القاهرة 06 مايو 2015 الساعة 02:29 م
بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها ،و بدأ الاقتصاد السوفيتى فى التعافى ،واجهت دور العرض مشكلة فى نقص الانتاج السينمائى الروسى من الأفلام الحديثة ،أمام الإقبال المتزايد من الجمهور الروسى على السينما، و اضطرت دور العرض لتكرار عرض نفس الأفلام عدة مرات و لفترات طويلة، و قد كانت الأفلام المنتجة حديثا ينجذب إليها الملايين من الجمهور السوفيتى، و قد قامت العديد من دور العرض بعرض أفلام أجنبية ،لإرضاء جمهورها المتعطش للسينما ، و كانت معظم تلك الأفلام من نوعية أفلام البطولات، التى تمجد تضحيات الجنود فى الحرب . و قد قدم العديد من الأفلام الأجنبية إلى روسيا من خلال الجيش الأحمر، الذى حصل على تلك الأفلام من أوروبا أثناء تحريرها من يد النازى، و قد حمل الجيش الروسى الفين من تلك الأفلام معه إلى الأراضى الروسية و لكن فرحة السينما الروسية بهذا الكنز من الأفلام لم تدم طويلا ، فقد عرضت تلك الأفلام على لجنة حكومية قبل عرضها
على الجمهور، و لم تجز للعرض العام منها سوى خمسين فيلما .
من بين الخمسين فيلما التى أجازتها اللجنة للعرض،سمحت الوزارة المختصة بالنشاط السينمائى بعرض أربعة و عشرين فيلما فقط ، تضمنت أفلاما فرنسية و المانية و ايطالية، بينما عرضت الستة و العشرين فيلما الأخرى فى عروض خاصة و قد كانت معظمها أفلاما أمريكية. و قد نالت أفلا
م البطولات الحربية نصيب الأسد من بين الأفلام، التى سمح بها للعرض الجماهيرى. و قد سمح بعرض هذه الأفلام فى الفترة ما بين عامى 1948- 1949 ،و كان من تشجيع القيادة الروسية لتلك النوعية من الأفلام، أن عرضت أفلاما أخرى من نفس النوعية لم تتضمنها الخمسون فيلما ، التى سمحت لجنة الحزب الشيوعى بعرضها .و لكن عرض بعض تلك الأفلام كان متناقضا تماما مع سياسة الحزب الشيوعى، الذى فرض رقابة صارمة على السينما فى فترة الأربعينيات، لمنع وصول الأفكار الغربية الهدامة إلى الشعب الروسى ،فقد كان بعض هذه الأفلام يحتوى على قدر من تلك الأفكار، أكبر بكثير مما يستطيع أى مخرج روسى أن يتضمنه فى أفلامه .
و بينما تراخت قبضة الرقابة عن الأفلام الواردة من أوروبا، استمرت تحيط إبداع الفنانين الروس بقبضتها الحديدية .و بينما كانت الأفلام الغربية فى دور العرض كان العديد من الفنانين السوفيت عاطلا عن العمل، بسبب الرقابة الحكومية المشددة على الإنتاج السينمائى . و قد افترض المؤرخين أن ذلك التسامح الغير مفسر، الذى أبدته الحكومة السوفيتية تجاه تلك الأفلام ،كان نوعا من سياسة إلهاء الجماهير السوفيتية ،لجذب انتباهها بعيدا عن مشاكل الإدارة السوفيتية فى ذلك الوقت . و قد افترض أخرون أن عرض تلك الأفلام ،كان له وجهة نظر اقتصادية فقد كان مدخول عرض تلك الأفلام ضروريا فى تلك الفترة ، للمساعدة فى إعادة بناء الاقتصاد الروسى .
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدأ العالم فى فترة الخمسينات نوعا آخر من الحرب هى " الحرب الباردة " ، التى كان قطبيها الدولتان العظميان فى ذلك الوقت الاتحاد السوفيتى، و الولايات المتحدة الأمريكية .و كان الكتاب الروس تحت ظل القبضة الحديدية للرقابة،يحجمون عن كتابة أعمال جديدة ،و لذلك شهدت بداية الخمسينات إنتاج عدد من الأفلام أقل من أى وقت مضى. و لكن وفاة استالين كان بمثابة انفراجة شهدتها صناعة السينما الروسية، و فى ظل قيادة " خروشوف" اتسعت مساحة الحرية، التى سمحت للسينما الروسية بالتحرر من الفورمة السينمائية المحدودة للواقعية الاشتراكية ، و هذا سمح لصناعة السينما بأن تتحرك فى نطاق واسع فى إنتاج الأفلام،التى روعى فيها الجانب الفنى و الترفيهى أكثر من ذى قبل .
اتسمت فترة ما بعد استلام خروشوف زمام الحكم فى روسيا بحرية أكبر، فخرجت السينما الروسية على العالم بأفلام على قدر كبير من الجودة، مثل " الغرنوق يطير عاليا " عام ،1957 و الذى أخرجه المخرج الجورجى الأصل " ميخائيل كلاتوزوف " ،و قد فاز الفيلم بجائزة " السعفة الذهبية " بمهرجان كان عام 1958.و مع ازدهارالحرية ازدهرت السينما فى العقدين التاليين، فأنتجت السينما الروسية العديد من الأفلام الجيدة، والتى تمثلت فيها الثقافة الروسية و منها " خطوة داخل موسكو " عام ،1963 و " الطريقة القوقازية " عام 1966 ، " الحرب و السلام " عام 1967 عن رواية تولستوى الشهيرة بنفس الاسم، و قد تكلف انتاج الفيلم 8.5 مليون روبل، و قد كان أول فيلم روسى يحصل على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية " غير الإنجليزية " .أما فى السبعينات فقد حازت أفلام مثل " شمس الصحراء البيضاء " عام 1970 و هو من الكلاسيكيات الشرقية ، "سولاريس" عام 1972 إعجاب النقاد ، و قد فاز فيلم " موسكو لا تصدق الدموع " عام 1979 بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية عام 1980 .
اتجهت السينما السوفيتية إلى الاحتفاظ بالهوية بشكل صارم، فاتسمت الأفلام المنتجة بقالب خاص يعكس الثقافة السوفيتية، و التى يصعب فهمها على غير الروس إلا بدراستها أولا، و التعرف على خصائصها. و لقد اهتم العديد من المخرجين الروس بالنجاح الفنى لأفلامهم، غير عابئين بشباك التذاكر. لذلك ظهرت أفلام عديدة على قدر عالى من الرقى الفنى، تميزت بطابع فلسفى و شعرى. و من أهمها تلك الأفلام التى قام بإخراجها مخرجين مثل " أندريه تاركوفسكى ، نيكيتا ميخائيلوف " .و لم تهمل السينما السوفيتية صناعة أفلام الرسوم المتحركة، بل تقدمت فيها بخطى سريعة وواثقة، فقد حظيت تلك النوعية من السينما على اهتمام العديد من المخرجين الروس، الذين قاموا بتجربة اساليب جديدة فى اللغة السينمائية، انتجت أفلاما على قدر عالى من الجودة و من أهم تلك الأفلام فيلم بعنوان " Tale of Tales " أو " أسطورة الأساطير" عام 1979، من اخراج يورى نورشين و قد حاز على جائزة أفضل فيلم رسوم متحركة على مستوى العالم من برنامج " animation professional from around the world " عامى 1984 ، 2004 .
عندما حل العام الستون على ميلاد السينما السوفيتية، التى بدأت مع الثورة البلشفية عام 1919قررت اللجنة التنفيذية الدائمة فى الحكومة
السوفيتية، جعله عيدا قوميا للسينما الروسية، يحتفل به فى 28 ابريل، و هو اليوم الذى وقع فيه لينين قائد الثورة السوفيتية، وثيقة الاعتراف بصناعة السينما كصناعة قومية . تلا ذلك فى الثمانينات اقرار سياسة الاصلاح الروسية " البريسترويكا " ،و التى أقرها الرئيس " ميخايئل جورباتشوف "، و هى تقوم على اعادة بناء المجتمع الروسى ثقافيا و اقتصاديا و الانفتاح على العالم الغربى ، تلك السياسة كانت تعنى أن تكسر السينما السوفيتية القيد الذى كبلت به طويلا و هو الرقابة ،و فى ظل الحرية الجديدة التى منحتها البريسترويكا للابداع السوفيتى، ظهرت أفلام " شيرنكا " و هى نوعية من السينما تماثل كثيرا " الفيلم نوار "، التى ظهرت فى السينما الأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية ،فهى أيضا أى " شيرنكا " نظرية فى السينما، تقوم على التعرض للجوانب المظلمة و السوداوية فى الحياة الإنسانية .
من تلك النوعية من أفلام شيرنكا ظهر فيلم " فيرا الصغيرة " عام 1988 ،وهو يعتبر من أهم الأفلام التى أنتجتها السينما السوفيتية منذ فيلم " موسكو لا تصدق الدموع " عام 1979 .و قد حقق الفيلم نسبة مشاهدة تعتبر هى الأعلى فى فترة الثمانينات بلغت 55 مليون مشاهد. و بالطبع أعلى ايرادات لشباك التذاكر . و قد حصد الفيلم ست جوائز، منها " أحسن ممثلة " فى مهرجان بوجوتا السينمائى بكولومبيا عام 1990 ، جائزة " أحسن سيناريو " من أكاديمية الفيلم الأوروبى فى مهرجان الفيلم الأوروبى الذى يقام فى برلين ، جائزة أحسن فيلم . كما رشح الفيلم لثمان جوائز اخرى فى مهرجانات مختلفة .كذلك حاز فيلم " تعال و انظر " عام 1985، و الذى يدور حول الحرب العالمية الثانية ،على استحسان عالمى من النقاد ، أيضا فيلم " كين – ديزا – ديزا " و هو من أفلام الخيال العلمى عام 1986 كان من الأفلام التى لاقت نجاحا كبيرا .
مع تراجع دور الرقابة فى فترة التسعينيات، بدأت الأفلام التى كانت تؤد فى مهدها لانها تنتقد سياسة الحكومة السوفيتية، و خاصة فى عصر استالين فى الظهور فأنتجت السينما الروسية فيلم " أحرقته الشمس " عام 1994من اخراج " نيكيتا ميخائيلوف " ،والذى كان يتناول حياة المجتمع الريفى فى روسيا، و تأثره بالعهد الاستالينى .و قد حصل الفيلم على جائزة أوسكار أحسن فيلم بلغة أجنبية. و كذلك من السلاسل الكوميديا ظهرت مجموعة " مميزات الصيد الوطنى " و التى تدور حول تقاليد الصيد الروسية .و فى سياق الحرب العالمية الثانية ظهر فيلم " اللص
" و هو مختلف عن الأفلام التى انتجتها السينما الروسية من قبله، فهو لم يكن يدور حول البطولات العسكرية .و لكن كان يدور حول محور انسانى عن ام و طفلها يبحثان عن الحماية فى زمن الحرب فى كنف رجل، فتسوقهما الصدفة الى لص يرتدى ملابس جندى سوفيتى ، و قد حاز الفيلم ست جوائز محلية، و جائزة خاصة من مهرجان فينيسيا السينمائى الدولى، و رشح أيضا لجائزة الأوسكار .
شهدت الألفية الثانية استكمالا لنهضة السينما الروسية، بأفلام مثل " العودة " لأندريه زفياجنزيف " و الذى حاز جائزة الأسد الذهبى فى مهرجان فينيسا، و كذلك فيلم " القوس الروسى " عام 2003 لألكسندر سوكوروف، و أيضا فيلم " مشاهد ليلية " عام 2004 و هو من أفلام الرعب . و فيلم " كيف أنهى هذا الصيف " عام 2010، و الذى حاز جائزة الدب الذهبى فى مهرجان برلين السينمائى الدولى. و فى نفس العام فيلم " أرواح هامسة "، و هو من أفلام السينما المستقلة. و قد حاز على جائزة من مهرجان فينيسا السينمائى الدولى .
هكذا خرجت السينما السوفيتية من الظلمات إلى النور، و كسرت الحرية قيودها كما تفعل دائما، فاندفعت السينما السوفيتية خلال زخم التغيير، لتعود الى ما كانت عليه قبل عصر الرقابة، و تكبيل حرية الإبداع و تقييد الفكر، تلك كانت نظرة سريعة على تلك السينما التى عانت كثيرا من القيود و المعوقات، و لكنها بقيت شامخة رغم ذلك. و كما أسهمت الثقافة الروسية فى وجدان العالم بكتاب مثل ديستوفسكى و تولستوى، وموسيقون عظام مثل تشايكوفسكى و رحمانينوف، شاركت أيضا فى رسالة الإنسانية أفلام من إنتاج" السينما السوفيتية " .