيث يبدوالإيقاع النغم واضحًا للغاية، عبر تكرار القوافى والإيقاعات العروضية، كما تبدوالموسيقى حاضرة أيضًا عبر كونها موضوعًا أو تيمة يتم استحضارها عبر أكثر من نص،مثل "موسيقى من عندك.. أشوف بيها" التى يتضح من عنوانها مركزية الموسيقىبالنسبة للذات الشاعرة، حيث تغدو الموسيقى، فى هذا السياق، الوسيلة التى تمنحالذات القدرة على الرؤية والإبصار، سواء الرؤية بمعناها المادى (البصر) أوبمدلولاتها المعنوية (البصيرة) إذ تصير الموسيقى قرينة القدرة على الشوف وتحديدالمسارات، وفى المقابل يرتبط غيابها، أيضًا، بالعمى المادى والروحى كذلك، ولعلالتقاطع بين عنوان هذه القصيدة والعنوان الكلى للديوان يبدو واضحًا، فكلا العنوانينيضفى زخمًا دلاليًّا على الآخر، ويفسره فى الوقت ذاته، حيث تمتلك الموسيقى القدرةعلى انتشال الذات الشاعرة من عماها، وتمكينها من قراءة كتابها، عبر تنغيم كلماتهذا الكتاب، يقول الشاعر:
أستغفرك يا رب
ياللى انت شايف روحى م الأول ومالآخر
وسامع خطوتى ع الرمل
نزّل موسيقى يا رب من عندك
أشوف بيها
تفتح لى باب مقفول..
أو ترد فى وشى باب[6]6
الذات الشاعرة، هنا، تبدأ بمناجاة معالله واستغفاره، مسلمة برؤية الله للروح وعذاباتها، حتى وإن لم تكن مفردة العذابأو الحيرة أو التيه حاضرة مقرونة بالروح، لكنها تكشف عن حضورها من السياقالاعترافى، فضلاً عن التأكيد عليها فى السطر الشعرى التالى "وسامع خطوتى علىالرمل"، وتبرز فى هذا السياق طريقة بناء الصورة، بما تستدعيه الرمل منالصحراء والهجير والظمأ، كل هذا كمقدمة تؤدى بالذات الشاعرة إلى طلب الموسيقىلتتنزل عليه من السماء، بما يحيلنا مباشرة إلى الوحى الذى يتنزل من السماء، إذتصير الموسيقى بمثابة الوحى الذى تطلبه الذات الشاعرة، وحيها الخاص الذى سيمكنهامن الرؤية، بل وتذهب الذات الشاعرة فى بناء مفعولية الموسيقى مبلغًا جديدًا، إذتتجاوز قدرة الموسيقى قدرتها على تمكين الذات من الرؤية إلى خلق عالم بديل للذات"تفتح لى باب مقفول../ أو ترد فى وشى باب"، إذ ستنقل الموسيقى الذاتالشاعرة من عالمها الصحراوى وتيهها الروحى إلى العمران وأبوابه، سواء بفتح هذهالأبواب أو إغلاقها.
يتجلى حضور الموسيقى، أيضًا، فىقصيدة "موال لحلو المعانى" التى يبدو الربط فيها واضحًا بين"الموال" ببنيته الموسيقية وبين "حلو المعانى"، إذ يأتى حرفالجر "ل" وكأنه يؤكد أن الذات الشاعرة ستنشد موالها من أجل المعانىالحلوة، هذه المعانى التى يجب مكافأتها بشىء فى مثل جمالها، ولا تجد الذات الشاعرةأجمل من الموال بطابعه الموسيقى لتقدمه إلى هذه المعانى العميقة، التى تفضحالتناقضات الاجتماعية، فهى قصيدة كاشفة عن عمق البؤس الاجتماعى وما يزخر بهالمجتمع من تناقضات فجة، يقول:
عمال مناجم، غواصين، مطاريد
بين المحاجر عرق
فى المينا رجل وإيد
شايلين وقيد الجبل والضهر متهالك
والشيخ على كرسيه قاعد ومتهالك
لكنه بالمرصاد عافقهم عفقة المالك
اللى يهزه الغرام، يم المقام، هالك
يبنوا له فى ممالك، وهو مكفى عالعكاز
تمثال فى هيئة ملك، وتحته عرش إزاز
انظر تلاقى الحياة والموت
الاتنين سوا فى برواز
ألغاز فى ألغاز فى ألغاز
الأرض كسر إزاز.. وانا سارحبأنعامى[7]7
هكذا تبدو الذات الشاعرة قادرة علىرؤية التناقضات الاجتماعية والسياسية وتعريتها، عبر امتلاكها الموال وموسيقاه،وتتخذ وضعية المنشد الشعبى القادر على تعرية المجتمع، وفضح الملك المتهالك علىعرشه الهش، كما يمتلك أيضًا القدرة على استخلاص الحكمة وتقديمها لمتلقيه الذى يحضربقوة داخل الخطاب الشعرى "انظر تلاقى الحياة والموت/ الاتنين سوا فىبرواز".
ونرى فى هذا المقطع الشعرى ثلاثة مستوياتللخطاب، الأول المستوى الوصفى الذى ترصد من خلاله الذات الشاعرة عورات العالم منحولها وتسرد فيه بشكل تهكمى أسيان أدق تفاصيل المشهد الاجتماعى والسياسى، سواءبالنسبة للعالم التحتى المقهور وعرق العمال الكادحين ومدى شقائهم، أو بالنسبةللعالم السلطوى المتجبر الذى يحكم حولهم الخناق "عافقهم عفقة المالك"،ثم تنتقل الذات إلى مستوى مخاطبة المروى عليه داخل النص وحثه على النظر إلى الحكمةالفلسفية فى المشهد الذى وصفته فى المستوى الأول، ثم تنتقل إلى مستوى ثالث، يأتىعبر سطر واحد، يفضح كذلك مأساة الذات الشاعرة "الأرض كسر إزاز.. وانا سارحبأنعامى"، ليتم بذلك استحضار ضمائر "هم، أنت، أنا" متجاورين داخل المقطعالشعرى.
تحضر الموسيقى، أيضًا، عبر التضميناتالكثيرة داخل ثنايا نصوص الديوان لكثير من الأغانى الشهيرة، سواء أغانى أم كلثومأو عبد الحليم حافظ أو غيرهما من المطربين، كما يحضر الغناء كحالة تسكن الذاتالشاعرة، يقول فى قصيدة "اعمى بيقرا كتابه.. بتصرف":
ريحة خضار طازه مهيجها المطر
ريحة مطر خمران، ومهيجاه الأغانى[8]8
فالأغانى فى هذا السياق تبدو كمركزالكون، ومصدر لكل ما يبهج الذات، فهى التى تهيج المطر وتستثيره، وهو بدوره يستثيررائحة الخضار الطازج وينشرها، ويقول أيضًا:
مش هى دى الحكايات اللى جابت داغى
وصدعت لى دماغى بالغنا والبلاغة
ونزلتنى الليالى
أوصف "لأهل الهوى، يا لليل
فاتوا مضاعهم"
"حنان الحب وقساوته"[9]9
الذات الشاعرة تؤكد أن الحكايات لمتكن على قدر الغناء، بوصفها مركزًا للكون، ومصدرًا للانتشاء واللذة، إذ جعل الغناءهذه الذات تطوف ليلاً كحامل رسالة سماوية للعشاق، تغنى لهم وتزيح الهموم عنكواهلهم.
هذه الحالة المسكونة بالموسيقىوالغناء برمتها على مدار الديوان تبدو محاولة لإبهاج الذات وإمتاعها، وإخراجها منحالة الموات الروحى التى تعيش داخلها، لكنها فى الوقت ذاته تبدو كذلك محاولةلاستحضار الغائبين، وإمتاعهم، سواء الغائبين المحددين بالاسم مثل حلمى سالم أومجدى الجابرى، أو غير المحددين من شهداء ثورة يناير، يقول فى قصيدة "اعزمهاعلى شاى.. إلى حلمى سالم":
ولما تسكن الجميلة فى الخميلة
والإضاءة تنعم
والموسيقى تعلن اقتحام الحصن
تبقى موج
فى حضن رقصة
نشوة
خالصة
ويغرق المكان فى ليل حنون[10]10
فالموسيقى بمثابة إعلان حالةالرومانسية الكاملة وتتويج لها، حيث تصبح حدًّا فاصلاً بين ما قبلها وما بعدها، إذتتحول الشخوص والأحوال إلى نسوة خالصة والليل يصبح حنونًا، كما نرى أثر الموسيقى،كذلك فى قصيدة "خطوة عزيزة.. إلى مجدى الجابرى" التى يفتتحها بقوله:
ماكانتش قصيدة
اللى تجيبك على ملا وشك
وتخليك تتحدى القوانين
وتهز جلال الموت
بالمنظر ده
فالقصيدة، بوصفها مسكونة بالموسيقىالداخلية أو الخارجية، هى القادرة على استحضار الموتى، ودفع الجابرى إلى تحدىالقوانين:
ماقدرش العيش والملح
ولا قدرت حتى العشرة تهزك
وتجيبك حى
ما قدرش عليك إلا الشعر[11]11
هكذا تعدد الذات الشاعرة الممكناتالتى كان يمكن أن تصبح ذات تأثير فى استحضار الشاعر الراحل مجدى الجابرى، مثلالعشرة والعيش والملح، لكنه لم تنجح فى ذلك، لكن الشعر وحده، بطاقته الموسيقيةالهائلة التى تسكنه، كان الأنجع فى الإتيان بالراحل وإعادته من الموت، خاصة أنهشاعر ويدرك جلال القصيدة وفاعلية الموسيقى، ومن ثم تصبح الموسيقى فعلاً حاسمًا،لكنها فى الوقت ذاته تحتاج متلقيًا لديه القدرة على التفاعل معها وفهم سحرهاوحضورها الطاغى، وليتمكن من أن ينهل من معينها الروحى، وكأنها علم للخاصة، وحالةوجد لا يصل إليها سوى السالكين المتصوفين فى محرابها، تمامًا كما نرى فى قصيدة"اسم الله يا مان":
اتلموا عليك الحبيبة وفتحولك دكان
غنيت..
والعالم غنى وراك.. فرحان
سميت الأشياء من أول وجديد
على كيف كيفك
وعزفت الألحان
سبحان من صور، سبحان[12]12
تقترن الموسيقى فى هذا المقطع بالحبوالفرح، تمامًا كما ترتبط بالفعل الثورى، وإعادة خلق العالم وتسمية الأشياء منجديد، ونلمح بطبيعة الحال التناص مع التراث الدينى فى النص القرآنى، عبر قصة آدموتعليمه الأسماء كلها.