القاهرة 11 مايو 2015 الساعة 03:30 م
تقدم مجموعة القصص القصيرة للسفير رخا أحمد حسن المعنونة "دموع البحر" تحليلا رمزيا اجتماعيا واقتصاديا وإلي حد ما سياسيا للحياة في مصر المعاصرة كما أنها تتناول علاقات الأفراد مثل الصداقة التي تتسم أحيانا بالانتهازية ، أوبوجود رغبات دفينة تتسم بالانتقام أوبالرغبة في استغلال النفوذ ، كما تناول القمع الذي تقوم به الشرطة أحيانا واستغلالها للأفراد البسطاء، في قصة "رزق الثعبان" و قصة " الحذاء الكبير". أما حالة النفاق الاجتماعي من الموظفين لرؤسائهم في قصة( اذن ثالثة) وعنفهم ضد بعضهم بعضا أحيانا كما في قصة (صاحب فضل) ومن سعي لاستخدام الرشوة لتحقيق أغراض غير مشروعة ( رياح خماسينية) ونحو ذلك .
كذلك نجد تحليلا رمزيا لإحداث المجتمع المصري المعاصر في قصة (الرجل الذي أكل الفيل) وهي تكاد تعبر عن ثورة 25 يناير2011 وواقعة الجمل الذي داس الناس في ميدان التحرير وربما يرمز الفيل للطاغية وثورة الشعب إلي الرجل و إجباره الطاغية علي التنحي وابتهاجهم لأكل لحمه بعد أن داس علي كثيرين منهم عبر عقود طويلة أما قصة ( وجبة شهية) التي تشير إلي لقاء بعد عامين من الخصام والانقطاع بين صديقين فربما ترمزإلي ثورة 25 يناير2011 التي سرقت ثم استعادتها بثورة 30 يونيه2013. في حين ترمز قصة "إشارة مرور" إلي معاناة المصري البسيط القادم من الريف للمدينة بحثا عن عمل. وقصة "هروب" ترمز للصراع داخل دهاليز البيروقراطية المصرية .
أما "قفزة في الهواء" فربما ترمز لمغامرات المصريين بالسفر للخارج بحثا عن السمن والعسل ، فلا يجدون أحيانا سوي الموت غرقا في البحر المتوسط أو الموت في بطن طائرة كما حدث للشاب الذي هرب في بطن طائرة وتجمد في الجو ووجد ميتا عندما هبطت الطائرة ، في حين قصة "متفرج" ربما تعبر عن أحلام الشباب الضائعة وهي أحلام وهمية في كثير من الأحيان للرغبة في الحصول علي مكاسب وثروة دون عمل وجهد و تعب. وتعبر قصة "ذيل الثعلب" عن مأساة الشاب المصري الذي باع إحدي كليتيه لأحد الأغنياء النصابين بحثا عن الرزق وانتهي به المطاف بالوقوع في الفخ المنصوب له فأخذ الرجل الثري كليتيه وقتله وسرق ما لديه من نقود قليلة .
ونتساءل : هل القصة تقدم تعبيرا رمزيا عن حالة الرأسمالية المتوحشة التي وعدتنا بالرخاء ولكنها أكلت الأخضر واليابس وتركت الشعب يئن تحت خط الفقر الذي وصل حوالي 45% ، ومن يعانون من الفقر والجهل والمرض يزيدون عن نصف المجتمع وأصبحنا في قاع الاحصاءات العالمية في التنمية البشرية في حين وزراء مبارك كانوا يتباهون بارتفاع معدل التنمية ولا نجد له أثرا حقيقيا علي الأرض لأن الرأسماليين والنصابين استولوا عليه وبلغت البجاحة بأكثر من وزير أن يعلن ، بلا خجل ولا حياء ،احصاءات عن البترول والغاز فإذا جمعت تتصور أن مصر هي أكبر دولة منتجة للغاز الطبيعي والبترول ، ووزير آخر إذا جمعت احصاءاته تدل علي أن مصر من دول النمور الأسيوية في التنمية ، في حين الاحصاءات العالمية تكذب هذين الوزيرين . أما التعليم والصحة والخدمات من مواصلات وطرق ومرور فحدث ولا حرج عنها جميعا.وقد تحول العرب إلي العلاج والتعليم في لبنان والأردن . وأصبحت سمعة العامل المصري في الحضيض لنقص الكفاءة وعدم احترام المواعيد وعدم الجودة وتفوق عليه العامل الهندي في دول الخليج وقد أخطأ المدعي العام الأسبق في تكييف جرائم مبارك ونظامه ولذا صدرت له البراءة فالقاضي يعتمد علي الأوراق والأدلة والوثائق ، ومن يأتي بذلك، وحاميها حراميها ،كما يقول المثل.
أما قصة "انتقام" فتظهر الصراع بين المواطنين كصراع الكلاب المسعورة التي تنتهي بقتل بعضها بعضا. في حين أن "حصاد الزيتون" تشير لمأساة الشعب الفلسطيني البائس الموعود بقيادات لا يمكن أن أجد كلمة لوصفها سواء كفائتها العالية في الحصول علي الأموال والحياة في فنادق الست نجوم ورفع الشعارات وإضاعة الفرص بحثا عن السراب ، ويحمد للقصة أنها حملت لنا لمسة أمل وتفاؤل في المستقبل للشعب الفلسطيني البطل المغلوب علي أمره مثل معظم الشعوب العربية. أما قصة "دموع البحر" فهي تعبر عن صراع الإنسان من أجل البقاء ، فهي حالة غرق سفينة ، ولا ندري هل تعبرعن حالة دولة ما وصراعها من أجل البقاء أما قصة "التعرف علي الجثة" فتحمل معني فلسفيا عميقا في بحث الإنسان عن الأمل والتعلق به أيا كان هذا الأمل ، حتي لو كان غير حقيقي مثل التعلق بالقشة في مهب الرياح.
إن مجموعة القصص القصيرة للسفير رخا أحمد حسن مشوقة للغاية ، ومن فرط صغرها لا يبدأ المرء في قراءة واحدة منها حتي ينتقل للأخري دون أن يشعر إلي أن ينتهي منها جميعا في جلسة واحدة ثم يتساءل ما معاني هذه القصص ؟ .وما الرموز التي ترغب في نقلها ؟ وكل قصة تحتمل أكثر من معني وأكثر من رمز. إنها مثل الفن التشكيلي عندما ينظر المرء للوحة المرسومة كل يفسرها حسب تصوره ولو بخلاف الفنان . ولا أدري هل يتفق السفير رخا مع محاولتي البسيطة لتفسير بعض رموز تلك القصص ، وأنا أعتقد أنه ربما لديه فكرة أخري في ذهنه لا يرغب في الافصاح عنها ، وهو ليس الوحيد فكثير من الكتاب والفنانين والمبدعين لا يرغبون في تقديم تفسير لما يفعلون. وحقا قال الشاعر أبو الطيب المتنبي:
انام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصموا
ولهذا فلن أركز علي معاني القصص ، ولا أقدم تلخيصا لها وهي بذاتها قصيرة للغاية وإنما أسوق بعض ملاحظات لقارئ غير خبير بالعمل القصصي أو الأدبي بوجه عام وهي :
الملاحظة الأولي إن القاص رخا حسن مولع بثلاثة أمور هي الرمز والصراع والأمل. وهذا تجلي بوضوح في هذه المجموعة القصصية.
الملاحظة الثانية إن القاص سجل مأساة المجتمع المصري المعاصر في أبعادها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وهو ابتعد إلي حد كبير عن السياسة ، وحسنا فعل . فالسياسة تثير الأحقاد والاختلافات وتوقع البغضاء والصراع بين الأفراد والمجتمعات ، في حين أن القضاايا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية هي أشبه بالحقائق علي أرض الواقع . السياسة أحيانا كثيرة هي أحلام وأوهام وطموحات ومطامع ذات أبعاد فردية وأنانية في معظمها ، وإن لم تخل من لمحات قومية أو وطنية أو مسعي لتغيير المجتمع لدي الطموحين والحالمين في بعض الأحيان. وأذكر أن مصر بعد ثورة يناير بها أكثر من تسعين حزبا وبعض تلك الأحزاب مكون من الزوج والزوجة والأولاد فإذا غضب الزوج من زوجته طلقها وأقام كل منهما حزبا مستقلا وهذا ليس نكتة ولكنه حقيقة في أكثر من حزب ويبدو أن المصريين بعد طول معاناة وصبر منذ عهد الفراعنة فجأة اكتشفوا السياسة ومكاسبها فتسابقوا وتصارعوا ففسد كل شىء وأصبح لديهم ما يمكن أن نسميه بأحزاب الأنابيب . كما تحول العجوز المتصابي الذي ساهم في ضياع مصر لسنوات عديدة بأفكاره وكتاباته ونصائحه يعبر عن الحكمة الضائعة ، ويصدعنا بكلامه المتقطع مثل الألغاز ويستشهد بالموتي بعد أن باع نفسه للشيطان الأكبر والأصغر وذيول الشياطين.
الملاحظة الثالثة إن رخا حسن ابن دمياط وهي ميناء عريق فهو منفتح علي الآخر ويفلسف عملية الانفتاح هذه، ويشير إليها في قصصه حيث يستخدم مصطلحات إسلامية ومسيحية دون أن يذكرها صراحة ، وهذا يمثل قمة الرمزية والحذر الدمياطي .
الملاحظة الرابعة إن القصص القصيرة هذه تمت صياغتها بأسلوب سلس وبلغة عربية سليمة ولعل ذلك فيه أبلغ رد علي كتاب العامية الذين يرون أن اللغة العربية لا تستطيع التعبير الدقيق عن الواقع المعاش لقصورها ، وقد أثبت رخا في مجموعته القصصية هذه خطأ ذلك التصور الذي روجه البعض من الكتاب، فاللغة التي استخدمها أقرب للغة الصحاقة اليومية في سهولتها و مع ذلك فهي تتسم بالجزالة والانسيابية ودقة الكلمات بلا زيادة أو نقصان وربما هذا من سمات الشخصية الدمياطية الحريصة في كل شىء.
الملاحظة الخامسة إن المجموعة القصصية ابتعدت إلي حد كبير عن الرومانسية التي هي من خصائص الأدب باختصار إنها ابتعدت عن هذا الجانب المهم في حياة الإنسان ،رغم أنها لمسته لمسا خفيفا في القصص الثلاث الأخيرة وهي "الرهان الخاسر" و " وجها البرج" ، وقصة "الاختيار الصعب" ومع هذا فقد عالجت جوانب اجتماعية ومشاكل نفسية أكثر من معالجتها الجانب الإنساني في الحب البشري.
الملاحظة السادسة وربما يتفق معي السفير رخا فيها و الأرجح أنه سوف يختلف كعادتنا في رؤية الأشياء كل من منظوره وتجربته ، وهو اختلاف لا يفسد للود قضية ، وأقول إنني لا أدري هل رخا قاص وروائي ضل الطريق إلي الدبلوماسية وتحول إلي البيروقراطية المرتبطة بالوظيفة . ثم اكتشف ما لديه من موهبة متأخرا بالرغم من أنني أعرف أنه عندما كنا طلبة في الجامعة كان يكتب بعض القصص ثم تم نسيانها أو عدم التحدث عنها منذ ذلك الحين. أم أن رخا هو دبلوماسي متميز كما حدث في تاريخه ثم اكتشف موهبته الأدبية الحقيقية في الحياة الثانية علي نسق الفلسفة الهندية فأبدع فيها وإن كان متأخرا .
وختاما أعبرعن التهنئة للقاص الدبلوماسي البارع رخا حسن وأتمني له المزيد من هذه الإبداعات القصصية التي تمثل نقطة انطلاق بعد أن تخرج من مدرسة الدبلوماسية المصرية العريقة وتحلل من قيود الوظيفة البيروقراطية.